حركة التحررالعربية: نقد مفاهيم!

جمال محمد تقي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2245)

من سلم الاولويات نحدد بان مفهوم حركات التحرر قد جرى تأويله وابتساره واختزاله والتعامل معه وفق منطق عقائدي تراتبي شكل معناه المتواتر في الخطاب السياسي والفكري سيادة مركبات التنظير الايديولوجي الدوغمائي والممارسة النخبوية التي لم تتواصل كما يجب ضمن حركة التغيير العالمي بكونها كل واحد، وان اجزائها متغيرة المواقع والتاثير، فبعضهم كرس التحليل الذي قسم حركة الثورة في العالم الى مركز واطراف، في المركز حركات الطبقة العاملة والمثقفين الثوريين وفي الاطراف حركات التحرر بمكوناتها الطبقية التي لم تخضع للتعدين الحداثي بعد ـ معدمي الفلاحين وطبقة العمال الناشئة والبرجوازية الصغيرة واقسام كبيرة من البرجوازية المتوسطة ـ بمعنى الاغلبية المجتمعية باستثناء البرجوازية الكمبرادورية، ولا نذهب بعيدا اذا قلنا بان هذا المفهوم قد جرى استنطاقه وبهذه الروحية المشوهة منذ ان جرى اعمال النقل وليس العقل مع نصوص البيان الشيوعي 1848 كبرنامج لاول تنظيم اممي ثوري عرفه التاريخ، وهو وبحق اول وثيقة ـ دستورية ـ ثورية شاملة وعالمية النزعة وبخطاب منهجي بعيد كل البعد عن الطوباوية، ثم ما جرى بعد نجاح الثورة البلشفية في اكتوبر 1917 وتأسيس منظمة الكومنترن وتصديها لمهمات المركز العصبي للحركات الثورية المنتشرة في ارجاء العالم وما انجزته في مجال اعادة النظر بالحالة التراتبية وادوار روافد العملية الثورية في العالم، وكأنها تعيد تقسيم ادوار كل طرف فيها كنقيض ومضاد حيوي للسعي الراسمالي العالمي وامبريالياته المتفاوتة التطور والتي تحاربت للتو من اجل اعادة تقاسم العالم وثرواته ـ الحرب العالمية الاولى ـ وتوصل الكومنترن الى ان روافد الثورة العالمية تتبلور بالنظام الاشتراكي في بلاد السوفيات اولا، وبحركة الطبقة العاملة في البلدان الراسمالية ثانيا، وبحركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة ثالثا، وبعد الحرب العالمية الثانية وصمود ونجاحات الجيش الاحمر الذي مهد لقيام المعسكر الاشتراكي، توصل الكومنترن الا ان سمة العصر السائدة هي الانتقال من الراسمالية الى الاشتراكية وبقيادة الاتحاد السوفياتي طليعة حركة الثورة في العالم!

هنا نستطيع تشخيص بعض التناقضات التظرية الخطيرة التي ربما كان التغاضي عنها نتيجة سيادة النزعة الارادوية او نتيجة الاندفاع المرتجل واخرى نتيجة الاستسهال الجاهل وربما نتيجة الضغوط الخارجية وكمحاولة للهروب للامام نقول ربما كانت كل هذه العوامل وراء سلوك الطريق المؤدية للسقوط السريع كمعادل للاندفاع السريع نحو عوالم وهمية، فكيف تكون سمة العصر الانتقال من الراسمالية الى الاشتراكية اذا كانت الراسمالية ذاتها لم تستنفذ ذاتها بعد ولم تصل لدرجة تكون فيها قد حفرت قبرها بيدها فعليا ؟ كيف اذا كانت الطبقة العاملة في البلدان الراسمالية اكثر كفاءة وقدرة على استيعاب الاتمتة الحديثة من رفاقهم السوفيات ؟ كيف اذا كانت حركات التحرر الوطني وقعت بتناقضات صارخة مع متطلبات التعايش السلمي بين النظامين الاشتراكي والراسمالي، حتى ان حركة عدم الانحياز ذاتها والتي سخر منها خرشوف كانت دليلا سياسيا على تناقضات التنظير مع الواقع على الارض!

الان وبعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي ما هي روافد الثورة العالمية ؟ انها هي ذاتها التي شخصها البيان الشيوعي والتي شطحت بها التجربة السوفياتية بعيدا عن منابعها، حركة التحرر شاملة عالميا عند شعوب البلدان الراسمالية او شعوب البلدان التابعة او الوكيلة او البين بين ـ الوسطية ـ!

الطبقة العاملة في البلدان المتعولمة امبرياليا وبكل مراكزها الاولى ـ امريكا واوروبا وكندا واليابان ـ والثانية ـ روسيا والصين والهند والبرازيل وو ـ والثالثة والرابعة وكل دول الحواف، المعدمين في كل هذه البلدان الساخطين في كل هذه البلدان اصدقاء البيئة في كل هذه البلدان ضحايا الانطمة والقوانين والمسالك العنصرية في كل هذه البلدان هم الرافد العالمي الاول لحركة تحرره من ربقة الجشع الامبريالي المتغول، ومن ثم تاتي حركة الشعوب المكافحة والمقاومة وبكل اشكال الكفاح ضد الاحتلال والتبعية التي تعوق اي نمو طبيعي للبلدان المتخلفة والتي نطلق عليها حركات التحرر الوطني!

مما تقدم نستنتج ايضا بانه ليست من الشعوب المستعمرة او شبه المستعمرة او التابعة فقط تنبثق حركات التحررالوطني بمفهومها العمودي اي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي وانما في الشعوب التي تعاني التمييز والاقصاء والتعويق ايضا برغم من استقلالها وسيادتها التي ليس لها معنى عندما تكون غير قادرة على تسيير نفسها بنفسها، حركة التحرر حالة تواصل وتكامل في تحقيق الاهداف المشروعة والتي ستتجدد حتى تنجز الحركة كامل اهدافها، وانبثاقها المتجدد يصبح ضرورة موضوعية وبعمليات استئنافية متواترة نتيجة لسياسة تعمد تعويقها من قبل تحالف انظمتها الطفيلية المحلية مع المتروبول العالمي، تلك الشعوب التي نالت استقلالها السياسي من الشكل الكولونيالي للامبريالية العالمية والتي استعمرت مجددا وبالوكالة من قبل نواب محليين بمباركة الموردين الكبار!

بالاستناد على ان المقدمات الصحيحة تقود دوما الى نتائج صحيحة، فاعتقد هناك اشكالات منهجية في دراسة واستقراء واقع توصيف الحالة العربية من حيث صيرورتها وشكل حركتها واتجاهاتها، وبما اننا نعيش في زمن الالتباسات الشاملة، التي تتيح صياغة خطاب تصفوي بخط ارتدادي كلي او جزئي، فأنه من الواجب بل من الامانة العلمية بمكان، التوقف عند كل مصطلح ومفهوم او شعار، حتى نتحقق من صدقيته، وثبات موجوديته، وتطابقه مع واقع الحال او العكس، او نتثبت من موضوعيته على اقل تقدير!

لقد شكل السقوط المدوي للقطب الاشتراكي في العالم ” الاتحاد السوفياتي وبلدان الكتلة الشرقية ” فاصلة تاريخية متعددة الاوجه، وكان صدمة للبعض، ومتاهة للبعض الاخر، وكان انتصارا غير محسوب لقلة من المتضررين، لما شكله الاتحاد السوفياتي من حافز للمتطلعين في صراعهم مع قوى الهيمنة والاحتكار، وكان بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لواقع حال حركات سياسية وانظمة، حاكمة في عدد غير قليل من بلدان العالم الثالث ومنها عالمنا العربي، ولا اغالي اذا قلت انه كان عامل جوهري في تداعيات لاحقة على الصعيد العالمي والاقليمي والوطني، ومس مسلمات كانت قد تغلغلت في كل المناحي ومنها الفكرية والثقافية والسياسية، ولم تكن هذه الشعرة غير سبب مسرع لانقصام ظهر البعير، لان الاحمال الثقال والغير مناسبة لظهره، كانت منذ البداية سببا لتعثره وتباطئه، حتى وصل به الوضع لذروة الازمة، وفي اللحظة التاريخية الحرجة، سقط بحمله الذي تحول كله الى سقط متاع!

الدولة القومية ربيبة الراسمالية الاولى:

الدولة القومية ظاهرة تاريخية حديثة نسبيا، ارتبطت في جوهرها بظهور وتطور وسيادة الرأسمالية، بعد انحسار الاقطاع واضمحلاله، ومن قبله انماط الانتاج المعتمدة على العبودية والقنانة، ونمط دولة الريع الاسيوي، وغيرها من اساليب الانتاج المتداخلة. وكانت اوروبا بحكم تأثيرها الحداثوي والذي استثمر عميقا وبعيدا بخيرات وثروات وانسان الشعوب الاخرى، اكثر قدرة على لعب دور المحرك العالمي في العصر الحديث كمعيار للتوصيف، بمعنى هيمنته وليس نموذجيته، وليس لانه يختصر اويكثف الحالة العالمية للتصنيف، ففي العالم غير الاوروبي هناك سياقات اخرى وانماط اخرى تتباين ومعطيات التطور الاجتماعي الاقتصادي الحاصل في اوروبا، من حيث اشكال وحيثيات مراحل هذا التطور، لا جوهره، لانه واحد في كل الاصقاع، طبقات تتباين وتتصارع لاختلاف مكانتها في عملية الانتاج ” بمعناها الكلي”، وفي توزيع الثروة، واستهلاكها، وعليه كان نشوء الدول القومية في اوروبا بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واخرها، قيام الدولة الالمانية الموحدة، والدولة الايطالية الموحدة، علامة هامة في تطور الراسمالية على طريق الاحتكار الخاص للسوق المحلية ” القومية “، وقد فتح هذا التطور المجال واسعالانبثاق دولة الامة بمفهومها الحديث والدقيق، حيث دولةالسوق الواحد بقوانينه المنسجمة مع درجة تطوره وتمركزه الراسمالي، انها دولة الاقليم الواحد، دولة المواطنين دافعي الظرائب، دولة الشعب الواحد الذي يمتص مافيه من عرقيات متعددة، بثقافة ذات صبغة سائدة لغويا ودينيا، تحدد معالمها الاكثرية حسب تقاليدها واعرافها، وتراثها، حتى يقنونها ضمن عقد اجتماعي، هو الدستور ومنظومة الاعراف القانونية، وفي خضم هذه العملية تبرز مخاضات، للصراعات الطبقية والاجتماعية الاخرى لتحسين مواقع كلا منها، ونيل مكاسب جديدة، وهذه وغيرها مجتمعة، مميزات الامم الراسمالية المتحتمة، امة السوق الواحد،، حيث لايهم من يكون اصل وفصل البائع والشاري، المهم انه يؤدي وظائفه، وهو ابن هذا السوق الذي يحمل جنسيته، ولا يهم بأية لغة يتحدث في الاصل، المهم انه يتحدث لغة السوق، التي هي لغة الاقليم ـ الوطن، ولهذه الدول ريف، هي مناجم للخامات الزراعية والمعدنية والبشرية، انها المستعمرات في كل اسيا وافريقيا والامريكيتين، والمتحكمين بالاسواق الاوربية ” الدول الاوربية الاستعمارية” هم من يتحكم بهذا الريف وموارده، انهم يتعاطون مع الشعوب المستعمرة على انها جزء من فائض قيمهم!

لقد قاومت الشعوب كعادتها، مستعبديها وقاتلتهم طلبا للحرية والاستقلال،وهكذا ظهرت الى الوجود حركات التحرر الوطني، ومنها حركة التحررالعربية.

الدولة القومية ظاهرة تاريخية ارتبطت بالراسمالية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية، وانها اي الراسمالية قد حققت ذاتها أوروبيا، وفرضت شروط هيمنتها عالميا، لذلك تكون اي معالجة لمسار الحركات القومية وتطورها بشكل عام ناقصا اذا لم يستفيد من مرهونية الاشتراطات الموضوعية المتلاحقة والمتفاعلة مع الدور المترابط عالميا في نتائج تطور شكل الدولة الحديثة في اوروبا الراسمالية ذاتها. ومنذ مراحل تطورها الناضجة، من راسمالية المزاحمة الحرة الى الراسمالية الاحتكارية الخاصة الى الراسمالية الاحتكارية العامة. وهي المرحلة المتقدمة في تطورها الحالى “الامبريالي” وهذا ما اطلق عليه تسمية العولمة الموضوعية تاريخيا. ومعروف ان القوانين الداخلية للراسمالية تؤدي حتما الى الازمات العامة، التي هي احد اهم اسباب نموها المتلاحق والمتناقض ايضا، ولهذه الازمات انعكاسات بنيوية في تطور واتجاهات كافة مناحي الحياة في عالمنا الانساني، ومنها الحركات القومية ونضالاتها واهدافها في كل مكان. والراسمالية الاحتكارية العامة تعمل على تحوير ازماتها المزمنة، الناتجة عن ” تناقض قوى الانتاج بمعناه الشامل مع علاقاته الشاملة ” بحيث يتم تصريف تبعاتها ونتائجها وفضلاتها في مكبه اومزبلته ـ العالم النائم ـ وهي تذهب ابعد من ذلك عندما تسعى لتنظيم مساراتها المتحتمة مستفيدة من تطور صيرورتها الذاتية ” خاصة ـ عامة ” نحو السيادة الكاملة على مقدرات واتجاهات شعوب الارض، جاعلة من عولمتها قارب النجاة الموضوعي لها، وذلك لمردوده عليها بالانتعاش وتزايد في نسب النمو وتسارع التوالد التقني والانتاجي، الذي يفرض تبعية مطبقة في الاستهلاك ويشيع ثقافة القطب الواحد الى ماشاء الله!

ليس معنى هذا انها خالدة ومطلقة تاريخيا كما يذهب ” فوكوياما” اوكما يقول نصا: ” ان نهاية التاريخ هو سيادة النمط الامريكي وعولمته على العالم ” بل انها نهاية تاريخ التعددية لصالح الاحادية بكل ماتحمله من معاني، فهي تسعى للهيمنة على العالم وتحديد اتجاهات تطوره المستقبلي، لا السيطرة الانية عليه فقط، وهذه السيطرة متحققة بشكل ما وخاصة بعد زوال العائق السوفياتي وتبعاته، حيث اصبح الباب مفتوحا على مصراعيه، للخطوة التالية،التي تدخل في صلب متطلبات تطمين مستقبل هيمنتها،الا وهي التحكم ولو عن بعد بسوق الطاقة واخضاعه بالمطلق لارادتها!؟

الدولة العثمانية وعقم انتاج دولة الامة:

حوالي 400 سنة من الحكم العثماني للبلاد العربية، والقسم الشرقي لحوض البحر الاسود لم تنضج دولة الامة!؟ بل ظل شكل الدولة يدور بحلقة من المد والجزر، المعتمد على نظام القوة العسكرية الصارم ” الجندرمة “، واقتصاد الريع، الذي جعل تراكم الثروة تراكما طفيليا، وشكل بدوره عملية عقيمة غير منتجة للقيم الفائضة التي تدخل في استثمارات الانتاج، أي انها غير متحولة لقيم تبادلية، وانما بقيمة اوحادية، ادخارية ـ استعمالية، مما جعلها تعاني من الانهاك والنكوص، حتى انسحب ذلك على كل اداءها، ولم ينفع الاصلاح الفوقي الذي حاوله المجددون، فكانت محاولاتهم مد مؤقت يغمر اوصال الدوله، ويشد بقوة جذب المركز كل اصقاعها، ثم ما يلبث ان يرتد لوضعه الطبيعي، جزر مزمن، يقطع اوصالها مجددا، ويهدد نظامها بالانهيار، وعليه اصبحت الدولة مريضة بالدوران حول نفسها ودائخة ” لفقر دمها المزمن”، فكان لها كل الاستعداد للموت حتى لو لم تدخل الحرب ضد الحلفاء، فهي قد استنفذت عمرها الافتراضي!

ان شكل ملكية الارض وانتاجها ينعكس على توزيع الثروة واستهلاكها، وبالتالي قد يتحول شكل الملكية هذا الى عامل معيق لتطور عملية اعادة الانتاج، مما يعطل اليات النمو المتناسبة مع القدرات الفعلية لانتاج الثروة ” القيم المنتجة او المستحصلة ” مع تخلف وتردي في اشكال توزيعها واستهلاكها.

ان علاقة دولة الخلافة العثمانية بأمصارها كانت علاقة جبي لريع الارض وما عليها، بحيث غدا تنصيب الولاة عملية مزاد علني يفوز به من يعرض اكبر نسبة من الريع يمكن ان يقدمه لبيت مال السلطان، وهو ذات الاسلوب الذي كان سائدا في اغلب الدول الاسلامية ” الاموية، والعباسية، والفاطمية وغيرها ” وفي اغلب امبراطوريات الشرق القديمة. فالارض التي يسيطرعليها، يتم التعاطي معها حسب نظام الملكية الساري فيها، اما اراضي الحكام المدحورين وامرائهم فهي وقف للدولة، تقسمها وتملكها وتأجرها لمن تشاء، وهذا النظام اختلف عن نظام الاخماس الذي اتبعه الرسول في خيبر وغيرها، وكذلك الخلفاء الراشدين، في ارض العراق ومصر والشام، فصارت الامصار اشبه بالاقطاعيات التي تدر ريعا محسوبا للدولة بخلاف الجزية ” ظريبة على الافراد من اهل الذمة “، والعشر “ظريبة على المسلمين من اصحاب الملكية “.

ان هذا الشكل من ملكية الارض واسلوب التصرف بريعها ثم شكل استهلاكه، قد اسهم في تراجع وتردي القوى المنتجة، مما ترتب عليه ضعف الانتاج ذاته، لاسيما وان اغلب اراضي الامصار الزراعية التابعة للدولة العثمانية كانت تحتاج الى نظام ري بالواسطة، اي تلبية اصطناعية لسقيها، مع قلة من الاراضي المروية ديميا أي بالاعتماد على السقي الطبيعي.

ثبات هذا الشكل من ملكية الارض في الدولة العثمانية، وعدم تحوله الى شكل “سوقي” اي شكل متحرك بقيمه بيعا وشراءا، كما حصل في اشكال ملكية الارض في المجتمعات الاخرى ” الروماني، الجرماني ” التي كانت اكثر حركة واصبحت قيم سوقية ممهدة، مما سهل عليها الخروج نحو فائض القيمة الرأسمالي لاحقا. هو واحدا من اهم الاسباب لانغلاق دورة اقتصاده ثم تأكله وانسداد افقه السياسي فيما بعد. وعليه لم تنشأ سوق حقيقية موحدة ومتكاملة بين اجزاء هذه الدولة المترامية، مما يعني غياب القاعدة المادية لبذور قيام الامة! ولم يشفع لهاعامل الوحدة الايديولوجية والروحية المتمثلة بالدين الاسلامي، ولا التقارب الثقافي والجغرافي، بين اغلب مكونات الدولة العثمانية من قوميات وشعوب وطوائف، ولا اتقان اغلب نخب مكوناتها للغة التركية. والمفارقة انه على الجانب الاخر من المحيط، ومنذ بواكير القرن الثامن عشر كانت تتشكل بذور امة جديدة عمرها اقل من مئتي سنة وهي من اعراق واقوام واديان وثقافات مختلفة، انها الامة الامريكية!؟

العرب والدولة العثمانية:

العروبة انتماء ثقافي يتعزز بروابط التواصل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والفكري ليصل لذروته في التوحد كحصيلة للتكامل الطبيعي بين اجزاء تحتاج لبعضها البعض بحكم عوامل الجغرافية والتاريخ ووحدة المصير، وهذا الاستيعاب الحداثي يتجاوز الفهم العرقي للعروبة كعصبية قومية للعرب العاربة والمستعربة، انهم شعب توحده عدة هويات منها هوية الانتماء القومي والحضاري والروحي المشترك فالمسيح العرب والصابئة والامازيغ والمستوطنين الشركز والاكراد وحتى اليهود العرب والدروز والسواحليين والطوارق وغيرهم من عناصر الخلطة السكانية، كلهم عرب بالانتساب الى الهوية الثقافية التي تتعزز بثقافة الامة المتصيرة في رحم الحداثة ذاتها والتي تفرضها آليات السوق الموضوعية!

حتى الفهم التقليدي للعروبة اذا جرد من العصبوية وانتهج منهج المعرفة العلمية التي تبحث عن جذور التعايشالانساني وعبر التاريخ في منطقتنا التي تعتبر قلب العالم القديم ومركز انطلاقته، فاننا نجده ينحاز لاعتبار معظم الاقوام والشعوب المختلطة والتي تسمى جزافا سامية بانها شعوب واقوام عربية بما فيهم السومريين والاكاديين والعبرانيين والاراميين والاشوريين والاقباط والليبيين واقوام سبأ وحضرموت والنوبة وكل اقوام حوض النيل ودجلة والفرات!

من نافلة القول ان عرب شبه الجزيرة وتحت راية الاسلام راية التوحيد الايديولوجي والتحرر من المراكز الحضارية المتمددة الاخرى ومن ثم التوسع ـ الفتح ـ قد شكلوا اخر موجة من موجات التصير التاريخي لشعوب المنطقة قاطبة، وكانها انطلاقة جديدة تروم لبلورة نواة أمة بالمفهوم التاريخي التقليدي ـ لما قبل امة السوق ـ!

كانت العروبة هي النواة في أفق الاسلام الموحد والمجدد. “نحاول التلميح هنا الى ان التسمية الدقيقة، ستكون شعوب عربية قديمة وحديثة محل شعوب “سامية”، كما ذهب العلامة المؤرخ جواد علي، وهو يضع بذلك اصبعه على عين الصواب “. وعليه فأن لهذه السلالة، عراقة متميزة ارتبطت بأقدم الحضارات الانسانية، فأبراهيم السومري الاصل هو ألاب الروحي لكل ديانات التوحيد، وهو عربي بكل ماحمله من هموم ومشاغل، انه ابن بار لهذه الارض بسهولها ووديانها وصحاريها وجبالها وثقافتها، وعندما يتنقل فانه يجول في ذات البلاد، بلاده، بلاد العرب من السواد الى بلاد الزيتون والى الكعبة المقدسة ثم الى ارض الكنانة، لتطير بعدها رؤياه الى كل الارجاء، اما بني عثمان فهم اقوام نازحة من وسط اسيا وفي احقاب متاخرة نحو بلاد الانضول، وقد اعتنقوا الاسلام، فأرتفع شأنهم حتى تمكنت أمارتهم من التوسع وتكوين امبراطورية جديدة تطرق ابواب اوربا براية الاسلام المتدفقة وقتها، وهذا ما جعلهم محط تقدير اغلب الشعوب الاسلامية المنطوية تحت حكمهم، وخاصة العرب اصحاب هذا الدين وحملة وحماة لسانه ” لغة القران “.

ان طغيان الاستبداد والاستهلاك والعبودية، جعل من الحكم العثماني احتلالا اسودا قاسيا، وكان العرب هم من وقع عليهم الوزر المزدوج، فمن ناحية هم ملزمون بدعم راية الاسلام التي يحملها العثمانيون ومن ناحية اخرى اصبحت بلادهم مجرد بقرة حلوب لبيت مال الاستانة وسلطانها، وجرى التعامل معهم كتابعين ومستضعفين، وهذا ما حفز النخب العربية،على التصدي وبأشكال مختلفة لسياساتهم وعجرفتهم. وقد قامت انتفاضات عديدة ضد الولاة العثمانيون لكنها قمعت بقساوة وبطش فريدين كما حصل ذلك في لبنان وسوريا ايام ” جمال باشا السفاح ” مثلا وليس حصرا، وفي غيرها من الولايات العربية، ومن ناحيتها حاولت النخب العربية العاملة في مؤسسات الخلافة وحاشيتها وجيشها،الاجتهاد في تنظيم نفسها والتعاون مع القوى التركية الراغبة بالتغيير، وهذا ما حصل فعلا، في تعاونهم مع حزب تركيا الفتاة من اجل تقييد السلطان بدستور متمدن يعطي حيزا من الحريات للولايات وشعوبها ويبني دولة حديثة تجاري المتغيرات العالمية، وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر، حتى قيام انقلاب حزب تركيا الفتاة واستلامه السلطة في الاستانة سنة 1908، وكان تنصله لعهوده ووعوده للعرب وغيرهم، سببا مهما في تفكير معظم النخب العربية، بالتحرك المستقل والمطالبة بالانفصال عن العثمانيين، ولم تجدي كل محاولات المصلحين الكبار من امثال جمال الدين الافغاني وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم، في اصلاح حالة الانحدار، رغم انهم قد اسدوا النصح المخلص للباب العالي وحثوه على التصدي للتغلل الاجنبي الاستعماري ” الانكليزي والفرنسي ” في شؤون دولة الخلافة.

الثورة العربية الكبرى وباب عالي جديد:

كانت مراسلات “ماكمهون الشريف حسين ” قبيل الحرب العالمية الاولى التمهيد السياسي للتحول في شكل المواجهة العربية مع الحكم العثماني، حيث نتج عنها اتفاق “الصفقة” الذي ينص على التعاون بين العرب والانكليز للاطاحة بالعثمانيين في مناطق الحجاز والشام والعراق مقابل استقلال هذه البلاد بحكم عربي يتزعمه اشراف مكة. ان هذا الاتفاق الاستراتيجي يشكل نقطة تحول في منطلقات النخبة العربية واجتهادها. وقد استقطبت هذه الثورة العربية بمعزل عن “صفقتها مع الانكليز” الغالبية من العرب العاملين في دواوين وجيش الدولة العثمانية. وفعلا نجح الثوار العرب بدعم من القوات البريطانية في الحاق الهزيمة بالحاميات التركية في اغلب مناطق الحجاز والعقبة والاردن حتىدخلوا دمشق دخول المنتصرين. وبعد الاندحار الكامل للدولة العثمانية، عمل الانكليز والفرنسيين حسب اتفاقية “سايكس بيكو”، وحاولوا التملص من عهودهم السابقة، مقابل حكم اولاد الشريف حسين لشرق الاردن والحجاز، بوصاية انكليزية، وهذا ما اعتبر نكوص جديد لحركة التحرر العربية.

لقد عرض ممثلو العرب في مؤتمر فرساي مطالبهم واولها حقهم في الاستقلال والتحرر من التبعية، اضافة الى حقهم في وحدة بلادهم، واتضح لهم لاحقا ان المؤتمر ذاته، هو استعراض قوة مغلف للدول الاستعمارية المنتصرة في حربها الاولى، وهي تحاول اقناع شعوب البلاد التي اصبحت من نصيبها، بأنها تنظر بعين متجاوبة مع مطالبها العادلة!

ولم تكن الحركة الصهيونية واخطبوطها العالمي وقتها، بمعزل عن المتغيرات هذه فقد حاولت مع الجميع: عثمانيا من خلال تغلغلها في جسد الحكم لانتزاع موافقة الباب العالي لممارسة نشاطها الاستيطاني في فلسطين. ولما صدهم العثمانيون وقفوا بكل قدراتهم لدحرهم في الحرب، ولم يكتفوا بذلك بل كثفوا من ضغوطهم المالية واتصالاتهم لانتزاع وعد بالمساعدة على اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فكان وعد بالفور من سيدة العالم وقتها بريطانيا، وقبل ذلك كان جهدهم في التأمر على روسيا القيصرية وتعاونهم الشيطاني مع اليسار الروسي لاسقاط حكم القيصر. ان مجاميع الضغط الصهيونية المنتشرة في المفاصل الفاعلة حول العالم، جعلت من مهمة الاحتلال الاستيطاني لفلسطين ومن ثم قيام دولة اسرائيل امرا هينا، والحقيقة ان الدول الاستعمارية ذاتها قد اشترت المشروع الصهيوني وسخرته لخدمة اهدافها البعيدة، في قلب عالمنا العربي. لذلك كانت خسارة فلسطين هي واحدة من ابرز مؤثرات ما بعد الحرب العالمية الثانية،على مسار حركة التحرر العربية.

الحروب الكونية الاولى والثانية واعادة تقاسم العالم:

نتيجة لاختلاف مستوى التطور لدى البلدان الراسمالية ” الاستعمارية” وتفاوته، ومايفرزه ذلك من تناقضات في ظل التنافس الامبريالي على السيطره والتحكم في طرق الاسواق العالمية وتوريداتها وفي الاحتلال المباشر للبلدان الاخرى، لنهب خيراتها والتحكم بسوقها، قامت الحرب العالمية الاولى، المانيا تريد حيزا يوصلها الى المياه الدافئة! وايطاليا تريد حصة تناسبها في افريقيا واليابان تريد الاستفراد بشرق أسيا، والدولة العثمانية هذا “الرجل المريض” الذي يريد التشافي بعقاقيرأوربية، ليجدد شبابه بها من جهة، ويتملص من النفوذ المتفاقم لانكلترا وفرنسا، في امصارها من جهة اخرى. اما بريطانيا وفرنسا فقد توصلا الى حلف تسويقى، انساهم حروب الماضي لتقاسم مايمكن تقاسمه من مستعمرات جديدة مستبعدين في قسمتهم هذه الدول المنافسة الاخرى، ومن اجل ذلك تحالفا مع روسيا القيصرية لتكون عونا لهما في اشغال الالمان والعثمانيين، والقيصر يريد الحفاظ على ارثه الممتد شرقا وغربا بالتحالف مع الاقوياء، انها حرب من اجل اعادة تقسيم الحصص بين اللصوص الكبار، وحصل ماحصل، وانتصر التحالف البريطاني الفرنسي مع الامريكي، الذي دخل الساحة متأخرا، وهزمت المانيا وايطاليا واليابان والدولة العثمانية شر هزيمة، لكنها لم تكن الا جولة اولى في الصراع، ليعيدوا حساباتهم ثانية، واليدخلوا مجددا حلبة النزال، من اجل جولة ثانية ارادوها حاسمة!

كانت الشعوب المغلوبة على امرهاالضحية الاولى والاخيرة لحمام الدم الكوني هذا، الذي ارادوه قربانا لآلهة السوق وتجارته الفاسدة. وعلى هذا الطريق زهقت ارواح الملايين من ابناء الشعوب الاوربية والاسيوية والافريقية!

ان الغول الامبريالي لا يرحم، فعندما تكون نسبة الفوائد المضمونة لمشروعه، تتعدى حاجز500%، هو على استعداد لابادة نصف البشريه ليكونوا كبش الفداء، والجزء المتبقي من التالف لتشطيب ما تبقى من المشروع المطلوب، ومن هذا الفهم كانت مقاومة الحركات الشعبية والثورية في اوروبا لسياسات حكوماتها اللانسانية، كذلك كان نضال شعوب المستعمرات الساعي للتحرر والتقدم والافلات من قبضة مصاصي الدماء، ورغم فضاعة الخسائر، كانت هناك نتائج عرضية لصالح القوى والحركات المناهضة لتجبر وتضخم الاحتكار الامبريالي العالمي، وكما يقال احيانا عندما يتقاتل الكبار يستفيد الصغار، فحصل ما كان غير متوقعا حيث قامت الثورة البلشفية في روسيا، ونجحت في اسقاط حكم القيصر، لتقيم والاول مرة في التاريخ نظاما سياسيا يعتمد الفكر الاشتراكي اساسا له في كل مناحي الحياة، لقد كانت روسيا الحلقة الاضعف في القلادة الامبريالية العالمية، وصراعها العسكري المرير مع المانيا جعلها تزداد انهاكا، مما خلق للثوار فرصة تاريخية سانحة للتغيير، ولا يخفى هنا الدور الالماني المساعد لنجاح الثورة. وعليه كان اول عمل قامت به هو الانسحاب من حرب الحلفاء، واقامة صلح مع المانيا “صلح بريست ” الشهير الذي تنازلت فيه حكومة الثورة عن اجزاء من اراضيها لصالح الالمان!

لقد ورثت الثورة الجديدة معسكرا ممتدا من سجن المستعمرات في اسيا الوسطى، وبعض مناطق البلطيق، وعملت هي على اعادة تأهيل روابطها معها، فكان قيام اتحاد الجمهوريات السوفياتية لاحقا هو الثمرة اليانعة، التي جسدت علاقة روسيا بمستعمراتها السابقة. وقد اعطت بذلك دفعا جذابا ومحرضا لكل الشعوب المستعمرة الاخرى وخاصة شعوب الشرق، مما جعلها في موقع الند مع القوى المنتصرة في الحرب الاولى.

ان اهم الخطوات التى خطها النظام الجديد على الصعيد الدولى هو فضح المعاهدات الاستعمارية التي كان لروسيا القيصرية دورا بها ” معاهدات سيكس بيكو “.

ثم العمل لاستنهاض الشعوب المستعمرة من اجل التحرر والانعتاق، وذلك بتقديم الدعم المادي والمعنوي لها. ان ثورة اكتوبر هي احدى النتائج غير المباشرة للحرب العالمية الاولى وكان لقيامها ونجاحها اعظم الاثر في مسارات حركات التحرر والثورة العالمية لاحقا.

لقد جاء اعلان مبادئ ويلسن ال14 في كانون الثاني من عام 1918 أي بعد انتصار حلفائه، وبعد الصفعة السياسية والدبلوماسية التي سددتها الثورة الروسية لدول التحالف الاستعماري المنتصر!

جاء ليذر الرماد بالعيون، فهو يبرر دخوله الحرب بتحرير الشعوب وليس استعمارها، اضافة الى حقها الشرعي بتقرير مصيرها. المفارقة ان ذات الديباجة استخدمها معظم المستعمرين والمحتلين السابقين والاحقين، ويبدو انها محاولة للتقليل من شأن مافضحته ثورة اكتوبر حينها!

جاء دور الحرب العالمية الثانية 39 ـ 45 أي بعد حوالى عقدين من نهاية الجولة الاولى للصراع غير المقيد بأي واعز اخلاقي اوديني او انساني، حيث حصدت ارواح اكثر من 40 مليون انسان، والحقت الدمار ليس في اوروبا وحدها وانما في اغلب بقاع العالم القديم ” اسيا وافريقيا واوربا “، فتحولت برلين الى خرائب، وهيروشيما ونكازاكي الى جحيم ذري حداثي، وشمال افريقيا الى ترانسيت للقوى المتصارعة!

ما ميز الجولة الثانية من حروب المحور والحلفاء هو استدراج الاتحاد السوفياتي للمشاركة بها “مكرها” الى جانب دول الحلفاء، للتخلص منه او انهاكه على اقل تقدير لكن الصمود السوفياتي ونجاحات الجيش الاحمر في ملاحقة الجيش الالماني حتى دخوله برلين جعل الامور تسير بما لا تشتهي سفن الغرب المحوري، وهذا ما حتم ظهور معسكرين وقطبين متنافسين وبشدة على المسرح الدولي ـ دول حلف وارشو ودول الحلف الاطلسي!

لقد وقف ستالين كتفا الى كتف مع تشرشل وايزنهاور، وقفة المنتصرين والمتقاسمين للمكاسب المكتسبة، مما فرض على السوفيات نمطا جديدا من التسابق لم تكن هي مستعدة له، فكانت دول الكتلة الاشتراكية قد دخلت معمعانا بدفع خارجي اكثر مما هو بفعل دوافعها الذاتية وهذا ما جعل من السوفيات يقومون بدور الشرطي عليها مما تسبب بتشوه المسار كله واثر لاحقا حتى على الداخل السوفياتي نفسه!

“السوفيتات” محاولة لايجاد نمط جديد لدولة الامة:

حاول السوفيات حل مشكل القوميات داخل الدولة الاشتراكية بطريقة تضمن حقوقها وتجسد تفاعلها مع متطلبات النظام الجديد، نحو امة سوفياتية اشتراكية واحدة! لقد قام اتحاد فدرالي بين جمهوريات متعددة 16 جمهورية مع كيانات ذات حكم ذاتي لبعض القوميات “الصغيرة” ضمن اطار الجمهورية الواحدة، وقد تكامل هذا الحجم بعد نهاية الحرب الثانية وضم جمهوريات البلطيق الى الاتحاد السوفياتي. لقد كان المحتوى النظري متطابق مع المتطلبات السياسية لحل عادل و”ثوري” لمشاكل التعدد القومي. لكنه افتقد كما البناء الاشراكي ذاته الى محرك تشغيل افراز المادة اللصقة، اي الاقتصاد الذي تتناسب فيه تطور علاقات الانتاج مع قواه!

لقد قام الاقتصاد السوفياتي حقيقة على نظام مركب يجمع بين المركزية في الانتاج والتوزيع وبين شراكة عامة في الاستهلاك مع ملكية الدولة لوسائل الانتاج، التي تسمى تجاوزا الملكية العامة او الملكية الاشتراكية، وهذا التركيب بحد ذاته يعطل من النمو الطبيعي لقوى الانتاج ويدخله في ازمة مع شكل العلاقات السائدة، التي ستكون رأسمالية الدولة الطفيلية ” المقنعة”! رغم حسن النوايا. لذلك ضعف الاصق الايديولوجي وانهار امام اجترار وجفاف وتكسر دورة الاقتصاد .

وعليه لم تكن هناك سوق “اشتراكية” لمواطني الدولة، يحصل فيها التبادل والتلاقح الذي ينتج واقع الامة وثقافتها!

ان الاقليم الواحد والرابطة الايديولوجية الواحدة وبالتالي النظام السياسي الواحد، ليست سوى عوامل مساعدة لانتاج الامة فجوهر انتاجها يكمن في انتظام وتناسب مكونات دورة اقتصادها ونموه وجوهر معيارها السوق بعرضه وطلبه وليس باي شيء اخر.

التحالف الامبريالي الصهيوني ونجاحه في اقامة الكيان الاسرائيلي:

تاريخيا يعيش اليهود الشرقيين في معظم الامصار العربية من المغرب الى عمان مرورا بمصر وبلاد الشام والعراق واليمن، ولم تظهر الحركة الصهيونية بين ظهرانيهم، وانما ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر في اوروبا كمشروع استعماري استيطاني يهدف لاقامة مستعمرة ذات طابع يهودي في الشرق، ولم تكن فلسطين منذ البدأ مكانا مختارا لاقامة المشروع المستوطنة ففي البدأ تم اقتراح سيناء واليمن وقبلها اوغندا حتى استقر رأي الحركة ومؤسسها تيودور هرتزل في مطلع القرن العشرين على فلسطين وليس غيرها، لقد زار هرتزل مصر عام 1904 ليفاوض الانكليز والخديوي من اجل تنفيذ المشروع الصهيوني في شبه جزيرة سيناء ولكنه فشل في مهمته، يقول مكسيم رودنسون: ان التعصب العنصري يحكمه قانون اساسي، وهو انه يشتد كلما التقت الفوارق العنصرية ـ حقيقية كانت ام مدعاة ـ مع فوارق اقتصادية، وقد احترف تجار اليهود في اوروبا ابان العصور الوسطى تجارة المال والاقتراض بالفائدة، كانوا الراسماليين في وسط مجتمع اقطاعي فحل بهم سخط الاقطاعيين ورقيق الارض في آن واحد. ولكن حين نمت الراسمالية في اوروبا الغربية على مستوى المجتمع كله اختفت المشكلة اليهودية لان اوروبا الغربية غدت ـ كما قال ماركس ـ كلها يهودية، اي راسمالية ـ انظر كتاب في مواجهة اسرائيل للدكتور اسماعيل صبري عبدالله دار الوحدة للطباعة والنشر بيروت 1980 ـ!

لقد حدد هرتزل الاتجاه باوجز عبارة عندما كتب 1908 قائلا: ” ان دولة يهودية في فلسطين او سوريا ستكون امتدادا للحضارة الغربية وحصنا ضد الهمجية الشرقية ” بمعنى ان هرتزل وبالرغم من كل نطريته العنصرية في تمييز اليهود يؤمن بانهم في النهاية اوربيون، وهو بذلك لا ياتي على ذكر اليهود الشرقيين ” المتخلفين ” بحسب حسبته الانتقائية!

كان وعد بلفور 1917الذي منح للحركة الصهيونية من قبل الحكومة البريطانية التي كانت تحتل فلسطين حينها بالمساعدة على اقامة وطن قومي لليهود فيها يشكل اول عقد رسمي بين الحركة الصهيونية والامبريالية العالمية لتحقيق المشروع الصهيوني الذي يخدم الاجندات المتبادلة للطرفين فالغرب ومنذ الحروب الصليبية كان يهمه وجود اذرع وقواعد ثابته له في المشرق تقوم على اساس البؤر المحصنة لان عملية استمرار الاحتلال المباشر لبلدان الشرق غير مضمونة حتى على الامد القريب، وبعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لتراكم نجاحات المشروع الصهيوني عالميا وفلسطينيا وخاصة بعد زخم التعاطف الدولي مع ما تعرض له اليهود في اوروبا على يد النازية تم دعم العصابات المنظمة للمستوطنين الجدد في فلسطين والقادمين من كل اصقاع اوروبا اليها ـ الهاغانا والارجون وشتيرن ـ لاشعال فتيل الحرب على السكان الاصليين فيها بتواطؤ من الجيش البريطاني فكان قرار التقسيم الصادر من الامم المتحدة والذي لاقي رفضا عربيا شعبيا عنيفا حتم على الانظمة مسايرته، وبعد تدخل الانظمة العربية التابعة اصلا للمحتلين البريطانيين والفرنسيين والتي كانها دخلت الحرب فقط لتبرئة ذمتها من ضياع فلسطين، فكان النكبة باعلان قيام دولة اسرائيل والاعتراف بها عالميا ومن ثم ضياع ما تبقى من ارضها بعد ان عجزت تلك الانظمة في الحفاظ عليها، ان قيام اسرائيل والدور الذي لعبته لاحقا كمساهمتها في العدوان الثلاثي على مصر ومن دون مبرر مباشر يعنيها، يكشف عن حقيقة الدور الاسرائيلي كمشروع محبط لاي توجه وحدوي وتكاملي عربي بين مشرقه ومغربه!

العرب بعد الحرب العالمية الثانية:

لم تكن حركة التحرر العربية بمعزل عن المتغيرات العالمية السالفة، بل كانت في صميمها، فالبلدان العربية التي كانت ولايات عثمانية، اصبحت دول تابعة ومحتلة بشكل مباشر، من قبل الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا وايطاليا بعد الحرب العالمية الاولى، وبعد الحرب العالمية الثانية استطاعت حركة التحرر العربية انجاز العديد من مهام التحرر السياسي، فقامت انظمة جديدة متأثرة بالوضع العالمي المنقسم بين كتلتين، رأسمالية وذراعها العسكرية ” الناتو ” واشتراكية وذراعها ” حلف وارشو “، وهناك طريق ثالث هو طريق الانتقاء وعدم الانحياز، وقد كان للصراع العربي الاسرائيلي دوره الفاعل في تحديد الوجهة السياسية لبلدان المشرق العربي تحديدا في هذا الاختيار. ان التبني الساطع للسياسات الاسرائيلية من قبل بريطانيا وامريكا قد دفع بالعديد من قوى حركة التحرر العربية في التحالف مع المعسكر الاشتراكي ليحصل شكل من التوازن في القدرة على مواجهة اسرائيل ومن يقف خلفها، ومن هذا المنطلق كانت دوافع معظم الانقلابات العسكرية التي حصلت في بلدان “الطوق والاسناد” بعد هزيمة الانظمة العربية المرتبطة بالاستعمار الانكليزي والفرنسي في فلسطين عام 48.هذه الانقلابات قد تحولت الى تغييرات ثورية حقيقية بعد اكتسابها مضامين اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية لمصلحة الفئات الفقيرة من ابناء الشعب. ثورة 23 يوليو مصر 1952، ثورة 14 تموز العراق 1958، انتصار ثورة المليون شهيد في الجزائر 1961، ثورة 23 سبتمبر 1962 اليمن، كانت اهداف هذه الانقلابات الثورية تتلخص في:

ـ طرد الوجود العسكري الاجنبي.

ـ الغاء المعاهدات الاستعمارية الجائرة.

ـ الاصلاح الزراعي.

ـ التأميم الكلي او الجزئي للمصالح الاقتصادية للدول الاستعمارية.

ـ تطوير القطاع العام واعتباره ركيزة الاقتصاد.

ـ محاولات بناء اسس لتنمية حقيقية.

ـ العمل من اجل الارتقاء بالعمل العربي المشترك باتجاه تحقيق الوحدة العربية.

ـ العمل من اجل تحرير فلسطين وايقاف السياسة التوسعية لاسرائيل.

ـ العمل من اجل التحرر الاقتصادي والسياسي التام بعيدا عن الهيمنة الشرقية والغربية.

وكان تأميم قناة السويس 1956 ومن ثم العدوان الثلاثي على مصر بمشاركة اسرائيل، خير نموذج لترابط النضال الوطني بالنضال القومي والاهداف السياسية بالاهداف الاقتصادية.

ان الحماسة الثورية الفتية، التي تفترسها الارادوية الطاغية، تحيد باصحابها عن رؤية جادة الصواب، وتجعلها تستسهل تخطي الشروط الضرورية الموجبة لاي مواجهة جادة، اما بحرق المراحل في زمن لا مكان فيه للارتجال والحرق الاخرق، انها تنتشي برومانسية حالمة، للتأييد الشعبي الغريزي النابع، من تحسس الجماهير، للصدق في ارادت قيادتها، وهذا يدغدغ مضاجعها ويجعلها تتوهم انها ليست بحاجة الى مؤسسات وقواعد ولا لشعب حر الارادة، ولا دولة مؤسسات خاضعة لقانون التداول وفصل السلطات، هذه المقدمة تنطبق على التجربة البكرلاول وحدة سياسيةعربية في التاريخ الحديث، انها تجربة الوحدة ” الفورية ” المصرية السورية 1958 التي سقطت بأيادي من اقاموها..!

رغم تعاطفنا الصميمي مع هذه التجربة وغيرها من محاولات التوحد العربي، الا اننا نرى تحقيق الوحدة وبهذا الاسلوب يعد الان صبيانية سياسية غرضها اجتراري لاهداف سياسية تخدم اصحابها، ان حركة التحرر العربية بلغت الرشد وهي قادرة بنضجها على استلهام السبل الموضوعية والذاتية من واقع التجربة ومن واقع المتغيرات التي تفترض معالجتها واستيعابها لوضع برنامج نضالي طويل الاجل وبنفس ثوري بعيد عن المراهقة السياسية من اجل تحقيق اهداف كل العرب بالتقدم والوحدة والتعاون العالمي البناء.

العرب وهزيمة 67:

كانت تلك الهزيمة تعبير عن فشل المشروع الارادوي للقوى المتنفذة في بلدان الطوق والاسناد التي اختصرت المواجهة مع العدو الصهيوني بمعارك الجيوش، واهملت برنامجها الوطني والقومي، لانشغالها في تأمين تربعها على قيادة السلطة بمعزل عن اي حساب اخر ومهما كانت الاثمان، والتضحية بمكونات حركة التحرر الاجتماعية والسياسية والفكرية والتنظيمية، لصالح الاجهزة والمؤسسات السلطوية المصطنعة والطفيلية.

لقد ادرك الزعيم الخالد جمال عبد الناصر متأخرا مكامن الانحدار، ولم يكن بوسعه قلب الامور، الا بثورة بيضاء تطلق طاقات الناس وحركة تحررها ببرنامج وطني وقومي يبدأ بالممكن ولايحيد عن الهدف. واللتدليل على صحة ماذهبنا اليه نشير الى حرب تشرين 73 وفيها ححقت الجيوش ما تستطيع تحقيقه من تجاوز لحالة الانكسار العسكري، لكنها لم تكن كافية في حسابات المواجهة للمشروع الصهيوني، لان هناك حالة انعدام للمكافئة، انهم يقاتلوننا بمشروع متكامل يمتص التفاصيل، ونحن نقاتل بمشروع مشوه ومتقطع، وعليه لم تكن سياسة السادات لاحقا، اي بعد نصر تشرين الا تعبير منطقي لما اشرنا اليه.

مكونات حركة التحرر العربية واهدافها:

اية حركة لها مكونات واهداف، وحركة التحرر العربية تتكون من قوى سياسية واجتماعية لها اتجاهات متعددة لكنها تسير نحو هدف واحد رغم اختلاف السبل وهذه المكونات هي:

ـ القوى القومية الديمقراطية

ـ القوى الاسلامية المعتدلة

ـ قوى اليسار الديمقراطي

ـ القوى اللبرالية الوطنية،

واذا كان هناك نظام عربي محسوب على احد مكوناتها او يعمل لتحقيق اهداف الحركة بنفس ديمقراطي تعددي فهو جزء منها، رغم صعوبة العثور على هكذا نظام!؟

ان توفر هذه المكونات امر متحقق في مجتمعاتنا العربية نخبويا وجماهيريا وفكريا وسياسا، وقد نضج اغلب رموزها والداعين لها بعد التجارب المريرة ووضوح الهدف. ان معرفة نواميس المتغيرات الجارية في مجتمعاتنا وفي العالم تجعلنا اقدر على تحديد الاهداف القريبة والبعيدة متجنبين الارادوية، لصالح المعرفة الموضوعية والهدف الموضوعي الذي سيكون حتما لصالح المشروع الوطني والقومي المتناسب مع طبيعة المتغيرات الداخلية والخارجية.

ان النضال من اجل احلال السلطة المدنية بكل المعاني الايجابية محل السلطة التي تعتمد على عسكرة المجتمع ومؤسساته، او على اقحام الدين وتحويله الى فزاعة سياسية لقوى منغلقة في المجتمع لتتحكم به، هو ليس بدعة، بل هي رشادة ومسؤولية ادركها الكثير من الوطنيين والقوميين والاسلاميين واليساريين واللبراليين، فهذا ما اشاربه حزب الوفد المصري على ضباط الثورة، وهذا ما طالب به كامل الجادرجي من ضباط ثورة 14 تموز ان يرجعوا الى ثكناتهم ويتركوا السلطة للاحزاب السياسية.

لقد حاول السياسي العراقي المدني الليبرالي عبد الرحمن البزاز فعل ذلك ايضا وهو في السلطة، لكن للعسكرية اخلاقها التي ترفض الاختلاف، وتقدس الطاعة، وحالتهم لاتختلف جوهريا مع دعاة قيام دولة الدين، التي يريد اصحابها مصادرة المجتمع وتفاعلاته النامية نحو دولة الامة. والدين فيها دين دولة وليس العكس.

اهداف حركة التحرر العربية تتلخص داخليا في: بلورة وتطبيق برنامج التنمية الشاملة وطنيا وقوميا باعتماد مبدا التداول السلمي للسلطة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات والحكم البرلماني التعددي، ودمقرطة الاقتصاد الوطني بتطوير اداء القطاع العام والتعافي من علاته ودعم القطاع الخاص المنتج، واعادة انعاش الطبقة المتوسطة ” الحلقة المفقودة ” في التعاقب التطوري المطلوب سياسيا واجتماعيا وسياسيا. العمل على استقلالية المؤسسات الشعبية والمهنية الوطنية والقومية، الدعم الحقيقي للنضال القومي التحرري التوحيدي في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان والصومال والسودان، العمل من اجل رصف المقدمات الضرورية للتكامل الاقتصادي العربي، وحرية التجارة، وانتقال الايدي العاملة العربية. رفع القيود امام الاستثمارات العربية البينية وفصلها عن المتغيرات السياسية. العمل من اجل بناء تكتل اقليمي فعال يعزل اسرائيل ويقاطعها حتى تنصاع لتنفيذ كامل قررات الشرعية الدولية، المساعدة على اعادة بناء منطمة التحرير الفلسطينية وتاسيس اكير حلف اهلي عربي معها فقضية فلسطين هي بالفعل القضية الاولى امام حركة التحرر العربي عامة، ولانها كذلك فان تحقيق الحل العادل لها لا يتم الا باقامة انطمة وحدوية تقدمية تبني ولا تفسد!

ان هذه الاهداف وغيرها تحقق الحد الادنى من شروط التضامن والوحدة بأتجاه الهدف المنشود استكمالا للمستلزمات الموضوعية للانجاز الفعلي للمفهوم المتآكل للامة العربية، والذي يطلق مجازا اليوم، لانه يتطلب اولا توفر اسواق عربية مستقرة باقتصادها المنتج وحرية الاستثمار الوطني والقومي فيها، ثم يجري التنسيق بينها واخيرا دمجها لتكون قاعدة هذه الامة بعد ان تكون قد انجزت تحولها الديمقراطي الوطني.

اما خارجيا فان اهم اهداف حركة التحرر العربية هو انفتاحها على مكونات حركات التحرر العالمية.

ومواجهة السياسات المدمرة للامبريالية العالمية وعولمتها المتوحشة، والنضال من اجل امم متحدة حقيقية بعيدة عن الاستئثار والهيمنة، والسعي لتطبيق قراراتها بحق اسرائيل وكل البلدان المحتلة. ودعم الجهود العالمية لنزع السلاح النووي وجعل العالم اجمع خاليا منه، والعمل من اجل صيانة البيئة والمناخ من عبث الدول الصناعية الكبرى، والنضال من اجل مكافحة الفقر والغاء ديون الدول المتعثرة ومكافحة الامراض المستعصية، وتشكيل منظمة عالمية لمعالجة الكوارث الطبيعية واثارها والعمل المشترك مع الدول الاسلامية والاوروبية المتوسطية من اجل تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية المتوازنة.

ان نهوض حركة التحرر العربية مرهون بتواصلها ونضالها من اجل تحقيق الاهداف المذكورة دون كلل او ملل واستعادة الثقة بتاريخها لتستعيد زمام المبادرة مجددا.