مناهضة التطبيع في فلسطين المحتلة: المايسترو الأسود.. واللحن النشاز..

مراد السوداني ـ فلسطين المحتلة

“ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا…” عمرو بن كلثوم

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1949)

إذا كانت المصانعة والتصنّع صنعة العاطلين عن الحلم والفعل، فإن “إرادة الهجوم”، هي تميمة المثقف الكفء.. المتقحّم باقتدار.. والصلب كعناد الماء وبطشه.. ولعلّنا ونحن نتبصّر في المشهد الثقافي الكابي نلمح وبوضوح حالة التردّي والانكسار والإرتكاس، حين تنحال الأرواح مسوخاً ويصير التلطّي والمواربة سياق المتاجرين بقوت الصغار الثقافي.. لقد أشاع النقيض في بلادنا بذاره المسمومة.. ففاض سخامه وغبشه، من أغذية فاسدة ومصطلحات غازية.. ولقاءات تنال منّا نيل الفأس من الرؤوس.

وأمام هذه الصورة الشوهاء من الاستباحة كان من الاجدى والأجدر بمعشر المثقفين والمشتغلين بالحقل الإبداعي.. أن يسنّوا أقلامهم للدفاع عن الطفولة المغتالة.. ومناهج التعليم التي هي على مطحنة الهرس والاستبدال.. لم نحمّل مثقفينا عبء القتال الذي تثاقل الجميع من أجله.. وإن حمل الأجدرون الشهداء، مبدعين وكتاباً سلاحهم في كل مراحل الثورة.. وهذا واجب الوجود، في الأرض المحتلة التي يعتقد ذوو الفهم اليابس أنها كاملة السيادة والسؤدد.. وعلى رأسهم حفنة من فئران الثقافة الذين منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً وهم ينخرون في جدار وعينا تزييفاً والتباساً ومداورة.. فمرّة يريدوننا اقتسام الهواء مع المستعمرة الجاثمة على قلوب الفراشات والشتول والطيور والرضّع.. ومرّة نراهم يبسطون أيديهم لنظرائهم في الكيان بغية ترويضهم واستمالتهم – قلنا : سنّوا أقلامكم واكتبوا حكاية الشجر الذبيح والقباب المنسوفة، وقصة الأرض وحكاية البلاد من أول الشرد إلى آخر البرد.

وثمّة صنف ثالث – عزيزي القارئ – من الكتبة الكذبة الذين يمسكون بذيل السياسي.. ويبرّرون له أخطاءه وخطاياه.. فبدلاً من أن يكون المثقف هو الأساس وحجر الزاوية.. يستحيل ذيلياً.. رقعة في ثوب النخاسة السياسية.. هؤلاء وهم كثر – نقرأهم يومياً يقيئون كلاماً ثقافياً بارداً لزجاً لزوجة مواقفهم النافقة.

هؤلاء الذين يتسوّلون على أعتاب القناصل ويتمرّغون في وحل الأعطيات المشروطة ومشارط المانحين.. التي تشقّ جسر الثقافة بمباضع التشويه والاستلاب.. وقد نسي هؤلاء الفأريون أنهم وشعبهم يدفعون ضريبة وجودهم على هذا التراب الحيّ العنيد..

إن إضعاف المقولة الثقافية من شأنه إرباك الموقف السياسي بدلاً من تصليب بوصلة السياسي بنقدية المثقف واستراتيجيته الحاسمة.

أمّا وقد أطلق الصديق د. عبد الرحيم الشيخ من على صفحة الأيام الثقافية مقولته حول المايسترو الأسود بارينباوم.. فإنني أجد لزاماً علي التأكيد على الرفض التام لوجود هذا العازف الملغوم باستبطان الكراهية عبر مراوغة مدانة وحرباوية لا تنطلي على كل ذي عين وسمع.. محظوظ هذا المايسترو الماكر.. فثمة في فلسطين من ينوب عنه لتبرير وجوده.. وخلق الأجواء ليكون صداحه في قصر الثقافة.. محظوظ هذا العازف وقد انبرت الكثير من الحناجر لتهلّل باسمه ورسمه.. فبأي مهزلة سنؤمن !؟

إن حالة السقوط التي ألقت بظلالها على جمهرة من المؤسسات والأحزاب والمثقفين تجعل من الحالة الثقافية الآسنة الراكدة مستنقعاً للعفونة وفساد الطبع والطبائع..

إن استضافة غير المرغوب فيه تشكّل خنجراً في جسد المقولة الثقافية التي عمل على إنهاضها مقاتلون وشهداء وحرّاس كلمة أصرّوا ومازالوا على أحد الثقافة الفلسطينية ولم يهبطوا للمّ فتات الموائد وأعطيات الاستهداف ومؤسسات الاستطالة الاستعمارية بألوانها وتشكيلاتها التي باتساع بلادنا..

ألم يأن للمدافعين عن بيرنباوم أن يتذكّروا همجية الوحش الاحتلالي في غزة ولم تثر حمُيّاً المروءة والرفض المبين وقد أهدى بلدية القدس الاحتلالية أفضل بيانو لديه.. وإنه لعجب أن نغمض عين كرامتنا عن هذا الفعل الشائن المريب !؟

إذا كانت الوقائع بهذا الوضوح.. وكان المايسترو بهذه الصفاقة فإن من المخجل أن لا تكون مداخلتنا الثقافية تجاهه على أشدّها.. لأن فلسطين دون هذا المخاتل المريب ستكون أفضل وأجمل.. وإن خطاه على أرض بلادنا ستلوّث طهارة الأنساغ ونماء الأرض الوارف..

لقد كان لماراثون المفاوضات باعه الأطول.. ولم يتحقق على الأرض سوى توالد الحواجز والاعتقال والدماء وسلالات الشهداء واستهداف القدس ذبحاً واغتيالاً للبيوت والتاريخ والحجارة الشاهدة الشهيدة. فكيف يريد دهاقنة الثقافة أن يعدّلوا مزاج هذا المايسترو ليخجل من نفسه.. سنقول له ولهم : إن شبابة رعيان بلادي تختزل فرح البلاد.. وإن زفّات الأعراس يعلو هديرها على موسيقى الغريب.. وإن ترويدة الجبال ستبقى تنازل نشازهم الوجودي.. وستظل غرزة الثوب الفلسطيني.. وبركة أيدي الأسلاف وهي تعانق الأرض تطلق غريد أغاني الحصاد وتزرع الحرية على المفارق والطرقات.

كنت أرغب أن يهبّ المدافعون عن الوافد الماكر لتأصيل مقولة البلاد ومثقفيها الذي يليقون بفلسطين وتليق بهم.. إن ما يصرف على مثل هكذا استضافة يوثّق الأدب الشعبي والفولكلور بما ينفع الأجيال ويربطها بجذورها الحقّة..

إنّ انحراف الأجندة الثقافية عبر تقليعات من يسعون لاقتلاعنا يؤكد ضرورة تسمية الأسماء بمسميّاتها دون لبس أو التفاف غثّ..

لقد طفح غثاء المقولة الداجنة.. وزحف على روض الأرواح العاطرة.. وصارت المدينة مكاناً لاستزراع فاسد القول.. وركانة الاستجلاب.. وأمام رغاء الظليين وغوغاء الإقعاء أسجّل ما يلي:

□ فلسطين أعلى من الأحزاب والمؤسسات، وكل خطاب ثقافي ينال من كرامتها مدان وسيلفظ بموقف حاسم وأكيد.

□ كل تبرير للعدو وأشياعه ومن يظاهروه في السياقات الاقتصادية والأكاديمية والثقافية يقع في دائرة الخطيئة.. فالقوي يفرض شروطه ولا يفاوض.. ومن يطمع برضى الأجندة الشوهاء سيقع في عماء وضلالة الرؤيا..

□ على المؤسسة الثقافية وجمّاع المثقفين إعادة الاعتبار لصوتهم الحقيقي وإرثهم المحروس بأهداب العيون وحبّات القلوب وأن يرفعوا صوتهم علياً ضدّ التطبيع والمجانية العدمة والهلهلة الثقافية.

□ الوفاء للآباء في الثقافة الفلسطينية بطباعة أعمالهم وتعريف الأجيال بدورهم ورياديتهم والوقوف على مشروعهم الثقافي والمعرفي.

□ استعادة الاتحادات الشعبية في منظمة التحرير لريادتها وفاعليتها وعلى رأسها دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية والاتحاد العام للكتاب واتحاد الصحافيين.. وضعفها يمكّن بعض مؤسسات الأنجزة لتكون حافلات للتطبيع.. وبدلاً من أن تكون مؤسسات المجتمع المدني، رافعة لمقاومة الاحتلال وخطابه، يسعى بعضها للوقوع بين فكّي التمويل المشبوه والركوع الباهت.

□ بالدم نكتب لفلسطين.. مقولة أطلقها الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين.. منذ قولة المفكّر العالي ناجي علوش.. ونحن كأجيال جديدة نردّد : إما فلسطين.. وإما فلسطين.. وإنه توارث الأجيال في المقاتلين كما في المثقفين على حدّ مقولة الشاعر خالد أبو خالد.. وكلما سقطت الراية الثقافية التقطها مثقف عنيد يهجس بالبلاد والسادة الشهداء وإرنان قيود الأسرى.. وجذوة الأسلاف التي تتوهّج كلّما دهمتها ريح ولفها رماد.. تعيد إنتاج توهجها إبداعاً ممطراً.. وصحواً ناغراً..

□ إذا كان “سهل الريح لا يعطي عبيد الريح زرعا”، فإن السرابيين وسلالات الوهم والخيالات العجاف الذين يراهنون على “أخلاقية” الجلاد، فإنهم لا محالة واقعون في هوّة الهاوية.. حيث السقوط لعبتهم الأثيرة.. وإنهم لخاسرون.

□ ونتساءل: إذا كان بيرنباوم يريد التضامن مع شعبنا فلماذا لم يجعل الاحتفالية في القدس ويرفع صوته ضد الاحتلال وحواجزه التي تحول دون وصول شعبنا للقدس. لو فعل ذلك سيرى كم من الهراوات سينهال عليه.. وكيف ستمنعه قوات الاحتلال ولكن “يقوى القوي بضعف مَنْ ضعفوا”.

□ لا نحتاج لبيرنباوم المُلتَبس، نحن أحوج ما نكون لزرياب الفلسطيني الذي يقدّم الجماليات العليا واللحن الأجل والأبلغ، وتراً جديداً بحجم هذه الفلسطين التي تحدّق فينا جميعاً كي لا ننساها فنُنسى…

فطوبى للأوفياء…