جناية السخف الثقافي…. ومرحلة التهويد

أحمد حسين

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2204 )

تجربتنا المعاصرة مع الآخر ومع التاريخ، تتميز بالعنف وفرادة العدوان إلى حدود غير مألوفة، سواء من حيث آليات التناول التي حشدها الآخر المتفوق والمدعّم بالمرحلة، أو من حيث المزاج العدواني أو المستخف في مرايا الثقافات الحواضرية المتحكمة للغرب. كانت دوافع المصلحة لدى الآخر قد توضحت لدرجة أنه أدرك أن امتلاك حركتنا الإجتماعية بمركباتها المادية والمعنوية هو جزء من استراتيجية المستقبل بالنسبة له. فالمنطقة العربية بمدى ما ظلت تشكل أهمية لوجستية فاحشة الثراء لمشاريع الهيمنة الإمبراطورية عبر التاريخ الغربي، فإنها بذلك أيضا ظلت تشكل عبره خطرًا لانبعاث مشروع قومي وتحرري عربي، يغلق الطريق أمام طموحات تلك المشاريع إلى كثير من جغرافيات العالم، بل ويهدّد شواطئ أوروبا، وسيادتها المتوسطية. وهنا بدأ المشهد التنفيذي لمشروع طالما راود العقل الأوروبي، وهو استبدال التاريخ الإجتماعي والسيادي في المنطقة بإقامة مركز يهودي إمبريالي ثابت يشكل نواة لمشروع الإستبدال، الذي سماه الشرق الأوسط الجديد. وهو كما نشاهد مصطلح عار من أية رتوش تخفي فجوره التاريخي. ولم يكن اختيار الخامة البشرية للمشروع عشوائيًا، بل استمرارًا لخصوصية غيبية توراتية نعرفها جميعًا، أصبحت بفضلنا تاريخًا غيبيًا موثقًا بالنصوص.

لقد كانت أكمل وأشمل تجربة قائمة على عنصر التذويت الجديد، أي الإستبدال التاريخي، هي تجربة التهوّد العربي التي قام بها الإسلام. كانت هجرة من الذات إلى الآخر بكل تفاصيل هوية الإنسان والأرض. وكان المشهد توراتيًا خالصًا بالتزام متشدد في النقل. ولم يكن عمل كهذا ممكنًا بدون تقديس السخف وتحييد العقل الواقعي لصالح العقل الغيبي. فأصبحت ثقافة الوجود لدى الهجري هي الانتماء للنص المسبق، وتوقفت علاقة التجربة بالعقل، الذي لم تعد له حاجة أمام توفر النص، فأصبحت مهمّته اجترار النصوص، وليس تجديدها. وبالطبع لم يكن هناك مكان في قوانين الوجود الطبيعية لمهادنة النصوص الثابتة للمعرفة. كما لم يكن هناك فرصة أمام النص الغيبي لمواجهة النصوص الجدلية للقانون الطبيعي في مجال الممارسة، فنشأت من هذا الوضع المتورط في التناقضات ثقافة هجرية خاصة، تقوم على ضرورة تجاوز النص بالنص، بالعقل المتحايل أو المتظاهر، وليس بالوعي أو بنزاهة عقل التجربة. وانقطعت علاقة الإلتزام الهجري بعقل المعرفة وبعقل النص الغيبي كليهما، ورسا التزام الثقافة الهجرية على التحايل والنفاق والتظاهر الكاذب وتجاهل الأزمات،أو حلها فهلويا.

عندما جاء الغزو، لم يكن بإمكاننا موضوعيًا أن نحمي أوطاننا وثقافتنا معًا. كان علينا أن نختار بين تلك الثقافة البائسة وبين أية قيمة عملية أخرى للوعي أو المعاصرة. ولما كانت ثقافتنا هي أداتنا العقلية الوحيدة أيضا، فإننا لم نملك أية خيارات حقيقية بالفعل. كان السبيل الوحيد أمامنا هو أن ننشغل بالدفاع عن تلك الثقافة المميتة، أو نكتفي بالإنخراط فيها على السجية، معتبرين أن اختلافنا عن الآخر يمكن اعتباره ميزة لنا عليه، لا لسبب واضح، سوى أن الأمر لا بد أن يكون كذلك. وهذا سخف مبرر معرفيا، فنحن لم نجرب سوى حوض الإستحمام الخاص بنا , والذي ثبت أنه آمن بالمطلق ويعين على الإسترخاء بعكس مصارعة الأمواج في البحر وأخطار الغرق. لذلك قاومنا الغزو بسلسلة متواصلة من السلوكيات السخيفة التي أدت في النهاية إلى حالة تقع بين ترجيح كفة النص الغيبي في المواجهة، وبين ترجيح كفة التحايل على الواقع لتبرير كل الانحرافات باسمه.

وباختصار انتصرت حقيقتنا الثقافية على الحقيقة. وانتصرت هجريتنا على وعينا فانتصرنا على وعينا وإنسانيتنا، وأصبحنا حالة سخف ثقافي واجتماعي فريدة. وعرف العالم مدى سخافتنا واختلافنا عنه في الوعي، فاستجاب لموضوعية العلاقة بيننا وبينه، ولمزاجه السيكيولوجي المترتب على ذلك، وتناولنا كما يستوجب سخفنا البنيوي. وأكثر ما يؤلم من مظاهر هذا التناول هو استخفافه بنا وازدرائه لثقافتنا ولنموذحنا الإحتماعي المترتب عليها. وبالتالي اعتبارنا هامشا منتهكا لرغباته ومصالحه، لا يكاد يدقق في كوننا، رغم كل شيء، نستحق أن نعامل كبشر عاديين. ووضعنا معهم أسوأ بكثير من قروي جاهل يدخل مدينة تغص بالمعالم المعقدة للمكان والزمان والناس، يواجه ما حوله بدهشة العقل الأمي، وتواجهه حقيقة الناس والمكان بتعاليها وازدرائها ولصوصها ودجاليها وعقلها المنظم والإنتهازي. ويبقى أن كل هذه الأمور شيء، ومعاملته كموضوع للتفكه شيئ آخر. فالعنف المعنوي هو ما يجعل الإنسان يشعر بألم الإختلاف والنبذ والعزلة.ولكن حتى هذا لم يكن كافيا لنشعر بالألم والغربة أو طرح التساؤلات.

مشهد يبلغ روعة السخف، ترى فيه رجلا كهلا يحتمي بثياب المارة من طفل يطارده. وحينما يسألونه عن سبب عجزه عن مواجهة طفل، يتبين لهم أنه مندهش مثلهم من حالته، ولكنه لا يدري سببها. والمصيبة أن المشهد ليس حركة مسرحية بل واقع حال. فهناك أمة ذات ماض منكوب، من ثلاثمائة مليون فرد، تحتمي بغيرها من جماعة صغيرة وافدة قسرا لا يتجاوز عددها بضعة ملايين. هنا تعلن كل الأسباب، مهما كانت، عجزها في تفسير الظاهرة، ولا يبقى سوى العبث والسخف ملجأ للفهم.

والسخف عمومًا هو ظاهرة تلاشي عقل التجربة أمام مزاعم النص الإعتباطي. فحينما يتعارض النص مع عقل التجربة، وتفرض سيكيولوجية النص الغرضية تجاهل موضوعية العقل السوي للتجربة، يصبح ذلك بالتكرار سلوكا متبعا، ثم منهجا، ثم ذاتا ثقافية قائمة على مفارقة السخف كعقل للسلوك. ويتحول العقل إلى وساوس وجدانية، تملأ فراغ الجدل في قدرية العلاقة بالآخر، بدوغما الخير والشر. فهو إما عدو أو سيد، بوصفه انعكاسا لطبيعته الساكنة وليس لحركته الجدلية القابلة للتفكيك والوعي. كل شيء هو صورة ذاته وجوهرها في محفوظتنا الثقافية التافهة، وليس مفهوما لعلاقته بغيره. لذلك يصبح التسول على سبيل المثال، محط إجماع بين طرفين على أفضليته على التأمين الإجتماعي، وبالنص. ويصبح الزنا الشرعي مختلفا عن الزنا التواصلي، وبالنص. أما نوايا النص فهي مبررة بالنص وحده. والإتباع هو السوية، والتساؤل هو الشذوذ. فتحليل الزنا للأغنياء بالتعدد ودفع كلفة التحليل المالية، وصد الفقراء عنه بالرجم والجلد والتعفف، هو السوية المستدعاة بعقل النص ونواياه.

والملاحقة بالنصوص ليس لها حدود للإحاطة. فهي لا تغادر كبيرة ولا صغيرة، يمكن أن تترك عبئا على الإرادة الشخصية أو إيعازا لمبادرات العقل. فضاء منتهك بالنصوص، ومجتمع ينتهك فيه كل مواطن حق غيره بالنصوص. وعدل إسمه النصوص، وآثام تزيلها الكفارة ويثبتها الفقر كما في أي نظام طبقي، ولكن بدون عقل، وبصراعات غوغائية ذات جدل موضعي داخل دائرة النصوص القدرية.

كيف يمكن بعد هذا، أن يكون هناك غير ما هوقائم فعلا. بالنصوص، فلسطين تضم ذاتا ترابية مقدسة. هذه الذات الجغرافية المحددة في خارطة النص هي جوهر أي صراع يدور على أرضها. إذا سلمت القدس، فلا بأس من التسليم بضياع غيرها. لماذا؟ لأن ما يعني النصوص هو شان المواقع التي يذكر فيها اسم الله، ولم تتطرق إلى المواقع التي ينبت فيها القمح أو البرتقال وترعى فيها الماشية، فتلك لله يورثها من يشاء، وبالنص. لذلك فكل صراع هو صراع ديني، وفي حالتنا هو صراع طائفي مع السلف الديني اليهودي الذي رفض الإصلاح الأورثوذكسي الإسلامي لليهودية.

كيف نقاوم التهويد ونحن بالنص متهودون؟ أليهود أرضيون في التزامهم بأرض فلسطين. حلموا بفلسطين لأنها أرض السمن والعسل بالنسبة لهم، وليس لأنها أرض الحج أو الصلاة كما تقول ثقافتنا. لذلك لم يخطر التهويد ببالنا إلا عندما بدأوا بتهويد القدس. هوّدوا كل فلسطين ولم يبق سوى القدس فثارت ثائرتنا. ما هي الظلال التي خلقناها حول شخصيتنا الوطنية في، أذهان أمم الأرض، بسكوتنا عن تهويد حيفا وأخواتها الساحليات وصفد وأخواتها الجبليات، وقرى الروحة وأخواتها المرجيات، وسجودنا على أقدام العالم ليمنع تهويد القدس؟ أليس مفاد ذلك أن القضية الفلسطينية بالنسبة لنا هي قضية دينية وليست قضية وطن؟ ومن هو الذي يرى في هذا العالم اليوم، في الصراعات الدينية سوى مجانيتها السخيفة، وانعكاسها السلبي على مصالحه؟ نحن إذن جماعة إكليريكية متعصبة، تحاول جب ما قبلها، ولسنا شعبا فقد حقه الوطني في قمح بلاده وسمنها وعسلها، وفومها وقثائها وبصلها. نحن صورة معتمة للإنسان في قمة فشله الوحودي، وعجزه عن التواصل مع واقع الإنسان في زمنه. نعيش تحت طائلة ثقافة اغتراب وانقطاع عن الهوية الأصلانية، بعقل غير زمني، منذ خمسة عشر قرنا. تهودنا ولم نستطع حتى اليوم فهم أن اليهودية هي قداسة قومية خالصة داخل زمانية دينية للتبرير. وأن التهويد فكرة سياسية وزمنية خالصة بمبرر ديني.

هل قام مشروع النفي الغربي الصهيوني لبناء هيكل؟ العقل المتواضع يعرف أنه قام على هدف نهائي إحلالي، بديل عن العلاقات المتقلبة، هو ” امتلاك ” المنطقة العربية، ومحو جوهرها القومي، وإقامة مركز إمبريالي دائم فيها يصبح نواة لبنيوية تاريخية واجتماعية جديدة، تغير جوهر العلاقات داخلها بشكل يضمن الحضور الدائم والآمن للمصالح الإمبريالية. ما تبقى كله، هو مجرد استغلال الهوية التخييلية للفكرة القومية لليهودية، كأرضية سانحة في ثقافة الوعي الهجري في موقع الإستهداف. في هذه الثقافة تجد اليهودية تجليها المعنوي الأسمى وتاريخيتها التخييلية الأعظم، على موقع مستهدف تحويليا. وخاضوا في سخفنا وغبائنا حتى أقاموا قضية وطنية لهم على أنقاض وطنيتنا حينما ازالونا عن حقيقتنا الوطنية، لندخل في حالة دروشة سخيفة، لا تعني لصوص المصالح الدولية في شيء. فهل هناك أسخف من ثقافة تعادي نفسها بمرجعياتها الثقافية ذاتها؟ هل هناك أسخف من ثقافة وطنية ترى في حركة التاريخ فعلا دينيا خالصا لا ناقة للإنسان فيه ولا جمل سوى رشوة السماء بطقوس العبادة , فيصبح الإسلام لديها هو الحل لكل مشاكل الدنيا، ولكن في الآخرة. وتحارب التهويد نيابة عن السماء وليس دفاعا عن الأرض، وبالشجب المذهبي، بدلا عن الوعي الوطني.

هل كان نابليون يهودياً حينما دعا يهود العالم إلى العودة إلى أرضهم التاريخية وتهويدها؟ هل كان دزرائيلي مخطئاً أو متفاخرًا حينما قال : العربي يهوديّ يركب جوادًا، أم كان يمهّد لمشروع التهويد الأوروبي. هل كان بلفور يتحدث عن جيب استعماري في فلسطين حين وعد باسم بريطانيا بإقامة وطن قومي فيها لليهود؟ من الذي يحمي الآخر في الواقع العملي الدين أم الوطن؟ لو لم تسقط حيفا لما سقطت القدس ولو لم تسقط القدس لما سقط الأقصى، وليس العكس. ودين يتعصب لليهودية بمدى ما ينكر الوطنية والقومية، وثقافة تريد تهويد العالم كله بالإسلام، لن يمنعا تهويد الوطن سياسيا.

تخيلوا أن يلتحم جيشان، أحدهما غاز والثاني صاحب وطن، وفي خلال المعركة ينقسم الجيش الذي يفترض انه يدافع عن حقه الوطني إلى فئتين تتصارعان دينياً، ثم إلى فئات تتصارع طائفياً ومذهبيًا وعرقياً. تصوروا أنكم محايدين وأنكم لستم أنتم أصحاب الأرض وأنكم لستم هجريين استبدلتم عقولكم بعمامات غيركم……. آسف ! غلبني النص الثقافي فافترضت ما لا يمكن أن يكون. ما أريد قوله أن أمة على هذه الدرجة من السخف لا يمكن أن توجه إلى سخفها الأسئلة حتى افتراضًا. وما دامت غنية عن السؤال فهي غنية أيضا عن الفعل، وغنية بذلك عن واقعها وعن إنسانيتها ووطنها وشرفها، لأن من يستغني عن السؤال كمقدمة للفعل ليس موجودًا إلاّ على سبيل السخافة.

ومركّبات السخف كثيرة، أهمها التخلف المنهجي المعرفي والنفسي والوجداني. والتخلف ليس في نقص كم المعرفة بل في أسباب هذا النقص. هل هو نقص لاإرادي سببه العزلة الجغرافية مثلاً والبعد عن مراكز الحضارة الكونية، ام سببه انعزال إرادي في ثقافة اختلاف تنتج تخلف الوعي وترفض كونية المعرفة وشراكة العقل التاريخي؟ باختصار، نحن نتاج ثقافة تالفة ومرضية تعتبر التخلف ميزتها وتربط مصيرها به، وتصنع الثقافة الفردية والجماعية الدوغمائية التي يقوم الشكل فيها بتأدية المضمون. فالسخيف الثقافي يتظاهر ولا يؤدي، لأن التظاهر هو الذي يصنع اكتفاءه الذاتي في كل الأحوال، وليس الحجة المعرفية المجمع عليها في التداول الكوني. كائن كهذا هو مفارقة سخيفة في نظر الآخر. أي نكتة. لا يستطيع التعامل معه بحسابات علم المصلحة السياسي، فيتعامل معه بعلوم القوة أو الإستغفال. فلا يجد آلية للرد إلا الإستسلام. فهو ما عدا التظاهر لا يملك من أليات الوجود وحفظ الذات شيئا. لأن وعيه الإستراتيجي هو ثقافته السخيفة فقط.

ثقافة كهذه تشبه ثقافة الحمار. فهو إما معنفص أو مركوب. فإذا عنفص لم ينفعه ذلك فعاد إلى الإستكانة، فإذا استكان أدهش. ليس لديه موقف، مبررا كان أو غير مبرر. لديه فقط حالة الجلمود الذي حطه السيل من عل. فهو مكر مفر مقبل مدبر معا بفعل فاعل غير مجهول هو النص الكامل المستغني عن تدخلات العقل والتخطيط والإرادة. إذا أراد العقل أن يتمرد قمعه النص وكهنته وأتباعه. أي قمعته سلطة النص على المجتمع الذي لا يدري أن النص هو عدوه الأول. عدوه الوطني والقومي والسياسي والإجتماعي. عدو عقله وعدو حركته التاريخية وهويته الأصيلة ومستقبله الإنساني. وهذا الكلام ليس خطبة إيديولوجية. إنه خطاب الحقيقة التاريخي والوقائع الفعلية، وخطاب مشاهدات العقل، وليس تصوراته الغيبية. إنه خطاب تلزم به التجربة وواقع الحال بعد أكثر من ستين عاما لأغرب وأسوأ وأمر تجربة عرفها التاريخ. فلولا ثقافة السخف لما حدث ذلك.

ما العلاقة بين ما يحدث لنا وبين الإعتدال والوسطية في ثقافة السخف؟ هل نحن الطرف المعتدي أو المتسلط أو المتوازن القوة مع الطرف الآخر أو صاحب المبادرة في الفعل الميداني، حتى نأمر أنفسنا بالتروي والإعتدال؟ لقد أثبت لنا الطرف الآخر أنه لا يريد اعتدالنا لأنها تمس بأخلاقيات تكتيكاته في الإبادة. لقد بنى كل أدبيات إنجازاته الميدانية، على عكس معادلة العلاقة بيننا وبينه. فهو يدافع عن نفسه فقط في مواجهة تطرفنا ونزعتنا لإبادته. لذلك فهو يواجه اعتدالنا ووسطيتنا باستفزازات الدم لنعود إلى ” التطرف “. ثم يعرف الإعتدال بأنه أن تقوم المغتصبة بخلع ملابسها بنفسها، وترضى بالتطبيع المسبق مع واقع الإغتصاب، قبل أن يبتسم لها. مع أنه لن يبتسم لها أبدا. وكل هدفه أن يحولها من مغتصبة إلى عاهرة ليعاملها على هذا الأساس. أليس هذا التوسط والإعتدال المدعى من جانبنا يشكل عنفا متطرفا موجها إلى الذات؟ إن أمة من من ثلثمائة مليون فرد تعيش على تملق المحسنين الدوليين بالوسطية والإعتدال وليس بقدرتها على المواجهة الذاتية، هي أمة من فرد واحد لا يستحق الحياة. ليس لأنه ضعيف، بل لأنه سخيف. والسخف هو مفارقة شرعية التواجد، لأن الدنيا ليست مكانا مجانيا للإقامة. إنها مكان لصراعات العقل والإرادة والقوة المادية والمعنوية.

من السخافة وصف سخفنا بالتفصيل، فلا زماننا الإٌفتراضي يسمح بذلك، ولا عمق المشكلة وتجذرها وغرابتها يتيح عرضها على مثال للتجربة عند غيرنا. ويكفي بعض السرد المشهدي لنعرف أن العلاج ميئوس منه :

هل قصرت أمريكا يومًا في توضيح موقفها الثابت تجاهنا؟ هل أخفت علينا أنها تستخف بنا وتحتقر نموذجنا البشري؟ هل أنكرت أنها تعتبرنا مقتنىً خدماتيًا لسياستها ومصالحها العاجلة إلى حين فقط، وأنها ستخفض مركزنا الوظيفي بعد تقعيد الشرق الأوسط الجديد، إلى مستوى الحثالية السياسية والإجتماعية؟ لو قالت ما قالته وتعيده يوميًا لغيرنا لفهم أنها تقول له: استراتيجيتي العامة لا تتفق مع وجودكم كمشروع سياسي أو اجتماعي مستقل. وعليكم أن تكيفوا أنفسكم مع التبعية لإسرائيل. فهي مشروعكم البديل. وهذا نهائي! وبالنسبة للصهيونية فهي أهمّ مركّب وجودي في كينونة مواطنينا الإجتماعية والفكرية والوجدانية والحضارية عمومًا. لذلك فهي مركب بنية بالنسبة لنا. كل ما هو في مصلحة الصهيونية وإسرائيل هو في مصلحة العالم بالنسبة لنا. فمن يعادي إسرائيل بالحق أو الباطل يعادينا نحن. فوطنوا أنفسكم على قبول هذا الأمر فهو مستقبلكم الوحيد. فإسرائيل بديل اجتماعي وحضاري مناسب لكم منطقيا، وأنتم ستكونون تحت رعايتها بديلاً جيدا عن أنفسكم. هذا هو! إذهبوا وقرروا.

لنتصور بعد هذا كله، أن ينشغل الناس عندنا، من فضلاء الفكر والثقافة أو مثقفي قناة الجزيرة، وحتى مثقفي نواقض الوضوء، بالحديث عن كون أمريكا تكيل بمكيالين. لم يفد أمريكا أنها أوضحت لهم أن لديها مكيالا ًواحدًا فقط، وأن لا حاجة لها بمكيال آخر. فليس هناك إسرائيل أخرى. لقد أصروا على قصة المكيالين، لأسباب ثقافية سيكولوجية، لا علاقة لها بأمريكا، هدفها إبقاء مسافة نسبية للعلاقة معها، يستطيعون التحرك والإرتزاق داخلها، أو لمجرد التصور أن لهم مكيالا من نوع ما في أمريكا يبرر عتابهم لها. وتركتهم أمريكا في هذيانهم استنكافاً وواصلت حرق أطفالهم ونسائهم ورجالهم وبيوتهم، وتدمير وجودهم برمته، والبصق على إنسانيتهم دون أن يكفوا عن اجترار سخفهم. يواصلون الحديث عن تحيًز أمريكا لإسرائيل، وكأن ما تفعله بهم إسرائيل يختلف عما تريده أمريكا أو لأنهم لا يعقلون الفرق بين التحيز والمبادرة. لا يعقلون أن إسرائيل هي آلية تنفيذية في مشروع خطط له الغرب والصهيونية، ثم انفردت به أمريكا والصهيونية. وأمريكا صادقة مع نفسها ومعنا فيما تقول وتفعل. فحتى لو لم تكن ” منحازة إلى إسرائيل ” بناء على مشروعهما المشترك، فوجودنا يشكل بالنسبة لها خللا في الجدوى مقارنة بإسرائيل. والإعتماد على آليات محلية متخلفة في إدارة المشروع الشرق أوسطي غير منطقي من الناحية العملية. فمقتنياتها النظامية في العالم العربي، هي من مستوى عملي مخجل وخاصة تلك التي حول آبار النفط. صحيح أنهم مريحون وظيفيًا يمكن تحريكهم بالصفير أو الإشارة، ولكن كلفة الحماية والصيانة عالية ومعقدة من ناحية، والأداء غير احترافي ينقصه التخصص الملائم لأي زمان أو مكان. هم موظفون أميون مبذرون تافهون تلقائيون يستثمرون حصصهم في تخليد تراثهم العائلي وشغفهم الإسمنتي الشاهق، ويقلدون عائلات عصر النهضة الأوروبي، ويحرمون دورة راسالمال العالمي من مليارات الدولارات. واستبدالهم ببيروقراطيا متخصصة أمر ضروري منذ زمن طويل. ولو كانت هذه الثروة تدار بالعقل الإسرائيلي المتميز، لكانت جدواها الإقتصادية والسياسية على راسالمال العالمي أعلى بكثير. ولكان استقرار الهيمنة الأمريكي في المنطقة أمرا مفروغا منه. ولكن توقيتات المشروع المشترك هي التي تمنع اتخاذ هذه الخطوة. فهناك حاجة ماسة للتطبيع الكامل والعلني أولا، ثم إعطائه الوقت اللازم للتغلغل في نسيج العلاقات القاعدية على الساحة.

ولن يكون هذا الأمر صعبًا. فالهجري معاشيًّا هو نتاج النص الكومبرودوري الواضح في الإسلام، حيث شكل البيع والشراء المساحة الوحيدة للحركة الإقتصادية في النص. فقد كان الإسلام وليد حركة البرجوازية المالية القائمة على المتاجرة البينية وحدها بعيدا عن أي نشاط إنتاجي تسمح به الظروف. وفيما عدا ظاهرة البستنة المحدودة في المدينة والطائف، والنشاط الرعوي المشتت في البادية لم يكن هناك شكل إنتاجي يذكر. وتعايش الهجري مع نص الإرتزاق التجاري كنص وحيد للنشاط الإقتصادي حتى داخل حواضره الهجرية اللآحقة. وكانت الصتائع مهنة للموالي واهل الكتاب والنبط والمرذولين طبقيا. لذلك فإن انفتاح الهجريين على ثقافة ” البيزنس ” التي غدت فوقية الرأسالمال العالمي، سوف يجعل من التطبيع أمرا سهلا، وخارج أية التزامات وطنية أو سياسية أو فكرية، كما حدث على الساحة الفلسطينية، ويسرع في نسج العلاقات التطبيعية على مستوى القواعد في القطريات العربية. وما يبدو الآن كأنه عداء قاعدي للتطبيع سوف يتلاشى أمام إغراءات ” البيزنيس ” لو نجحت إسرائيل في فتح ثغرة صغيرة للإتصال المباشر مع القاعدة. ومثال الناصرية في مصر شاهد على ذلك. فقد استطاع المال الديني أن يعيد وعي التخلف وسخف الثقافة الجماهيرية المتأصل إلى الشارع خلال أسابيع. واقتنعت الثقافة السخيفة أن إنجازات ثورة يوليو كانت سببا في هزيمة مصر، وعاد الحنين إلى الملكية كرمز لنظام الخلافة الشهيد الذي هو الحل. حدث ذلك بسبب عودة قروش الصدقات، وشعار العائلات المستورة. فكيف إذا جاء ” البيزنس ” التجاري والسياحي والخدماتي، وانفتحت آفاق الثراء النظري أمام أمام العقل السخيف الذي يصدق الوهم ويكذب الواقع؟

الهجري انتفاعي مثل كل الناس، ولكن على طريقته الخاصة. فالمنفعة لديه مشروع فردي أو إنجاز أسري على أحسن الفروض. فهو لا يتصور أن المصلحة الذاتية لا يمكن أن تكون إلا ناتجا اجتماعيا، خاصة في هذه المرحلة من التطور في العلاقات البشرية، حيث أصبح مصطلح المجتمع يعني وجود جماعة وطنية، تحدد حاجاتها وتنتج مصالحها وتعمل على توفير الحماية لها. أي أن الهجري لا يفهم معنى الحياة المدنية التي تجعل من العلاقات البينية المحلية نسيجا موحدا للمصلحة تحمي فيه الجماعة حقوق الأفراد. فنظام العلاقة في الدنيا، من ذات نظام العلاقة في الآخرة، لا تزر فيه وازرة وزر أخرى. وفيما عدا علاقات الصدقة التي يأمر بها النص، فكل الذي خلف الباب هو الغيرية والإنتهازية والتربص وافتراق المصالح. لذلك فإنه متحيز دائما لفرديته. فإذا تحيز للوطن فهو يتحيز لوطنه الفردي. أي لثقافته الوطنية الخاصة. وهي عادة جغرافية جزئية صغيرة يرمز إليها المسجد أو الملكية الخاصة أو كليهما معا، ولكن بدون الناس. وبعض الفلسطينين كانوا يقدمون الخدمات اللوجستية ” لليهود ” احتياطا للأسوأ ليحموا بيوتهم من الهدم أو أسرهم من الإنتقام. وقد كنت في طفولتي قريبا جدا من حادثة وقعت أواخر النكبة:

كانت القرى الفلسطينية حتى ولو كنت متلاصقة، تقيم كل قرية منها حراسة منفردة على مشارفها للإنذار. وكان هناك قريتان يمكنك إذا صرخت من أحدهما أن يسمعك سكان القرية الأخرى. وفي إحدى الليالي شاهد حراس أحدهما رتلا صغيرا لقوة يهودية تتحرك على الطريق المشترك المؤدي إلى القرتيتين، واستعد حراس القرية لإطلاق الإنذار في القرية ولكن الرتل انحرف نحو الطريق الخاص بالقرية المجاورة. واقترح بعضهم إطلاق النار من أسلحتهم لإنذار القرية الأخرى، ولكن البعض الآخر قال إنهم إذا فعلوا فسيترك الرتل القرية الأخرى ويهاجم قريتهم. وهكذا وصل الرتل مشارف القرية الثانية فانهزم الحراس وترك سكان القرية منازلهم وهربوا خارجها. عندها استدارت القوة المهاجمة واتجهت نحو القرية الأولى وهدمت جزءاً من منازلها وشردتها. وتبيّن فيما بعد أن القوة كانت معدّة لمهاجمة القرية الأولى، ولكنها قصدت القرية الثانية فقط لتشريد سكانها بهدف حماية مؤخرتها عند مهاجمة القرية المقصودة. هذا السيناريو يلخص المشهد الفلسطيني والعربي برمّته حتى اليوم. بل إن سخف المشهد ووطنيات المواقع المنفردة قد ازداد تجذرًا عمّا قبل بفعل تراكم حالات السقوط للثقافة السخيفة.

ولكن أسخف المواقف بعض الموقف من التهويد، هو موقف أهمّ ظاهرة ممانعة ظهرت في العالم الهجري وهي المقاومة العراقية. لقد جاءت أمريكا إلى العراق لأهداف لا تخفى على أحد. ولكن التدمير المنهجي للعراق لم يستثن أي مجال تقوم عليه الحياة البشرية. لقد وظفت حلفاءها الدينيين في العراق والعالم العربي بدون استثناء ضد العراق، ووظفت كل مقتنياتها السياسية فيه لتأييد حرب شكل فيها الثأر والإنتقام معلمًا بارزًا إلى جانب الأهداف الأخرى. وكانت التصفية القومية للجيب العراقي القومي الأخير أحد تلك الأهداف. وأثبت الإسلام الهجري أنه يستطيع استيعاب إسرائيل كُرديّة في بلد هجري ومنطقة هجرية مقابل القضاء على الخطر القومي والعلماني في العراق. وقامت المقاومة العراقية ببطولاتها الفذة في أسوأ ظروف غير مواتية عراقيًا أو عربيًا، وكان الإستشهاد الصدامي قمة في ثورية الفعل، يفترض أن تنعكس صمودًا ثوريًا على المقاومة، لا يضع أمامها خيارًا مع الإستشهاد سوى دحر أمريكا والأنتقام منها لوطنها المباد، واجتثاث العمالة السياسية والدينية في العراق إلى الأبد. لم يغفر العالم للنازية جرائمها حتى اليوم وبعد مرور قرابة سبعة عقود. ولكن المقاومة العراقية، وفي قمة السعي الأمريكي لتثبيت احتلاله للعراق بالطائفية والدم، غفرت لأمريكا جرائمها، وبدلا من ترسيخ العداء لها إلى الأبد، قامت بتجاوز مركزية العداء لأمريكا إلى مركزية العداء لإيران. ووصل هذا الإنزياح السخيف حد التحالف السياسي مع أبرز عملاء أمريكا على الساحة العراقية لمواجهة عملاء إيران. فالهاشمي عميل سلالي كلاسيكي للغرب ما زال يحلم بعودة الملكية إلى العراق. وعلاوي ديوث “بعثي” اشترته السعودية لأمريكا قبل بداية الغزو. والطائفية رهان أمريكي وإيراني مشترك في العراق. فمن من العدوين أولى مرحليًا بالمواجهة؟ إن مصدر التوظيف الطائفي في العراق، جاء بمبادرة من حزب الدعوة والحزب الإسلامي، ولم يستورده العراق من إيران أو من مافيا الإخوان المسلمين. وأمريكا تستغل الصراع الطائفي من أجل استقرار العراق السياسي على وضع الطائفية، وليس من أجل مقاومة الطائفية. فهل من مصلحة المقاومة البعثية الدخول في لعبة الصراع العابرة بين أمريكا وإيران. وإذا كان هناك مبرر تكتيكي لذلك، فهل يجوز دعم الحزب الأمريكي لعلاوي والهاشمي بهدف مقاومة إيران؟ إن إيران قوة صغيرة يمكن تأجيل الحسم معها أو مواجهتها مرحليا بالعمل الميداني على الساحة العراقية، بضرب أنصارها من خلال ضرب العملاء السياسيين عموما لأنهم جميعا بالتالي عملاء لأمريكا. أما التحالف مع عملاء أمريكا فهو ضرب من سخف الثقافة السطحية التي ستفيد أمريكا ولن تضر بإيران.

ومن حالات السخف الإستثنائية اليوم، على الساحة الهجرية الحالات أكاديمية. كثير من هؤلاء، وبدون تسرع أو تردد، يسخفون عقل المعرفة بعقولهم الخاصة. زادوا الطين بلة وأقاموا مع السخف منارات للتضليل وتدييث الوعي. فالثقافة تغلغل عقلي ومعرفي ووجداني، لا يقاوم إلا بعقل نقدي متمرد، يتحرك في منطقة الإبداع ووعي الوعي، وليس بعقل معنفص أو اتباعي، يتمرد خارج وعي المعرفة العلمية، فيعنفص في وعي المسلمات بدون داع غير التظاهر، أو يلحس الملاعق في مطابخ الثقافة الدارجة.

يتجول الأكاديمي الهجري بقلقه الغامض وعقله المتورط، الذي أثارته نثرياته المعرفية، يحمل نياشين اختلافه المزعوم عمن حوله على كتفيه. يضيع في هوس اختلافه فيحاول الخروج من جلده القديم بالتنكر المبدئي لقوقعته الإجتماعية، فيخرج منها بدون جلد بديل، ويضيع في الهلامية وانعدام التماسك والإنتشار في العدمية. يعجب ممن يتحدثون عن الإلتزام والإنتماء والأصالة والوطن، ثم يعذرهم بنقص الحداثة، واجتهادات التخلف. فالحداثة لديه هي التحلل من وعي المعرفة الإلزامي كعلاقة جدل اجتماعي وصراع بناء، والإنحلال في وعي الفوضى البناءة التي تقول بفردية المصير داخل مجتمع الحركة الحرة. وهكذا اختلطت ثقافة السخف البائسة لدينا بسخف الثقافة المترفة في مجتمعات التغول الهمجي للترف المالي والمعرفي، المتعالي على سوية المعرفة العلمية التاريخي، وحزنا بذلك مجد السخافة من طرفيه. سخف التخلف وسخف انعدام التوازن الإجتماعي والوجداني.

ويتمثل السخف الأكاديمي لدينا، في أن عقل الثقافة الموروثة بسخفه وعجزه البنيوي عن المواجهة الجدلية مع النصوص، واحترامه التلقائي لها، لا بد له كالعادة من تحويل إعجابه الشكلي بالنص إلى المصدر. فيعود في معظم الأحيان، من حجه الأكاديمي في الغرب محملا بموسيقى النصوص، والولاء لمصدرها كدعم وحيد لتميزه الأكاديمي. يعود معجبا بالغرب وشكليته الليبراليه بكل جوانحه، متأتُرا باتباعيته الثقافية المكتسبة، وباطنية رغبته في التظاهر بالفرادة. فهو مشبع بالولاء لحقوق الإنسان في طبعتها الليبرالية الأخيرة، ومتخصص في الدفاع عن حرية المرأة وملكيتها المطلقة لجسدها، ومؤمن بكل أنواع الحريات التي تلخصها لفظة الديموقراطية، مثل حرية الرأي، وحرية التسلق الطبقي، وحرية المثلية الجنسية، وحرية الإعلام والصحافة…… إلخ. وولاؤه لتلك الحريات هو ولاء مطلق معزول عن تاريخية الموقع ووعي المرحلة والظروف الموضوعية للتطور وحتى عن وعيه الخاص. فهي بالنسبة له كبسولات معرفية يجب على كل ذوي الوعي التقدمي تناولها بدون وصفة من الطبيب. ويقوم هو بتناولها على هذا الأساس. وينجح أخيرا في لفت نظر صيادي المواهب الليبرالية، فيستدعى غالبا إلى قناة الجزيرة، حيث يتم فحصه في مختبر الإتجاه المعاكس. وحينما يتحققون من سخفه، يتم تحويله من هناك إلى موقع العمل المناسب. وبعد مضي بعض الوقت عليه في العمل، تنضج مواهبه ويضيف إلى قائمة محتوياته حريات جديدة، مثل حرية التطبيع مع إسرائيل، وحرية بيع الخدمات الفكرية للأمازيغية، وحرية جمع المعلومات الموثقة، وحرية المطالبة بتنظيف مجرى بردى، وحرية الصحفيين المطلقة في التصوير الإنتقائي والإستعلام والبث المعرفي، وتركيب الأخبار التوجيهية، واعتبار جهاز البث الإستعلامي لقناة الجزيرة في اليمن شهيدا من شهداء الحرية. أي أنه ينتسب في النهاية إلى مجموعة المطالبين بحرية الحرية ويصبح عميلا ثقافيا للعولمة الغربية، وأوكارها الأكاديمية الفضائية. ويركز فاعليته الأكاديمية في دعم التطبيع، وفك الإرتباط داخل القطريات الهجرية بين المكونات المدنية والوطنية على أساس العرق والمذهب والطائفة والرغبة الديموقراطية في الإنفصال.

الحرية مفهوم علمي نسبي وبنيوي. لا يمكن لأحد أن ينقل الحرية بالتقليد أو المشاهدة لأن التقليد هو عبودية للآخر المختلف ظرفيا وبنيويا، ولأن المفاهيم تُعرف وتفهم ولا تُشاهد. والإلتزام بحرية العقل في الحركة الجدلية، هي الأساس في وعي الحرية العملي في سياق للتطور العلمي يحتم الإلتزام الإجتماعي. أما الحركات الذاتية أو التأملية على مفهوم الحرية الفردي، فهو انفصال عن وعي الحرية الحقيقي. وأية علاقة بين طرفين في غياب منهج موحد لوعي الحرية، هو استعباد نسبي متبادل بين طرفين يتبادلان التوازنات. وهذا هو مفهوم الحرية الذي يسود عالمنا المعاصر. والتفوق الغربي هو دليل على الإستعباد الذي أتاحه ويتيحه انعدام التوازن مع الآخر. وعلاقته عكسية بمفهوم الحرية. لذلك لا يصلح الغرب الإمبريالي نموذجا للتقليد النصي إلا في حالة التنازل عن الحرية سلفا. وهذا ما يحمله الأكاديمي الهجري في معظم الأحيان معه حينما يعود من رحلته المعرفية الفاشلة. يستبدل نصوصا بنصوص وكلاهما يكوّن نص عبوديته الذاتية. فالليبرالي أو الإتباعي كلاهما ظاهرة دجل غيبي مع فارق المكانة , ولا يفهم العقل الإتباعي أن شرط الحرية النسبية هي انتماء الفرد بالإلتزام إلى حركته الإجتماعية مهما بلغت من التخلف، وليس هناك بديل ممكن عن ذلك سوى العبودية النسبية والتخلف الإنساني.

لا يمكن تفصيل مظاهر السخف، كما اسلفت، على الساحة الهجرية، ولا حاجة لذلك أيضا، فالمشهد العام بالغ الفصاحة. إذا استطاع أحد تفكيكه أو تحليله أو قراءته أو فهمه على ضوء أية نظرية لعلم الإجتماع، أو حتى على ضوء أية حكاية واقعية فأنا مخطيء في كل ما زعمت.

لا خلل توازن القوى، ولا التكنولوجيا، ولا فوارق التقدم، ولا القانون الطبيعي، يمكن أن يبرر سقوط إمبراطورية بشرية من ثلثمائة مليون أو أكثر، بإمكانات جغرافية وثرواتية هائلة، على أقدام دولة بالغة الصغر، كما تسقط ثياب العاهرة. فلنبحث إذن عن السبب في السخف الثقافي وحده، فهو الذي يمكن أن يودي بإنسانية البشر. فالمشهد أسخف من السخف ذاته. طفل صغير ينكل برجل عريض المنكبين، فيحتمي منه بالمارة الذين يغلبهم الضحك.

تموت الأمم عندما تنعدم قيمتها الذاتية في صراعات الوجود، وتقف خارج جدلية العلاقة في السياق. واستجداء الحقوق من الآخر، في قوانين العلاقة، هو انعدام الإستحقاق وفقدان حق الوجود الأولي في القانون الطبيعي. والأمة التي تتسول حقها هي حالة احتضار جماعي. ونحن نحتضر على أقدام أمريكا والصهيونية، ولن يتأخر موتنا، إذا تأخرت ثورتنا الثقافية التي تخرجنا من مستنقع سخف علاقتنا بالوجود، وتعيدنا إلى حقيقتنا الذاتية وعقلنا التاريخي ووجداننا القومي المهاجر.