جميلة بوحيرد: بهية أنت في المعتقل …مضيئة في عمق المرض

علاجك بالموقف والكرامة

عادل سمارة ـ رام الله المحتلة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2104 )

الإسم جميلة بو حيرد

والعمر اثنان وعشرونا

في السجن الحربي بوهران

والرقم اثنان وتسعونا

العينان كقنديلي معبد

والشعر العربي الأسود

كالليل كشلال الأحزان

امرأة من قسنطينة

لم تعرف شفتاها الزينة

لم تعرف كنساء فرنسا

بيت اللذة في بيجال.

نزار قبّاني

غطت وسائل الإعلام في الأيام الفارطة صرخة سيدة الجهاد، جميلة بوحيرد، وملخصها التالي:

((إخواني وأخواتي الجزائريين الأعزاء

إنني إذ أتوجه إليكم بهذا الخطاب اليوم، فذلك لكونكم تمثلون هذا الشعب المتنوّع والدافئ والمعطاء الذي أحببته دوما. واليوم، أجدني مضطرة لطلب مساعدتكم.

اسمحوا لي أولا أن أقدم لكم نفسي: أنا جميلة بوحريد التي حُكم عليها بالإعدام في عام 1957 من طرف المحكمة العسكرية في الجزائر العاصمة.إنني أجد نفسي اليوم في وضعية حرجة، فأنا مريضة والأطباء طلبوا مني إجراء 3 عمليات جراحية خطيرة وجد مكلّفة لا يمكنني التكفل بها، سواء تكاليف الإقامة في المستشفى والعمليات الجراحية والعلاج والدواء والإقامة في فندق، حيث لا يسمح لي معاشي الضئيل والمنحة التي أتقاضاها بسبب حرب التحرير بالتكفل بكل هذه النفقات.

ولهذا، أطلب منكم مساعدتي في حدود إمكانياتكم.

مع تشكراتي لكل الأخوات والإخوة الجزائريين وحناني الأخوي.

جميلة بوحيرد))

هكذا عرفها العرب منذ خمسينات القرن الماضي، ومنها عرفوا الجزائر والثورة والمليون شهيد، ومشروع اشتراكية التسيير الذاتي واحتضان مؤتمرات العالم الثالث والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، وملتقيات ثوريي العالم من جيفارا إلى بن بركة. ولاحقاً الانحراف البيروقراطي العسكريتاري ل بو مدين، والانتهاء إلى الكمبرادور، فالتبعية، وفساد القيادة البيروقراطية التي نخرها الفساد، وصراع الجيش على السلطة مع الإسلاميين رغم انتخاب الشعب لهم وهو لم ينته بعد، وعودة الاستعمار المزدوج هذه المرة الفرنسي والأميركي. هكذا لوحة الجزائر اليوم، وبصرخة سيدة المجاهدين/ات يمكننا القول إن اللوحة تراجيدية.

هي إيقونة الجهاد أولاً، النضال الذي يتحدى الذكورة فتقف المرأة على قدم المساواة وأكثر مع الرجل، رغم أنفه! هنا، في القتال تتضح قدرة المرأة على المساواة، وأي ميدان آخر هو ممكن للمساواة، وليس إلا رفاهاً بالمقارنة. وهي ايقونة الاستمرار الثوري، عدم التوقف. وربما كان هذا أهم من ممارسة النضال العالي لفترة محدودة، الحياة مقاومة الحياة ثورة. الحياة تغيير بأيدينا. فأخطر ما يقع فيه المناضل هو أن يتوقف أو يتراخى. بالتراخي والتوقف ، فما بالك بالفساد، يفقد الثوريون النقل والنقد. نقل التجربة والبطولات، ونقد الأخطاء، ويتحول النضال إلى صور لغوية على رقائق صفحات صفراء. لهذا بقيت جميلة دهشة دائمة وتوهجاً يوحي بالشباب وهي في لحظات الرحيل هكذا يجب أن نكون، ليس من اجلنا وحسب، بل ليعمل القادمون مثلنا وأكثر.

لأن جميلة ثورة دائمة، لم تتسلل ليلا ولم تتوسل حراس قصر بو تفليقة لتطلب حاجتها، بل ألقت قنبلة الموقف لوجه العالم، وأنظمة التبعية مجسدة في النظام الجزائري. لذا رفضت بادب “سخاء” أمراء الخليج، حيث تقول الصرخة:

وقبل أن أنهي رسالتي، أريد أن أشكر بعض أمراء الخليج العربي الذين أعتبرهم إخواني من أجل سخائهم وتفهمهم، حيث عرضوا علي بعفوية وكرم التكفل بكل النفقات العلاجية، لكنني رفضت عرضهم.

ولست أدري إن كانت جميلة تعلم أن 2 تريليون دولار هي أموال صناديق السيادة لبلدان النفط العربية قد تم الإلقاء بها في محرقة الأزمة المالية في الولايات المتحدة لتطفىء الأزمة هناك، بينما يجوع في الوطن العربي حتى رموز الجهاد والحرية. وسواء أتقنت الاقتصاد السياسي أم لا، فهي كما يتضح تفهم جيداً “الاقتصاد السياسي للفساد” ومخاطره، وتعلم أن الأمراء يتبرعون بما ليس لهم، لم ينتجوه، بل لم يستثمروا بما يغرف رَيْعاً من بطن الأرض، وليسوا الأوصياء الحقيقيين على ذلك الريع، فما ابهاك سيدتي وأنت ترفضين. فمن واجه مشنقة الغاصب الفرنسي، لا بد أن يواجه مثلبة الانتفاخ الريعي بالأموال الكسولة[1].

ولا شك ان جميلة تعلم أن تقدير وتثمين واحترام المجاهدين لا يُستساغ لدى تابعي العولمة، لذا، القت عليهم قنبلة تحريك الشارع، كأنها تحيي ذكرى حرب التحرير. وكل واحد يعيد هذه الذكرى بطريقته. هكذا فعل الطاهر وطار.

المجاهدون يعودون

كتبت رسالة إلى صديقه بالبريد الإلكتروني في ساعة متأخرة من ليل/ومبكرة من صباح يوم عيد الأضحى الأخير، وفوجئت بها لم تنم.

– هل انت صاحية؟

– نعم

– لِمَ

– أصحو مبكرة ايام العيد، أتذكر الشهداء، كنا نزورهم صباح العيد.

وأرسلت لي رائعة الطاهر وطار (الشهداء يعودون)، التي تتحدث عن الشهداء وعن المجاهدين الذين لم يرحلوا بعد، وعن ضيق حالهم. لتأتي جميلة بوحيرد اليوم فتعيد كتابة رائعة الطاهر وطار كتابة على الرصيف حيث حوَّلت الناس إلى جماهير واسعة من الأقلام تتحدث بدل أن تكتب، وتعيد تلوين/تطريز الشارع بالدمْ.

كتبت للصديقة: سيدتي…لم يمضِ الشهداء، إنهم هنا يراقبوننا ويسخرون منا، ويبكون!

بطر العولمة وتوابعها

مرة أخرى كتب نزار:

في عصر زيت الكاز يطلب شاعر ثوباً وترفل بالحرير قحابُ

لذا، كأي نظام حكم عربي، يصر النظام الجزائري على تكسير صورة الشهادة، فيُرغم المجاهدون على بيع الخمور، وتسويق اوراق اليانصيب، كمن يقول للأجيال القادمة لا تحتجوا ولا تناضلوا…كي يكون “نصيبكم افضل”! فهو كمختلف الطبقات الحاكمة التابعة في هذا الوطن، تعذبه ذكرى الشهداء، لأن القيادة التي عاشت، عاشت لأنها خانت، ويعذبه الأحياء من المجاهدين، لأنه يرى فيهم صورة عجز إن يكون مثلها، صورة التجلُّد والصمود، فالثورة لا تتصالح مع الفساد.

ليست الطبقات الحاكمة في الوطن العربي بآبهة بالمجاهدين ولا الفقراء، فهي تتقلب بطراً في أحضان العولمة. لم تترك معصية إلا وفعلتها وبإتقان. فابواب ما تسمى “القرية العالمية” مفتوحة لمن يبغي ويستطيع دفع كلف الموبقات. وبهذا لا يبقى ما يُقدَّم للمجاهدين سوى بُلْغة العيش الوضيع.

فاجأني وكنت يوماً في برلين ازور طبيباَ صديقاً لي.. تحدثنا عن التأمين الصحي هناك، في ذلك البلد الثري في الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، وحتى العنصرية، فاجأني بقوله إن التأمين الحكومي يطالب الأطباء بان يعطوا كبار السن علاجات اقل نجاعة وكلفة من التي تُعطى للشباب، لأن الشباب ما زالوا يعملون أي يُنتجون لصالح رأس المال، بينما الكهول متقاعدين، فلا باس لو تألموا أو عجَّل الله باستضافته لهم. رأس المال ـ حتى الإنتاجي ـ لا يعرف الإنسانية فما بالك براس المال التابع!

بيان العشرين

في مناخ مشابه من حيث الفساد، ومختلف من حيث الوضع القُطري، حضرني بيان العشرين في الأرض المحتلة عام 1999، الذي فضح سلطة الحكم الذاتي التي فسدت وافسدت بدون استقلال ولا تحرير. كان الأهم من البيان، ذلك الحراك الشعبي العفوي الذي تجسد في قيام الناس أنفسهم بتصويره وتوزيعه بأعداد لا تُحصى، كأنما هو تعويذة لحماية المقاومة من آفة الهرولة والانحراف. وقد يكون من ألمع الملاحظات حينها كما قيل لي، ان مثقفين كثيرين تقاعسوا عن توقيع ذلك البيان الذي كان يحمله الشابات والشبان يطوفون به شوارع المدن المحتلة.

ما أكثر ما يجب أن يكون بيان باسمهم وحراك شعبي من أجلهم. الشهداء والشهداء الأحياء في المعتقلات. وقد يكون أحد ألمعهم كارلوس. كم واحد منا فكَّر بزيارة الرجل الذي طاف العالم وهو يُطارد أعداء الحرية، إلى أن أُوقع به من نظام عربي، يذكر اسم الله ليل نهار، وذلك تقرباً من طواغيت الغرب والمال الذين يحسبون على الحواسيب كم سيقبضوا لو تمكنوا من اغتيال الله! لو كانت إقامتي بباريس طويلة لزرته، فالبيروقراطية تتقاطب على هكذا علاقات كالفطر.

أما المجاهدون هنا، فحالهم يا سيدي الطاهر وطار أكثر بؤساً. لقد رايت بأم عيني احد المناضلين الذي حكم مؤبداً وخرج مرفوع الجبين بالتبادل في عملية تبادل القيادة العامة، رأيته يقف حارساً على منزل سيدة ضالعة في التسوية والتفاوض والوزارات…الخ. أي تمريغ للكرامة في الوحل. ورأيت أحد زملائي إبان المقاومة وهو الأقدر والأشرس والأبسط منا جميعاً حارساً في “مكان” يملكه عميل مرفوع إلى أس 4. كانت صدفة أن التقينا بعد دهور:

ـ أنت الذي كنت في 67 رفيع وطويل وتنط مثل القرد في وادي القلط…

قلت: نعم،

قال: وصرت كاتب

قلت: تقريباً

قال : شايف حالي؟

أطرقت وسكت.

هكذا ردَ المعتصم

حين اعتدى الروم على أحد الثغور العباسية صاحت أخت العرب “وامعتصماه”! فجرَّد المعتصم جيشاً ليؤدب امبراطور الروم. أما اليوم، فنظير المعتصم تابع لامبراطور روما الجديدة؟ فمن هو المعتصم اليوم!

نظر كثيرون من أهل طيب النوايا إلى صرخة سيدة الجهاد بالاستعداد للمساهمة في علاجها حتى بالفلوس المعدودات من قوت ابنائهم، وصرخ آخرون شتماً وركلاً للأنظمة، وربما بكى البعض.

لكن المطلوب في موقف كهذا، وما أكثر المواقف كهذا في الوطن العربي، المطلوب التعاطي مع سبب مشكلة الوطن وليس مع جراح أفراد حتى وهم قديسين.

لا بد من تخليص ثروة الشعب من ايدي من وضعوا ايديهم عليها. ولكن كيف؟

يمكن لمن أراد أن يحصل على أكوام من جبال خطط الحكومات القُطرية في الوطن العربي، خطط التنمية والتحديث وحتى التخطيط والنجاعة والأمن الغذائي والقومي …الخ. لكن هذه كلها جُرِّبت على الورق ولم يتم تجريبها على الأرض وهي معتدلة جداً.

وما اقصده تحديداً، أن ما آل إليه الوضع العربي، يتجاوز بما لا يُقاس نهج الإصلاح والترقيع و “أعطه يا غلام مائة ألف درهم”. وحيث لا تحتمل مقالة محدودة كهذه رؤى استراتيجية ولا تفصيلية بالطبع، فإن ما تدفع إليه صرخة سيدة الجهاد هو أمر التغيير بمعنى النسف والتجذير بلا مواربة، وهي تنقسم إلى عنوانين عريضين:

الأول: بلورة قوى سياسية تعمل بجدية على تفكيك مفاصل أنظمة الدولة القطرية، ووضع يدها على السلطة والثروة لتكن باسم الأكثرية الشعبية، الطبقات الشعبية.

والثانية: إلى ان يصبح الشرط الأول ممكن التحقيق، إلى أن يتحقق، لا بد من خلق البدائل الموازية للسلطات القطرية. بدائل من نمط:

□ التثقيف بالتنمية بالحماية الشعبية، النموذج الذي تنخرط فيه الناس جميعا في العملية الانتاجية على اساس تعاوني كمدخل وبوابة للمشروع الاشتراكي. هو نمط من حرب الشعب التنموية الشاملة بما فيها الثورة الثقافية التي تعيد تربية وتثقيف الناس بالرفض والنقد والاحتجاج والاشتباك.

□ الشغل على اقتصاد آخر، اقتصاد الطبقة بدل ما يسمى بالاقتصاد الوطني، الذي هو اقتصاد طبقة، اقتصاد الكمبرادور والريع والعائلة المالكة الملكية والجمهورية لا فرق. واقتصاد الطبقة هو اقتصاد يضع اسسه الفكرية حزب ثوري، يتم تحميله هذا المشروع من قبل برلمان شعبي دائم الانعقاد ومكون من ممثلي القطاعات الشعبية كل قطاع حسب حجمه العددي، ويكون نصفه للنساء. ملخص القول أن هذه القاعدة الشعبية ممثلة ببرلمانها هي التي تكلف الحزب وهي التي تسحب تكليفه.

□ وللحصر والبدء بالمشروع يجب أن يتم فرديا وطبقيا شكلٌ من اشكال الانسحاب الطبقي (الطبقات الشعبية إلى الداخل) على اسس:

□ ثقافيا: الوصول إلى أن سلطات الحكم أي مؤسساته ليست قابلة للإصلاح قط، وأن كل مثقف لا يدخل الاشتباك الشعبي ليس إلا فطراً على جسد الطبقة، فليست الثورة لغة ولا كلام.

□ سياسياً: أن تبدأ مقاطعة مؤسسات الحكم بأعلى درجة ممكنة.

□ اقتصاديا: حصر التعاطي الاقتصادي مع الأشكال النووية لمشروع التنمية بالحماية الشعبية. ومقاطعة منتجات المركز الإمبريالي والكيان الصهيوني والكمبرادور المحلي، اي الانسحاب إلى الداخل استهلاكيا.

□ والانسحاب إلى الداخل شغلاً، بمعنى تشكيل استشاريات عمالية/مجالس عمال، تدعم مؤسسات التنمية بالحماية الشعبية، وتقيم مثيلات عديدة لها لتشغيل من يقاطعون مشاريع الكمبرادور.

وهذا بأكمله يصب في النهاية في الخيار الاشتراكي دون مواربة، بمعنى أن ما ذُكر اعلاه هي مقدمات عملية وموضوعية لجعل الخيار الاشتراكي قابلا للتجسيد.

ليس هذا المشروع مجرد استجابة منفعلة مع صرخة سيدة الجهاد، ولكنه مشروع موجود موضوعيا، وليس امامنا إلا جعله موجودا لذاته وبالفعل.

لا بد من التأصيل في وعي الشعب أن الطلاق بين مؤسسات الحكم العربية هو طلاق نهائي لأن الطبقة الحاكمة تتمترس في خندق مضاد للطبقات الشعبية، وإلى جانبها مثقفوها العضويون مقابل مثقفي الطبقات الشعبية العضويين، وما بينهما مثقفو الكلام الذين هم مع الطبقة الأولى شاؤوا أم ابوا، فبرد الزنازين والإكسات لا يتصالح مع دفء المنزل والمقهى..

سيدتي الجميلة، هكذا يرى مواطن عادي تماماً وعربي تماماً وطبقي جداً ، العلاج لما اصابك وأنت في حمأة الوغى. ورسالتك ليست مختلفة مع هذا القول. يقول روبسبير، احد قادة ثورة برجوازية فرنسا التي ذبحت القطر الجزائري:الجرأة أولا، والجرأة ايضاً، والجرأة ابداً. وهكذا أنت الجرأة والمقاومة كحياة.


[1] بالمقابل، دفعت الصين للولايات المتحدة تريليون دولار، لكنها مقابل ذلك وسعت حصتها من سوق الولايات المتحدة، وأخذت مقابل هذه الأموال سندات على حكومة الولايات المتحدة، وابتلعت في بطنها هيولي الاتساع شركات أميركية وخاصة السيارات لتصبح ورشة لأميركا. صحيح أن هذا على حساب فائض القيمة المتحقق من عمال الصين، ولكنه على الأقل ثمناً، مرفوض طبقياً لكنه ثمن! ما الذي أخذه أمراء الخليج؟ بل الخليج لا يمكنه التحول إلى ورشة بغياب قاعدة تقنية للصناعة وبغياب طبقة عاملة!