قراءة في طرح: الهيئة الوطنية الفلسطينية للدفاع عن الحقوق الثابتة

مفاوضون جدد…أم مقاومون؟

(الحلقة الاولى)

د. عادل سمارة

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2234)

طرح فريق من الفلسطينيين مؤخراً مشروع تشكيل جسم، لا هو بالتنظيم ولا هو بالجبهة الوطنية، ولا هو بالمنتدى أسموه “الهيئة الوطنية الفلسطينية للدفاع عن الحقوق الثابتة”. ومما قيل في ذلك “إن الهيئة صاحبة موقف نضالي يتمسك بالثوابث والحقوق، لكنها “خارج الصراعات الفلسطينية بالمعنى التنظيمي والفصائلي”.

ربما يبدو هذا الطرح جميلاً للوهلة أو القراءة الأولى. لكنه يفتح على عديد من الأسئلة منها: ماهي طبيعة الدفاع عن الحقوق الثابتة للشعب العربي الفلسطيني؟ ما هي آليات ميكانيزمات هذا الدفاع؟ وهي كما يبدو مثابة دفاعات سياسية ثقافية وخطابية وربما فكرية فلسفية. وعليه، حتى نرى نصوصاً مختلفة عما قيل منذ ستة عقود، يصبح حينها بوسعنا تقدير ومعرفة إن كان هناك جديداً حقيقياً وإلى الأمام مقارنة مع الخطاب المألوف فلسطينياً وحتى عربياً.

حتى اليوم، لم يطرح أحد مشروعاً فكرياً سياسياًَ يُباعد ما بين نفسه وما بين ما هو مطروح سوى الراحل إدوارد سعيد الذي طالب بتفكير جديد، ولكنه لم يٌقدم صياغة محددة اللهم سوى قوله بانه يدعم الدولة الواحدة والحوار والتنسيق مع “التقدمييين” اليهود. وقد كرر سعيد هذا القول حينما دخل إلى الأرض المحتلة وتحدث في الناصرة في مهرجان لدعم ترشيح د. عزمي بشارة لانتخابات الكنيست. وعليه، يمكننا القول إن ما طرحه إدوارد سعيد ليس تمسكاً ولا دفاعاً عن الثوابت.

ولكن ما هي الثوابت؟

علينا التفكير بدقة هنا. فالثوابت تعني ما لا يتغير سواء بالمعنى اللغوي أو المواقفي او المادي الملموس. ومن يرفض هذا التعريف لا بد ان يغير التسمية ليقول مثلاً، الحقوق، المصالح، الأهداف، الاستراتيجية…الخ فهذه ومثيلاتها تقبل النقاش والتغيير والنقد والنقض …الخ.

فالثوابت تعني حقوقا طبيعية مقدسة غير قابلة للتغيير والمقايضة فما بالك بالتنازل. وفي الحالة الفلسطينية، فالثابت هو الوطن، وليس المكان لأن المكان رقعة تضيق وتتسع طبقاً للمساومة، والمكان حالة حضور أو إقامة عابرة لا ارتباط ولا التزام للإنسان بها. اما الوطن فهو الحضور المادي لشعب معين يقيم عليه لا يمكن انتقاصه ماديا ولا بالطبع معنويا أو رمزيا كما يتم انتقاص الخطاب والمحمول اللغوي بدافع أهداف معينة تغيرت مع الزمن[1].

والوطن هو فلسطين بأجمعها تماماً، ليست المحتل 1948 فقط (اي ما يسمى الكيان الصهيوني الإشكنازي)، ولا المحتل 1967 فقط (أوسلو ـ ستان)، بل كل فلسطين. وعليه فإن ثابت الثوابت هو حق العودة بشريا وكليا إلى كل فلسطين وكلٍّ إلى حقوقه: أرض وبيت وممتلكات…الخ. وبعد هذا الثابت يمكن قراءة ثوابت أخرى لا تقوم بدونه.

وحق العودة بهذا الامتلاء والحضور مستحيل باي شكل من اشكال التفاوض أو النصوص البلاغية أو الأشعار أو إتقان اللغات الرسمية التي تعتمدها الأمم المتحدة. حق العودة بمعنى استرداد الثوابت يعني الصراع المفتوح وتحديداً المقاومة التي لا بد أن تهزم العدو على الأرض وفي الميدان. وهذا ما يدفع للتساؤل ما معنى دفاع هؤلاء السادة/ات عن الثوابت طالما حديثهم هو في السياسة؟ بل ما ضرورة هذا “الشيىء” الجديد؟

يقول أصحاب هذا المشروع: “…وأنشئت الهيئة من قبل شخصيات سياسية تدعم المقاومة الفلسطينية، وترى هذه الشخصيات أنه لا ضرورة لإقامة فصائل مسلحة جديدة بل إنهم يدعمون المقاومة سياسيا ولكنهم لا يجدون لهم مكانا في حركات مثل الجهاد الاسلامي وحركة المقاومة الاسلامية حماس.”

لعل بوسعنا القول أن هذه الفقرة ذات غموض مقصود. فما معنى “شخصيات سياسية”؟ هل ما تحتاجه المرحلة هو إضافة شخصيات سياسية جديدة على العديد من الموجود؟ هل نحن بحاجة إلى فريق قيادي جديد؟ وما معنى”تدعم المقاومة”؟ هل يعني هذا أن هذا الشيىء الجديد هو متضامن مع الشعب الفلسطيني، من خارج هذا الشعب؟ وما معنى أن لا حاجة لمنظمات مسلحة أخرى؟ لماذا؟ هل السبب ان هذه الهيئة هي هيئة للخبراء والنخبة؟ أما تاييد الهيئة للمقاومة المسلحة فأمر لافت! هل هناك مقاومة مسلحة غير التي تنتمي لتنظيمات هذه المقاومة؟ فهل هذه المقاومة بحاجة لقوميسارات سياسية ؟ ألا توجد لها قيادات؟ ومن قال أن المقاومة المسلحة بحاجة لقوميسارات سياسة وليس إلى مقاتلين؟ ولماذا يُفترض أن المقاومة المسلحة عاقر سياسياً وفكرياً حتى يضطر هذا الجسم للتطوع لتغطيتها سياسيا؟ أم أن الحقيقة كامنة في أن هذه “الشخصيات السياسية” تبحث لها عن دور وتبحث لها عن حامل ميداني؟ ومن قال أن المقاومة المسلحة سوف تتخلى عن قيادتها السياسية لتحمل الغير على ظهرها؟

ربما يفتح هذا الحديث على بيت القصيد وهو: إن الساحة العربية والفلسطينية في بداية مخاض واضح، ربما بوضوح الثوابت الفلسطينية وهو انقسام الساحة إلى:

· قوى المقاومة

· وقوى المساومة.

لم يعد هناك مجال لخيار وسط في هذه الحقبة. إن لقوى المقاومة بناها السياسية والفكرية، وكذلك لقوى المساومة. وهذا قد يسمح لنا بالقول إن الجسم الجديد هو جسم تفاوضي يبحث له عن مقعد في عملية التفاوض العبثية. ولو كان استنتاجنا غير صحيح، لتحول هذا الجسم إلى حضور ميداني شعبي وقوة لمناهضة التطبيع (أي ضد استدخال الهزيمة) تقدم نفسها في خدمة المقاومة، ولا تفرض نفسها من عليائها فوق المقاومة لتقودها، هذا إذا كان قد تم سؤال المقاومة المسلحة إن كانت تبحث عن قيادات؟

اللحظة التي سمحت بهذا

هناك مناخات سلبية أدت إلى الحديث وحتى العمل عن جسم كهذا. وهي مناخات أخطرها حصول اتفاق أوسلو- ستان وتورط أنظمة عربية بالاعتراف بالكيان علنا وأخريات سراً، وانحسار الكفاح المسلح ومحاصرة النضال الجماهيري الحقيقي وليس نضال الفضائيات. وهذه كلها عوامل أفسحت المجال لإدخال كثير من قيادات المقاومة في مطهر التسوية، فبدأ الحديث عن الاعتراف بالكيان، والتعايش واقتسام الوطن مع العدو وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهي أمور ابعدت الكثير من الناس عن هذه القوى.

ولكن هذا المناخ السلبي لا يعني بروز أو فرز قوى سوف تنتهي سريعاً إلى طاولة التفاوض وبلا فوارق سوى ربما أنها لم تُجرَّب بعد أو أنها أكثر مهارة او أفصح لساناً، بينما جوهر الأمر هو الساحة النضالية ليس غيرها. أي هل أنت مع المقاومة أم مع المساومة؟

هناك مقاومة مسلحة ولها مواقفها الفكرية والسياسية الرافضة للاعتراف بالكيان الصهيوني والمتمسكة بحق العودة. وهذا يعني ان دور من يريد المساهمة أن يقدم نفسه في خدمتها بطريقته الخاصة وطبقا لحاجتها.

مناهضة التطبيع/استدخال الهزيمة

لا يعني هذا أن لا حق لأحد في العمل إلا من خلال هذه الأطر. فبإمكان اي كان ان يبادر وطنيا بتقديم ما يرى في نفسه قدرة عليه دون أن يُنصِّب نفسه قوميساراً على قوى المقاومة الموجودة. ومن لا يرى في نفسه القدرة على المقاومة المسلحة، عليه على الأقل تأييدها، ومن ثم العمل في الإطار شديد الأهمية اي مناهضة التطبيع.

لماذا؟

لأن اي جسم لا يمارس الكفاح المسلح هو جسم مفترض للتفاوض السياسي الذي لن يجدي.

ومن هنا أهمية مناهضة التطبيع، اي التصدي لاستدخال الهزيمة. إن لمناهضة التطبيع سحرها الخاص، هي بذل حد ادنى من الجهد، هي الإخلاص بلا كلفة، ولكنها الأكثر اثراً! وفي هذا مجالات تستغرق جهود الأمة بأكملها. ومناهضة التطبيع تبدأ من مناهضة الأنظمة التي اعترفت بالكيان، ومقاطعة منتجات العدو الصهيوني ومختلف الدول التي تدعمه، والقيام بحملات ثقافية فكرية بمختلف اللغات لمواجهة ثقافة ودعاية العدو.

إن تشكيل لجان مناهضة التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري والنظري قادرة على استغراق جهد كل مواطن، هي تشغيل وتحريك الشارع العربي، وليس إسماعه خطابات. هي مواجهة مع الأنظمة القطرية، هي ضربها على مفاصلها لتفكيكها. وهي شديدة التاثير على العدو بل على الثلاثي: اي الكيان وأنظمة الكمبرادور والاعتراف والدول المعادية.

هذه المهام هي الدعم الحقيقي للمقاومة المسلحة وليس تنصيب الذات قيادات عليها. ترى، ما الأهم والأجدى الأثمن في هذه الحقبة بعد ان ثبت أن لا تفاوض مع العدو:

· تشكيل أجسام سياسية بنخب بلا عمل سياسية

· أم تشكيل لجان شعبية لمناهضة التطبيع وجمع تبرعات سرية للمقاومة الحقيقية على الأرض. تبرعات من النساء والرجال؟

نحن بحاجة لان يقوم المواطن العربي بشرف مناهضة التطبيع، لا بالدخول في عضوية هيئة جديدة ستضيف تراكما على التراكم الحالي. ونحن بحاجة أن تُقام قوى عربية كل في مكانه (مع تنسيق لتشكيل حركة ثورية عربية موحدة او متحدة…الخ) للنضال من أجل فلسطين ومجتمعاتهم وليس لينضموا إلى مركز قيادي فلسطيني جديد، يُخرجهم عن مهام إسقاط الأنظمة التي دون إسقاطها لن تعود فلسطين وقد نخسر العراق والصومال ولبنان ومصر…الخ.

وللأسف والعيب وحتى العار، أن التطبيع يمشي على عجلات سريعة في كافة أرجاء الوطن العربي، لا بل يتدفق عرب على الأرض المحتلة وهي تحت نعال الاحتلال ويزعم هؤلاء انهم يتضامنون معنا؟ بينما الأكثرية الشريفة من شعبنا تقول بوضوح: لا نريد لكم نعال الاحتلال. قاطعوا بضائع الأعداء والأنظمة المعادية، إسقطوا معاهدات الاعتراف بالكيان والف شكر.

ولكن، هل يمكن لهذه الهيئة الفلسطينية أن تدافع عن الثوابت عبر النزول للشوارع لمقاطعة منتجات الأعداء والتدفق للشوارع لإلغاء المعاهدات؟ هذا هو السؤال الصعب.

تزعم الهيئة أن معظم الشعب الفلسطيني ليس منضويا تحت رايات فتح أو حماس. غريب. كيف عرفتم هذا؟ كيف يُجيز المرء لنفسه إصدار أحكام كهذه على عواهنها؟ فحتى استطلاعات الرأي التي ولدت من رحم “الأنجزة” تقول عكس هذا؟ ولنعد لانتخابات مجلس الحكم الذاتي الأخيرة، والتي يرفضها كاتب بهذه السطور لأنها ديمقراطية تحت الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. الم يقم اهل اوسلو- ستان بالتصويت لفتح حماس؟ لقد بلغت نسبة غير المشاركين 24 بالمئة؟ هل هذه الأكثرية؟

ولو افترضنا ان الأكثرية ليست مع فتح وحماس، ما هي المهام التي ستشغلوا الناس فيها؟ فمؤيدي الكفاح المسلح لهم قناعاتهم، إن لم يكونوا كل الناس باستثناء كوادر الأنجزة ومثقفين متخارجين متغربنين وأكاديميين مرتبطين بمشاريع بحثية ودراسية وتقاريرية بالأجنبي بدءاً من واشنطن نزولا إلى الدوحة.

لا تحتاج الناس لخطباء بل تحتاج لتشغيلها في مشاريع كفاحية مثل مناهضة التطبيع. لا بل إن مناهضة التطبيع هي اليوم مفصل المواقف:

· من ينشط في هذا النطاق يقوم بواجبه الوطني والقومي؛

· ومن يتهرب من هذا إنما يقوم بخيانة تبدو مستورة لكن عورتها بائنة.

هذه المناهضة هي السهل الممتنع، هي أمر يمكن لكل إنسان ان يقوم بها، وكل إنسان يعلم إن كان مارس معصية التطبيع أم لا. إنها مشروع تعبئة وتنمية وشغل وتشغيل لكل مواطن. وهذا ما يجب أن تقوم به حركة جديدة أو غير جديدة. هذا العمل هو الكفاح المسلح الشعبي. وهذا ما نحتاجه.

لعل ما يكشف حدود ومحدودية هذه الهيئة أنها “… تستقطب الهيئة إلى عضويتها كل فلسطيني وعربي يرى في قضية فلسطين قضيته الرئيسة”. لا باس، أليس حزب الله حزباً عربياً يعتبر فلسطين قضيته الرئيسة؟ أليست الجبهة الشعبية، أو على الأقل الجذريين فيها، كذلك؟ هل ترضى الأنظمة العربية التي يعيش فيها مؤيدون لهذه القوى بل هل تسمح لهم بتاييد هذه القوى؟ ألا يبين هذا الحديث المستوى النضالي لهذه الهيئة؟


[1] يصطدم حديثنا عن الوطن مع الأطروحات السياسية لما بعد الحداثة التي تدفع باتجاه تفكيك السيادة القومية. وهي اطروحات رغم زعمها أنها ضد المركزانية الأوروبية إلا أنها تنطلق من صميمها وتستخدم أدواتها وتصب في مسارها. ولعل اوضح دليل على ذلك أنها لا تسحب ما يتطور في المركز على المحيط فيما يخص السيادة والقومية وهما ما لم يتحقق لهما دور حقيقي في المحيط. أما الحالة الفلسطينية، بمعنى اغتصاب وطن وتهويده، فلا يستحق من هذه المابعديات مجرد التفاتة تسمح لنا بالحديث عن الوطن، إلى أن يصبح العالم مكاناً لكل إنسان. (يمكن قراءة “الامبراطورية” The Empire لهاردت ونيجري، كمثال على هذه المابعدية) .