أوباما الموسكوبي!

عبداللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1954)

مثلما فعلها في اسطنبول والقاهرة كررها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في موسكو. هنا ومن على منبر جامعي أيضاً خاطب الروس بما كان منه تقريباً وهو يخاطب المسلمين والعرب أو يذكّرنا به. كان الإختلاف هو في مراعاة إختلاف الخصوصيات وتفاصيلها فحسب، أو تقيداً بالقول المأثور لكل مقامٍ مقال. بدأ بالإعراب عن “احترامه العميق لإرث روسيا العريق”، مطمئناً سامعيه، “لقد ولى الزمن الذي كانت فيه الإمبراطوريات تريد التحكم في الدول ذات السيادة”. وحيث حرص على أنه ينشد مصالحةً تزيل ندوب الحرب الباردة الغائرة، أخرج من جعبه الحاوي الحذق الناعم الذي يجيد ألعاب التسويق وفنون العلاقات العامة ذات أرنب العجائب الأمريكية الترويجية السبعة… الاقتصاد، “حقوق الإنسان”، الحد من غوائل إنتشار أسلحة الدمار الشامل، مواجهة أخطار التشدد، والتعاون بين الدول من دون زعزعة السيادة، وكل هذا بهدف خيري واحد هو “عالم أكثر أمناً”..!

كان أوباما الموسكوبي مثله مثل أوباما القاهري، يخاطب حضوراً نخبوياً منتقى، في القاهرة أحسن اختياره فقاطع تدفق بلاغته، التي دغدغت العواطف واستثنت العقول التي تستثني نفسها، أو تجاهلت فطنة من تجاهلوا الواقع والوقائع والجراح والذاكرة، بالتصفيق ولمرات، وفي موسكو كان حضوره أيضاً نخبوياً، كان من الأكاديميين وطلاب الجامعات، أي الشباب أو الجيل المستقبلي القادم لصياغة مستقبل روسيا… لكنما هنا مع فارق، الروس لم يصفقوا إلا في نهاية الخطاب، وبينما شغل أوباما القاهري بلادنا بما خلفه وراءه من جدل طحن أوهاماً وأحلاماً واجتهادات لم يتبدد ضجيجه حتى الساعة، لم ينشغل الروس كثيراً على ما يبدو بما سمعوه. لكنما شعبياً وفي الحالتين، أو بعيداً عن النخب هنا وهناك، يمكن القول أن نتائج حركات الحاوي الأمريكي الشاطر الترويجية كانت واحدة، هي إجمالاً اللامبالاة…

كان أوباما في موسكو وهو يخاطب روسيا الرسمية يوجه كلامه أولاً إلى الأمريكان، وثانياً لسامعيه، إذ إنه كان يريد أن يعود من بلاد فلاحي أوروبا الذين يعجز الغرب عن فهمهم بحصيلة مجزية تسهم في إسكات أصوات عتاة الكاوبوي المتغطرس في ساحته الداخلية، تلك التي تعارض حركاته المدروسة الناعمة التي ينتهجها في ألعابه مع الدب الروسي. فماذا حقق؟!

يمكن القول أن بعض الدفء قد تسرّب عائداً إلى العلاقات الثنائية بعد عوارض ثقيلة من البرودة التي شهدتها الحقبة البوشية، أو ربما تحقق بعض ما كان من بعض ما أمل الرئيس الروسي مديدف أن يكون إيذاناً ب”طيّ عددٍ من الصفحات العصيبة” فيها، أو كان أقل مما نوّه أوباما به، أي “إطلاق العلاقات الأمريكية الروسية على أسسٍ جديدة”… أما ملموس ما حققه فهو التوقيع على ثمانية إتفاقات وبياناتٍ مشتركة، وصفقات لشركات أمريكية تقدر بمليار ونصف المليار دولار، والأهم فيها كان أمرين، هما: التوقيع على إتفاقية تقضي بتخفيض ترسانة البلدين النوويتين إلى الثلث، وأخرى تسمح روسيا بمقتضاها للجيوش الأمريكية الذاهبة إلى بلاد الأفغان بالمرور جواً وبراً عبر الديار الروسية في ما مجموعة 4500 رحلة سنوياً دون دفع نفقات ملاحية، أو ما يوفّر على الولايات المتحدة، وهي تعيش أزمتها الإقتصادية، ملايين الدولارات، واستطراداَ، غض الطرف عن عودتها إلى قواعدها في قرغيزيا، البلد الذي لم يبتعد كثيراً عن النفوذ الروسي. وإذا كان لا من خلافات جوهرية مؤثرة على العلاقة البينية فيما يتعلق بالشرق الأوسط، أو حول السياسة الأمريكية في بلاد العرب عموماً، أو تلك التي إن لا يتفق الروس معها فلا يختلفون مع واشنطن من أجلها، فقد تم حل المشاكل السهلة التي تشوب العلاقات بين الطرفين، وهي إجمالاً قضايا قد لا تراها البراغماتية الروسية، وهي البعيدة راهنا عن تهمة المبادئ، تتعارض عموماً مع المصلحة الروسية… مثلاً: الروس أشد توقاً من الأمريكان لتخفيض ترسانات أسلحة الدمار الشامل، نظراً للكلفة الإقتصادية الناجمة عن الحفاظ عليها، ولما عانوه من تبعات سباق التسلح في الحقبة السوفيتية، أو هذا الذي هو أحد عوامل تسريع إنهيارها. أما الموضوع الأفغاني، فالمسألة بالنسبة للروس هنا هي مركبة، فهم قطعاً لم ينسوا مرارة ما لحق بهم هناك في الزمن السوفييتي ودور الولايات المتحدة فيه، كما لا يريدون للقوة التي تلعب قريباً من ملاعبهم إلا مثل هذا الذي لا قوة، لكنما يمكن القول أن الأمريكان نوعاً ما يقاتلون هناك نيابةً عنهم ما يعتبره الروس عدوهم أيضاً والذي يتهدد مجالاتهم الحيوية ومناطق نفوذهم في آسيا الوسطى. إذن، لا بأس عندهم من استمرار مثل هذه الورطة الأفغانية التي تستنزف هذه الإمبراطورية الكونية المستفردة بهذا العالم، وهم يتوقعون مثل الكثيرين أن الأمريكان سوف لن يحصدوا في نهاية المطاف إلا مثل ما حصدته روسيا السوفيتية هناك. هذه هي المشاكل الأسهل فماذا عن الأصعب؟!

لم تقو شحنات الدفء في العلاقة التي عانت البرودة البوشية الموروثة وأسقام الحرب الباردة التي لم يخلو جسد هذه العلاقة من موروثاتها، ولا البراغماتية الروسية الزائدة في حل واحدة من هذه الأصعب… الدرع الصاروخية المزمع إقامتها في كل من بولند وتشيخيا، التي ربطها أوباما بالملفين النوويين الكوري والإيراني، بحيث لم يبق للروس إلا المراهنة على فوز اليسار التشيخي المعارض للدرع في الإنتخابات المقتربة. تلك السياسات الأمريكية المتسللة في كل من القفقاس وآسيا الوسطى، ومنها ذاك العبث بالحديقة الروسية الخلفية في أوكرانيا ثم جورجيا، التي دعا أوباما من موسكو إلى “وحدة و سلامة أراضيها” ، أو سياسة توسع الناتو الزاحف شرقاً. مشاكل إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا والعوائق الأمريكية التي توضع أمام مشاريعها. الملف النووي الإيراني، فالروس الحريصون على الشراكة ذات المردود الإقتصادي المجزي مع إيران و الذين أيضاً وفي نفس الوقت لا يريدون أن تغدو إيران قوة نووية، سمعوا أوباما يعيد على أسماعهم بإلحاح مطلب التعاون في مواجهة الملفين الإيراني والكوري، كما لم تفتهم معاني ما استجد في الحملة الإسرائيلية المرضي عنها أمريكياً المتوعدة لشريكهم، وقد غادرهم أوباما وهو ما إنفك يقول: “علينا أن نوحد جهودنا لمنع كوريا من أن تصبح قوة نووية ومنع إيران من إمتلاك السلاح النووي”… وأخيراً، لا زال الروس يشعرون عميقاً بمهانة فقدانهم لهيبتهم ودورهم الكوني، أو ما فقدوه بإنهيار الإتحاد السوفييتي وذهاب زمن ثنائية القطبية، أو تحولهم إلى لعب الأدوار الثانوية الدولية في حقبة أحادية القطبية الأمريكية…

… سبق وأن أشرنا إلى أن الحاوي الأمريكي المفوّه، الذي ذهب إلى ديار الدب الروسي الحذر ليعرض بضاعته، قد حمل على كاهله معه خشية محاذير إثارة حفيظة الكاوبوي المعترض الذي تركه في بلاده، أما بخصوص المنجزين الأهم لرحلته الموسكوبية اللذين عاد بهما، أي تخفيض الترسانتين والمرور إلى ساحات الوغى في أفغانستان، فلا بد لنا من التوقف أمام الآتي: أن أولهما قد عاجلة لافروف وزير الخارجية الروسي فور إنتهاء خطاب أوباما التبشيري الجامعي، الذي قلنا أنه ذكَّرنا بمثيله الإستنبولي والقاهري، بضربة موجعة عندما ربطه بمسألة الدرع الصاروخية، أما الإجهاز عليه فقد يكون من إختصاص كارتيلات صناعة الأسلحة الأمريكية النهمة. وثانيهما يظل، كما قلنا أيضاً، رهن دائرة أن لا بأس بالنسبة لموسكو أو لا ضرر ولا ضرار من استمرار الورطة الأمريكية في أفغانستان، لاسيما إذا ما كان حصاد العم سام في مجاهل سفوح جبال الهندكوش لن يختلف عن حصاد الرفاق السوفييت سابقاً هناك… مع ملاحظة ذات مغزى، وهي، أن القنوات الفضائية الروسية أحجمت عن بث خطاب أوباما التبشيري، بإستثناء واحدة منها مدفوعة الأجر؟!!