خفايا وأسرار العلاقات البريطانية ـ السعودية

د. مضاوي الرشيد

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1983)

منحت محكمة بريطانية أميرة سعودية حق الإقامة الدائمة تمهيداً لمنحها صفة اللاجئة على خلفية علاقة غير شرعية مع بريطاني أدت إلى الحمل. وفتحت هذه القضية ملف اللجوء إلى بريطانيا من قبل بعض السعوديين الذين طالبوا بحق اللجوء منذ أسرار من عقد من الزمن.

وهم ما زالوا حتى هذه اللحظة لا يتمتعون بحق اللجوء حيث تماطل الأجهزة البريطانية في البت في قضاياهم. وما يزال التعتيم على أعدائهم قائماً. إذ ان المؤسسات المعنية لا توفر الإحصاءات أو المعلومات عنهم. وكلهم يطلبون اللجوء على خلفية سياسية وليست أخلاقية. كما هي حالة الأميرة السعودية. ويبدو ان الحكومة البريطانية تحاول ان تجنب النظام السعودي الإحراج من خلال إعلانها الإحصاءات أو المعلومات عن طلبات اللجوء السعودية بناء على حالة تفاهم سرية بين المملكتين، حيث تحرص المملكة البريطانية على التعاطي مع الشأن السعودي بسرية وبعيداً عن الأضواء، خوفاً من الابتزاز السعودي الذي يتطور ويتخذ أشكالاً مختلفة، منها قطع العلاقات الدبلوماسية تماماً، كما حدث عندما عرضت الصحافة البريطانية قصة أميرة سعودية لها علاقة مع أحد العامة. فكان فيلم ‘موت أميرة’ الذي عرضته القنوات التلفزيونية البريطانية سبباً في تأزم العلاقة بين المملكتين، بعد فشل بريطانيا في الضغط على صحافتها ومنع عرض الفيلم. لذلك تتستر بريطانيا على الفضائح السعودية دوماً خاصة إذا كانت مثل هذه الفضائح تطال المسؤولين الكبار. ومن هنا جاء قرار بلير عندما كان رئيساً للوزراء بإنهاء الجدل حول الفساد في صفقة اليمامة ومنع تطور البحث في القضية إلى درجة كشف أرصدة كبار المسؤولين السعوديين وفضح اكبر عملية رشوة وفساد في تاريخ العلاقات التجارية المرتبطة ببيع الأسلحة والمعدات والطائرات إلى السعودية. ورغم أن بريطانيا تحتفظ بعدد من المعارضين السعوديين على أراضيها، إلا أنها حاولت التخلص من بعضهم عن طريق النفي إلى بلد ثالث. تماما كما حصل للمعارض محمد المسعري في التسعينات. ولكن موقف المحاكم البريطانية ضد هذا القرار أوقف عملية النفي دون أن يؤدي ذلك إلى البت في قضايا اللجوء السياسي بشكل صارم يجعل من إقامة هؤلاء على الأراضي البريطانية حالة شرعية ومنظمة وفق القوانين الدولية المتعلقة باللاجئين حسب الاتفاقيات العالمية ومواثيق الأمم المتحدة.

أعطت المحكمة التي بتت في قضية الأميرة السعودية الحامل رسائل واضحة وصريحة، أولها أن حكمها سيكون حاسماً في القضايا الأخلاقية والتي تهدد حياة الجانح كالزاني والشاذ، أما في القضايا السياسية التي على أساسها قد يتعرض الإنسان للقتل أو السجن أن عاد إلى بلاده فسيكون الحسم فيها للقرار السياسي البريطاني وليس القانون. ورغم أن بريطانيا تعلم مصير هؤلاء في بلادهم تماما كما تعلم كيف يعامل سجناء الرأي في السعودية إلا أنها تفضل حسم قضاياهم سياسياً تبعاً للمصلحة البريطانية فتتم المماطلة في البت في ملفاتهم بل حتى التحفظ على إصدار الإحصاءات تماما كما هو متبع إزاء اللاجئين من دول عربية أخرى. فلا تتردد الأجهزة المعنية البريطانية في نشر أعداد هؤلاء بينما يظل السعودي اللاجئ رقماً مجهولاً بعيداً عن الأضواء لما في ذلك من حرج قد يقع على النظام السعودي هذا الطفل المدلل في أجهزة الحكم البريطانية لما يملكه من قوة شرائية وثقل تجاري حيث التعامل معه يبدأ بالدلال والاحتضان وينتهي بإخفاء تقصيره بل حتى فساده وقمعه الذي يطال شرائح كبيرة من المسؤولين في الداخل السعودي.

وظهر ذلك بوضوح في حوار مع احد المسؤولين البريطانيين عندما قال بالحرف الواضح والصريح ان قضية تعذيب المساجين حتى البريطانيين في السجون السعودية تظل قضية هامشية لن تعكر صفو الود بين المملكتين. وعند بريطانيا ملفات مطولة عن هذه القضايا لكنها تظل مخفية ويفضل التعاطي معها بسرية حتى لا تتأزم العلاقة بين البلدين نتيجة خروج مثل هذه القضايا إلى العلن.

الرسالة الثانية التي توجهها الحكومة البريطانية مفادها أن سجناء الرأي والحراك السياسي لن يجدوا ملاذا سهلاً في بريطانيا حيث سيظل هؤلاء في حالة متأرجحة وان لم يتم طردهم إلى جهة ثالثة. إلا أنهم لن يحصلوا على حق اللجوء وسيظلون معلقين لا يحملون وثائق رسمية تمكنهم من العمل كمواطنين يتمتعون بحقوق كحقوق اللاجئين ولن تمنح لهم وثائق رسمية ولو بعد عدة سنوات رغم شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها بريطانيا والتغني بكونها ملاذا تاريخياً للمنادين بالحرية والعدالة في بلادهم. حيث تتوقف هذه الشعارات وتسقط على عتبات الخزينة السعودية وقدرتها الشرائية الكبيرة. ولن تفتح بريطانيا أبوابها للمنادين بالتغيير السياسي أو الإصلاح في بلد كالسعودية لأن هذا بالطبع سيؤدي إلى إحراج السعودية وتأزم علاقتها مع بريطانيا. فما أسهل أن تحتضن بريطانيا حالات الزنا والشذوذ من أن تمنح حق اللجوء لمناضل سياسي أو ناشط حقوقي.

هذه رسالة واضحة وصريحة لطيف كبير من السعوديين الذين يضطهدون في بلادهم نتيجة انخراطهم في عمل سياسي كالدعوة لمظاهرة أو عملية احتجاج سلمية أو كتابة عريضة إصلاحية يجدون أنفسهم بعدها في سجن طويل الأمد دون محاكمة ويعللون النفس بمكرمة ملكية تنقذهم من انعدام المحاسبة والقانون في بلادهم. وان استطاع احدهم أن يخرج من البلاد ويأتي إلى بريطانيا فسيجد أمامه سلسلة طويلة من الإجراءات البيروقراطية والمماطلة السياسية والتعتيم الإعلامي على قضيته الإنسانية. يبقى حق اللجوء السياسي معلقاً على المصالح الإستراتيجية وليس على سيادة القانون والمواثيق الدولية كما هو مفروض. وتستغل السعودية ثقلها النفطي وقدرتها الشرائية لابتزاز أقدم الديمقراطيات في العالم كبريطانيا وتجبرها على التعاطي مع الشأن السعودي بالسرية والمراوغة حيث تقارب المصالح يمنع المملكة البريطانية من فتح الملف السعودي والتعامل معه بشفافية واضحة وصريحة تعلم بريطانيا أن لها أسرار من ثلاثين ألف عامل في السعودية ومصالح تجارية وأمنية تقدر بالمليارات وهي غير مستعدة لأن تقوض هذه المصالح بسبب قضايا اللجوء أو انتهاكات حقوق الإنسان. وتمكن مقارنة الموقف البريطاني من هذه القضايا بموقفها من قضية اللاجئين العراقيين في التسعينات عندما تغيرت العلاقة بين بريطانيا والعراق بعد غزو هذا الأخير للكويت حيث لم تكتف بريطانيا باحتضان المعارضة العراقية في المنفى، بل كانت توفر لهم الحماية الأمنية خلال مؤتمراتهم في فنادق لندن الشهيرة والدعم المعنوي والمادي بالإضافة إلى وثائق السفر التي تمكنهم من رحلات بطوطية بين لندن وواشنطن خلال أسرار من عقد مهدّ لغزو العراق وإعادة لاجئين ليحكموا بلادهم بعد غياب دام نصف قرن أو أسرار.

المنفى للسعودي في بريطانيا عملية صعبة تحكمها المصالح السياسية إلا إذا كان المنفي أميرة جانحة تخاف من إقامة الحد وفضيحة تطال النظام. عندها سيهرول الدبلوماسيون البريطانيون لإنقاذ هذا النظام تحت شعار حقوق الإنسان أو إذا كانت القضية تتعلق بكشف حسابات بنكية تتكدس بها أموال الرشوة والفساد عندها تقف شعارات الشفافية أمام جدار الصمت والتعتيم.

سيظل النظام السعودي محصناً في الخارج البريطاني ومحمياً من النقد من قبل المؤسسات الرسمية البريطانية. ولولا الجهد الذي تبذله بعض الصحف البريطانية المستقلة والمحاكم النزيهة والتي تخرج عن سلطة المؤسسة السياسية لبقيت السعودية وشأنها مجرد عملية سرية تتكاتف الجهود لإبقائها خارج النقاش والنقد. وسيستمر الوضع كذلك حتى إشعار آخر أو تغيير المصالح البريطانية السياسية. وهذا أمر مستبعد خاصة وان بريطانيا تمر بحالة اقتصادية عصيبة وعجز مالي كبير مما يجعلها تتطلع لعملية إنقاذ قد تساهم الأموال السعودية في تحسينها. وهذا بالفعل ما حصل عندما طاف غوردون براون على العواصم الخليجية ومنها السعودية طلباً للإنقاذ وحصة من الفائض المالي الذي تراكم بسبب زيادة أسعار النفط والاستثمارات التي لا تستوعبها السوق المحلية.

نأمل أن لا تتحول بريطانيا والتي تفتخر بحرياتها وسيادة القانون إلى ملاذ لهاربات من مجتمعهن على حساب المناضلين الذين يطمحون إلى تغيير جذري في بلادهم ويعانون بسبب مواقفهم السياسية من الاضطهاد والقمع. وان تتعاطى مع قضية اللاجئين السياسيين بشفافية وعدل بعيداً عن المماطلة. إذ أن انتظار هؤلاء قد طال وقضيتهم يجب أن تحسم من منطلق إنساني وليس سياسياً. يحصل هذا عندما تتحرر المملكة البريطانية من ابتزاز النظام السعودي وعملية الضغط التي يمارسها مقابل استمرار حالة التعتيم والسرية المفروضة على العلاقات بين البلدين. لقد نجح النظام السعودي بفرض نفسه كنظام محصن على الجميع احترام ما يسمى بخصوصيته، وما هذا إلا شعار مستهلك فارغ، فهو كغيره من الأنظمة القمعية يفرز لاجئين سياسيين ومعارضين لمسيرته، وحتى هذه اللحظة لا يلقى هؤلاء سوى مصير المنفى في مملكتين.