من حقي أن أقاطع

خالد الغول

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2123 )

إن كان التطبيع يأتي لنا بكل هذه البهرجة ويهيئ لنا منشطين ثقافيين متنوعين في انتماءاتهم التاريخية وماضيهم القريب والبعيد، ويوفر لنا تصاريح زيارة تفضي للانفتاح وكسر العزلة تحت وابل من الأقمار الصناعية. ويبني لنا جسوراً وممرات اليكترونية محمية بالتنسيق، فلا ضير في ذلك.

المهم أن يكون لديك بنية تحتية ومال وبرنامج وعلاقات، وبعد ذلك يصبح كل حدث إبداعا، وكل مبادرة مواربة بنداً في المشروع الوطني. وكل تأتأة بيانًا ثورياً، وكل كرنفال شرعية مطلقة.

المهم أن يكون لديك جواز سفر ساري المفعول طوال العام، وألا يكون هنالك معيق أمام تحركاتك وسفرك إلى أقصى بقاع الأرض، من بلاد العم سام إلى مدن الوصاية العربية التي نلعن شموليتها ليل نهار… من كان يمتلك مهارة الاستدراج الماكر سياسياً وثقافياً في هذه المرحلة فهو سيدها بامتياز.. هنا مربط الفرس… منذ أوسلو والشعب الفلسطيني يستدرج بمكر مدروس إلى الانبهار بالتطبيع، بما يمتلك من مقومات وإمكانيات وبيزنس..
بهدوء وانسيابية يأخذ الاستدراج مجراه ويخوض حربا شعواء ضد من يقول من حقي أن أقاطع أو أن اختلف عن القصبة أو ما شابه، دون أن أتهم بالإرهاب الفكري أو أتهم بمحاصرة الشعب الفلسطيني.

إن حربا معلنة ومباشرة وصريحة في عدائيتها، تأتي في إطار برنامج للمواجهة المفتوحة والتصعيد الاستقوائي بمرجعيات الأمر الواقع. وتفتح نارها على المناهضين للتطبيع اقتناعا من المستفيدين من التطبيع بأن الفرصة أصبحت مواتية حاليا للإجهاز على هذا السور العالي والباب المقفل بإحكام أمام مشاريع ومبادرات التطبيع المريبة.

إن تحويل التطبيع إلى أحجية، والدخول في دهاليز البحث عن المقاصد والمعاني المحتملة، هو محاولة مكشوفة للتضليل وتضبيب الرؤية، وحرف المسارات، وافتعال المعارك الجانبية، واستدراج الناس والمجتمع وأصحاب الشأن المباشرين إلى مواقف ووقائع تتحول إلى حقائق جديدة من صنع النهج الاعتباطي الذي اعتاد على خلق الأمر الواقع، ثم مطالبة الآخرين باللهاث خلفه بدل مساءلته والتحقق من مدى تجسيده للمشروع الوطني… لما طال انتظار المستفيدين من المشاريع التطبيعية، وفقدوا صبرهم وانتابهم شعور باليأس من احتمالات تغيير الموقف من التطبيع- على اعتبار أن هذا الموقف يشكل قيداً على مشاريعهم ومصالحهم- بادروا إلى شن حربهم الشرسة هذه هادفين إلى حشر الطرف الآخر في الزاوية وإبرازه كمتهم عليه أن يدافع عن نفسه ويثبت براءته من التهم المنسوبة إليه… إن الموقف الواضح من التطبيع كما يتبناه المناهضون للتطبيع لم يتغير ولم يتبدل، وهو الموقف المبدئي الذي يلتزم به المثقفون والمبدعون العرب.

من الطبيعي أن يكون هنالك تواصل وتفاعل كبيرين وحوار مفتوح مستمر بين المثقفين العرب والفلسطينيين من أجل صياغة مواقف متجددة حول المتغيرات والتفاعلات وتقييم المواقف وفحص الخيارات واستخلاص العبر بشكل علمي ومنطقي وعقلاني مبني على أرضية المصلحة الوطنية والقومية. ولا بد أن يقوم الحوار المفتوح والدائم على أسس ومعايير لا يتم تبديلها أو تعديلها إلا بالاتفاق والتفاهم ودون تحايلات أو خروق لما اتفق عليه، خصوصاً وأن الموقف المبدئي الذي لم يتغير بعد من التطبيع، هو في جوهره وعناصره موقف المثقفين والمبدعين العرب ذوي الرصانة والرقي والتميز الإبداعي والفكري، وذوي المواقف الوطنية والقومية، وأن هؤلاء المثقفين والمبدعين لم يبادر أي منهم حتى الآن إلى خرق هذه المواقف أو التحايل عليها تحت أي مبرر أو مسوّغ. (من أكثر شهوة من مارسيل خليفة للارتماء في أحضان جماهيره في قلب القدس؟.

يدرك بعض المثقفين العرب والفلسطينيين أنهم بالنسبة لمثقفي (الحياة مفاوضات) خشبيون ومنغلقون ومتطرفون ومغامرون وعدميون وقومجيون ورفضيون ومعاكسون للتيار، ومغردون خارج السرب. لكنهم لا يرتعدون من هذه التهم الجاهزة، ويدركون في المقابل أنهم ليسوا في موقف الدفاع عن أنفسهم، بل على العكس تماماً. وأنهم لن ينكفئوا هرباً من تهمة التخشب والانغلاق، أو لهاثا خلف الفرص والأبواب المفتوحة، أو انعتاقا من الجمر المقبوض عليه طويلاً بين اليدين. وسيظلون يقاطعون ويناهضون التطبيع ومؤسساته ورموزه، ولا يكتفون بالمقاطعة، بل ينشطون في حملات المقاطعة المنظمة والمستمرة أيضاً.