ثقافة الإحتراف

ألعقل التاريخي…… والعقل المخاتل

أحمد حسين

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة العاشرة ـ العدد 2249)

منذ استسلام العقل العربي لسيادة النصوص على وعيه، تحركت الثقافة الهجرية، إما تحت سقف النص أو على جوانب الإطار الذهبي الذي يحيط بمنطوقه القليل ودلالته العظيمة. ومن الطبيعي على ضوء مصدر النص أن تكون الحركة حوله أو تحته امتحانا لقدرة العقل على الإمتثال فقط، وتلبس ثقافة الحال. ليس هناك بحث عن خيارات خارج الفهم الممتثل. والفهم هنا ليس توقفا عقليا أمام كلمات تاريخية، أي ليس فعلا ثقافيا للذات، إلا بمدى ما يعين على تحقيق صوفية ردة الفعل على نورانية النص. هذه النورانية في النص تعني انفتاحه التام على حضوره هو فقط. لهذا اعتبر بعض المتصوفة انشغالات الفقه الحذرة نوعا من الجهل، أي الفهم بالعقل. لأن الفهم بالعقل أصلا، مظهر قصور بشري لا يجوز تعريض النص له. يمكن أن نجلس تحت ظلال الأشجار الوارفة في حدائق النص، لا للعبادة أو الإنشغال وإنما للتلاشي فيه. ولكن قدرة الغريزة المحدودة على الإمتثال عرقلت تحول الهجريين إلى عموم من المتصوفة، وحتمت الإمتثال لغواية الفقه، بدلا منه، كحاجة غريزية للعقل من ناحية، وكضرورة امتثال للقانون الطبيعي، وكاحتياط نظامي دستوري لتحديد مختلف أنواع العلاقات على مقاس نصي ملزم وفضفاض في نفس الوقت، قبل أن تسوء الحال، ويضطر الناس إلى الأختيار بين خلافة النص، أو خلافة التجربة، خاصة بعد رحيل حكومات شهود النصوص وناقليها، من أرستوقراطيي الصحابة المكيين واليثربيين. كان هؤلاء جزءا من النص، ومع ذلك لم يصمدوا تماما في امتحان الضرورة السياسية. ومع رحيلهم كان كل شيئ تقريبا في الحياة العملية، قد تخلص من العفوية الدينية ليدخل في الكهنوت المركب والمتعصب للفئة السياسية والإقتصادية والإجتماعية الخالي تقريبا من أي التزام ديني حقيقي. ولكن كل ذلك كان يجري مع ولاء متزايد للنصوص كآليات نظامية ومرجعيات لوجستية لتبرير القرار، ومنع تدخل العقل الإجتماعي في نظام النص.

ألأيمان في معناه العميق، سمو وجداني مصدره وحي التجربة ونصوص العقل النزيه. وفي بعض الأحيان هو التجاء من وحشة التجربة إلى خيمة المطلق، واعتزال صوفي للتجربة، لأنها تؤدي إلى صخب العقل والحواس دون أن تؤدي إلى الحقيقة. ومهما كانت دوافع الإيمان فإنها تظل تسليما منطقيا. فلا دليل واحدا في التجربة على انتفاء الغاية في الحركة، وفي مقابل ذلك هناك كثير من ظواهر الإعجاز في التجربة تدفع إلى الإيمان الفلسفي أو الوجداني. وخارج المكابرة السخيفة فإن الإيمان حاجة إنسانية مشروعة لها جدلها في النفس والعقل والتجربة. ولكن الإيمان لا علاقة له بالدين الذي لا علاقة له تأسيسا بقضية الإيمان. فجوهر العقيدة الدينية ليس الأيمان وإنما التصديق والإمتثال لدعوة الفكرة ” الرشيدة ” ونظامها في علاقات البشر الطبقية. صياغة اجتماعية زمنية، مهمتها ملء فراغات الوعي أمام عقل الحرية، لحماية وعي الإمتثال الإجتماعي للطبقية ورأس المال. والخلط بين الدين وقضية الإيمان هو سعي من جانب المشروع الديني لتسخير وجدانية الإيمان الذاتية، لتأسيس وجدانية الإمتثال لمشروعه من جانب أتباعه. وفي حين أن ألإيمان هو وعي ذاته، وعلى الأصح لاوعي ذاته، حيث القيمة ليست للمعرفة فيه، وإنما للعرفان فقط،، الذي هو حالة وجدانية فردية، ذات مزاج جمالي صامت، فإن الدين هو مشروع غرضي من أساسه، له وعيه المعرفي الخاص، الشديد الحمية والصخب والتحزب والشجب والمساجلة مع مناهج الزعم الأخرى. وتناول الدين لدينا في ثوب واحد مع الإيمان، من قبل بعض المثقفين، الذين يبدون متعمقين في السطحية، هو ظاهرة للعينات الثقافية الهجرية المغرقة في الضمور والترديدية وبؤس الوعي , أو ظاهرة انتكاب معرفي مباشر له علاقة وثيقة بالترويج الإعلامي للمشاريع السياسية الدولية، التي توظف الدين. والمقصود هنا هو الهجرية أكثر من أي دين آخر. فهي أبرز دينامية دينية في التاريخ تم استغلالها في مختلف أوجه التدمير الذاتي وتعطيل أي نهوض اجتماعي أو معرفي محتمل على ساحتها القومية. فحينما يقدم الدين على أنه حقل إيماني ووعيوي رفيع المكانة في الفكر الإجتماعي، يمس إيمان الأفراد، وليس امتثالهم فقط، يبدو الدين السياسي وكأنه مشروع معرفي وتنموي ونهضوي بديل عن ظاهرة المشاريع القومية الخائبة. وأنه يمثل السمو المعرفي والأخلاقي والقيمي للكثرة المقموعة بالنظام ” القومي “، والتي ترى في الدين منفذا إلى الحرية والتنمية البشرية الرشيدة. هذا الواقع الكثروي، ترتب وجوده على حرفة الثقافة الهجرية التي زرعها ورعاها النظام الهجري، خلال سياقه العقلي المفرد الحركة، والمتخصص فقهيا بإعادة إنتاج التخلف، من ناحية، وعلى الأموال التي ينفقها الغرب من أموال النفط العربي على رعاية متحفية الثقافة الهجرية من ناحية أخرى. هذه الثقافة الوحيدة الخلية لا يمكن إنتاجها تركيبيا، فهي تركيبة خارج مألوف الثقافات تنتج نفسها بنفسها بطريقة الإنشطار والفعل اللاإرادي. ولكن الحفاظ على خاصيتها التاريخية النادرة، أمام ضغط حركة الواقع، يستوجب رعاية مصادرها التاريخية ودعم لوجستياتها المؤسسة بلوجستيات معاصرة للتفعيل السياسي والثقافي العبثي.

الإسلام، ولأسباب تختص بخفايا النشأة وفقه السياسة التاريخي، هو نقيض قطعي بالعقيدة والثقافة الدينية والمزاج الأيديولوجي والسياسي للعروبة وتراثها الإنساني والإجتماعي المؤسس. وليس هذا أوان التوسع في الموضوع، ولكن كون الإسلام دينا غازيا ومشروعا وافدا، حتم علاقة التناحر بين التهويد اليثربي، والأصولية العربية المكية التي تصدت للمشروع. هذا الإشكال التاريخي المستديم يتجدد تناحريا، كلما أحس الغرب أو أنظمة الخلافة الهجرية، بأي مزاج نهضوي قومي في المنطقة الهجرية، ربما يغير كثيرا من المعادلات الدولية والمحلية لو كتب له بعض النجاح. وتعتبر صناعة التحولات العبثية على خلفية هذا الواقع الإشكالي، من جانب مشروع المتابعة الغربي وأدواته على الساحة من فقهاء وخلفاء، الوسيلة المثلى للوصول إلى أهدافه، من حيث تيسر الإحاطة الواسعة بالتفاصيل، والإنجاز السهل والسريع للهدف. فثقافة التواجد الهجرية، ظاهرة أميبية انشطارية تنتج أفرادا متشابهين ثقافيا وسلوكيا إلى درجة الإلتباس. حركتها الوحيدة هي التكرار والتكاثر بالإنفصال الحيوي، وبالتالي التسبب في دورة عبثية عقيمة لا تنتج وعيا متحركا حتى خاصا بها. وما على المشروع الصهيوني الغربي سوى الحفاظ على هذه الظاهرة الفذة بحق، والتي تبدو وكأنها صدفة سعيدة قذفها التاريخ تحت أقدامه. هذه المصلحة الغربية هي التفسير اليقيني الوحيد لانبعاث ظاهرة ما يسمى الإسلام السياسي في عصرنا بكل جوانبها. فهي عبارة عن تفعيل مستحث لطفيليات الفقه الخلافي المتبطلة ومؤسسات ثقافته الإنتكابية. لم يتغير شيء جوهري في ثقافة نظام الخلافة منذ الخليفة الأول والفقيه الأول وحتى اليوم. ألنظام قائم في عزلته البنيوية على كل مستويات العلاقة القديمة بين الخليفة ورعيته. كل ما في الأمر من مستجدات، هو طرح حيوية تخلف التخلف على أنها شكل من أشكال الحركة. تفتتت مركزية النظام الخلافي، وتقومن الإسلام في كل وطن إسلامي عدا الوطن العربي. فظلت الخلافة كثقافة نظامية واجتماعية، حاضرة بكل نصوصها الفقهية لتقيم على أساسها دولتها الحديثة. وظل الخلفاء قائمون بأقل ما يكون من المعقولية التاريخية. وظلت عجول الفقه ناعسة في المراعي القاحلة تحلم بعودة الدولة العباسية. والرعية مقيمة على عهد الولاء لثقافة التخلف والعقل المخاتل، ونظام الصدقات، وزواج الجملة، وتدارس أزمات البيولوجيا والفسيولوجيا مع فقهاء البترودولار. بمعنى آخر، ظلت كل آليات التشكيل والتفعيل جاهزة سلفا على الساحة الهجرية أمام تجديد التخلف: طواعية في التلقي لا حدود لها، وانعكاسات شرطية مؤكدة بنسبة خيالية، واستراتيجية للفراغ في حقل لا ينتج سوى الهشيم، تغري ليونته حتى الأقدام الحافية. فهل على العقل الغربي المداهم،في هذه الحالة، سوى أن يتناول بمهاراته العالية، ظاهرة التخلف الإحترافي هذه، بشكل يسمح له باستخدامه في تجديد حيوية العبث، وتفعيل آليات التدمير الذاتي باستخدام الكمون الثقافي، المتربص في الساحة الهجرية،على هيئة زكائب ثقافية ذات انبعاث إشعاعي نادر للتخلف، له عقله الخاص؟ هذه الحال ليست وبائية ثقافية عابرة. إنها استبنائية ثقافية تخريبية قامت على العبث ببنية العينة البشرية وإتلاف حيويتها الجدلية، وبالتالي إتلاف سَويّة علاقتها بفكرة الوجود ككل، واعتقالها داخل ثقافة احترافية تقوم على مخاتلة الواقع، وليس مساءلته.

كانت الثورية ” الإيمانية ” للنصوص الأولى، التي صاحبت النشأة السجالية للإسلام مع التيار العربي الأصلاني، ممثلا في الأرستقراطية المكية، متشددة جدا. وبعد انتهاء تلك الفترة واستقرار مركزية النظام للحركة الجديدة، نشأت الحاجة إلى تعطيل (نسخ ) بعض هذه النصوص، وتعديل بعضها، لتصبح أكثر تساهلا وواقعية من الناحية الإدارية. ولم يكن ذلك صعبا. فالنزول متواصل، ويمكن تعديل أو نسخ النصوص بسيادات نصية جديدة. وأصبحت آيات التشريع المليئة بالإشارة إلى حالات الإستثناء، ورفع التكليف، والحدود المعطلة بالشروط التعجيزية، والكفارات، والمحللات، والضرورات المبيحة، مصدرا لسجال سيادي فقهي بين النصوص لا نهاية له. وبعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول، كانت السيادات النصية المتساجلة قد أرست أسس مدرسة التأويل، ثم مدرسة الإجتهاد، فالفتوى، في العقل الديني الممتثل، ولكن بدون أي مساس بسيادة النص المقدس ودستوريتة، بحيث أن كل اجتهاد خارج سيادة النص ظل يعتبر إعمالا للعقل في النص، وليس إعمالا للنص في العقل، يكفر صاحبه أو يجعله مرتدا. فالكفر الفقهي إذن، هو إعمال العقل في النص وليس العكس. كان هذا أمرا مستحيلا في الممارسة، ولكنه كان دستور الثقافة الملزمة للنظام، التي تبناها العقل الهجري بحكمة السلامة والتسليم للنظام، والتي سوغت ورسخت في النهاية اتفاقا فقهيا عاما، على اعتبار عقل التجربة ثقافة معطِّلة (بكسر الطاء ) تعطل الإيمان، أي ( الإمتثال لمركزية النص الفقهي ). وأصبحت السيادة لثقافة العقل المعطل (بفتح الطاء ) الذي ليس له مهام في الحركة سوى تدعيم النص في حلته الدستوريه الفقهية الجديدة. وقضي على العقل والنص معا لصالح المشروع الخلافي السياسي والطبقي، وأصبح الفقهاء على اختلاف مستوياتهم يكونون شرطة عاملة بزي رسمي وراتب وظيفي لدي الخليفة ( حارس النصوص ). واحترفت الرعية ثقافة ( الناس على دين حكامهم.

كان هناك حاجة لتفعيل مرونة اللغة، وقدرات العقل المخاتل من دون المساس بسيادة النص الإعتبارية. ولما كانت دائرة الحاجات أوسع من دائرة النص بكثير، أصبحت النصوص ملزمة باللحاق بالحاجات التي كانت تتكاثر كالفطر في كل اتجاهات الحركة الإجتماعية المتطورة والمتقلبة. فانتشرت مدارس الفقه القائمة على منهج العقل النصي الفهلوي، لضبط حركة التطور المتسارعة، على باب الحلال والحرام حصرا، فكان على النصوص التأويلية أن توسع دائرة السيادة غير المباشرة لصالح العقل الفقهي المخاتل لوكلاء النص. ولكن مكانة النص الرمزية كانت تزداد باستمرار، ضمن ذات النهج المخاتل، كمصدر وحيد للمصداقية، يمكن أن يبرر تغول الفقه على التجربة العقلية. فكلما ازدادت جرأة الفقهاء على تحميل النصوص مخاتلاتهم الفقهية العظيمة، ازدادت حاجتهم إلي مكانة النصوص لتمريرها وحمايتها. ولم يكن هناك كفاية متوفرة من النصوص المباشرة، يغطي منطوقها كل القضايا الفلسفية المعقدة التي أدخلها الفقهاء على نواقض الوضوء، على سبيل المثال، فأصبحت قدرة النصوص تتعدى منطوقها المباشر إلى منطوق متشعب الدلالات والإيحاءات، يتعدى الشرح إلى التأويل، والتأويل إلى الإشارات الإعجازية للنص التي أخذت تعلن عن نفسها أمام تطور العلوم واكتشافات المعرفة، لتعطيل حركتها ومدلولاتها الخطيرة على مزاعم النظام.

وبرع العقل الفقهي في التواضع، واكتفى داخل شمولية النص ببحبوحة العيش والهندام، تاركا بحبوحة الفضل كلها للنص الإعجازي. ولكن حقيقة الفضل، خارج التواضع، هي للطرفين. فلولا الفقه لما عاش النص لأنه لولا النص ما عاش الفقهاء. وهكذا خسرت النصوص سيادتها أمام الفقه واحتفظت برموزيتها المعنوية المتزايدة، لحماية نظام الفقهاء، ولجم استقامة العقل، وترسيخ ثقافة المخاتلة. وفي أثُناء ذلك كانت الثقافة الهجرية توغل في انفصالها عن العقل السوي وحركة التاريخ، لترسو سفينتها في النهاية على سكون العبث خلف كونية العقل، وتاريخية البشر. وأصبح الهجري عينة ثقافية نادرة، غارقة في متعة الإمتثال اللامسئول، الخالي من سياقات الحركة الإجتماعية التي أصبحت وقفا نظاميا بإدارة فقهية.

والفقهاء الأولون في أقل أقلهم كانوا نماذج عبقرية لعقل الإمتثال. واستطاعوا أن يطبعوا الحياة العقلية بمهارات فقهية مثيرة كانت تعبر عن مدى ثقافة العقل المخاتل واطلاعه في كل مجالات المعرفة. ولكنها كانت مهارات بدون أية نزاهة عقلية، تدور كلها حول شمولية النص للمعرفة بأنواعها، وتحدد مهمة العقل بحل إشكالات النص مع الواقع الإجتماعي، وحيوية الغريزة، وسيادة التجربة، لصالح النص. على هذه الخلفية اسس أولئك الفقهاء العقل الهجري المخاتل، وتابعت الثقافة الهجرية في زمنهم مشيتها الرزينة، لتصبح بعدهم مرعى لعجول الفقه الرثة، يزرعون على سفوحها قمح السُنّة في الشتاء ليأكلوه في الصيف. وانتشرت دكاكين الفتوى التي تلغي العقل بالنص والنص بالعقل بدون سند غير الإشارات البهية في الملابس السًَنِيّة لقساوسة الخدمات الربانية. واستوعب الفقه، كمؤسسة مدنيّة للعيارين وأهل الكدية ومرتزقة الجبة والعمامة، والشرطة السرية للنظام، وثقافة التحمير الخلافية، كل فائض العمالة في سوق الإرتزاق، براتب الصدقة المقدمة من العامة للخاصة. ولما كان هذا الفائض يشكل في بعض العصور كثرة الناس، تحول الهجريون إلى أمة من الفقهاء، في كل المواقع الطبقية من غنى وميسرة وستر وفقر وكدية. فما تجد هجريا لا يتفقه وهو يمارس الصلاة أو التجارة أو العلم أو القتل أو اللصوصية أو أرذل من ذلك. تجري النصوص على لسانه كالماء العذب، لا يتلعثم لأنه يتكلم في حماية قاعدة الشذوذ، وليس من دائرة الشذوذ عن القاعدة. وامتزجت الطبقات في ثقافة اجتماعية واحدة أساسها منافقة العقل للنص، والرعية للنظام، فتعطل جدل العلاقات الإجتماعية، ليفسح المجال أمام سكون علاقات النفاق والرياء الإجتماعي البديلة، ويقيم خلافة الفقه على أنقاض النص والعقل معا. وتسلم الفقه راية الحركة، فعطل بالنصوص المتناقضة، التي تخدم نظريا عامة الرعية المسلمة على قدم المساواة، أيّ حس حقيقي بالحياة الإجتماعية، وأي حس بالعدالة الإنسانية، فناب عن العامة في الحركة، ووضع الحلول للضرورات على شكل مخالفات لأية قيمة إنسانية أو اجتماعية أو عقلية. وترسخ نظام الصدقة كجزء من ترتيب اقتصادي يعيش فيه الفقراء على حساب الأقل فقرا، وشجع الكدية واعتبرها في عداد الحاجات التي يعترف بها النص. وتسور الأغنياء شرف النصوص وشرف الإنسان بصدقاتهم، فأحل لهم العقل المخاتل ما حرمه على غيرهم من امتيازات ومتع على أساس طبقية الدستور المدعم بطبقية النص، وحزب الفقهاء.

تحولت الحياة الهجرية إلى مستنقع كبير للضفادع الكبيرة والصغيرة وحيات الماء يتمتع فيه القاتل والمقتول في ظلال العدالة الفقهية بنفس الحقوق النظرية. وكانت النصوص قد توالدت وترعرعت مضامينها خلال العصور بفضل العقل المخاتل، ودس السُّنَن، حتى أصبحت غيبوبة فقهية مطبقة خالية من أي معنى للحياة الإنسانية والعقل السوي والعدالة الدستورية، وتاريخية المعرفة، ونهج العلاقات الإجتماعية. فالنصوص السجالية المقدسة هي التي كانت تترافع على ساحة المقاضاة عن أي طرفي نزاع، وبنفس الحمية. لذلك لم يكن هناك إشكال في دستور العدالة التي كانت متحققة سلفا، فأصبحت الأهمية للحدود، وليس للحقوق، بل أصبحت الحقوق تخدم الحدود، لأن الحدود تدرأ بالكفارات المالية، وفيها عبرة القصاص التي تضبط سلوك الفرد والجماعة داخل النظام. وكان القرار في تنفيذ الحدود لوكلاء النص، أي لحكومة النص المركزية، أي لفقهاء القصر، أي لجهاز الأمن الداخلي للخلافة.

وكل شيء سهل في ثقافة الإمتثال ( أي تبني خيار النص ) بحيث يمكن للهجري أن يقف مع النص ضد نفسه لسهولة اللعبة. يمكن للفقير أن يستسلم امتثاليا لمنطق التراتب والحرمان المحتم، لأن العدالة النظرية متوفرة. فالنص يساوي بين الفقير والغني من حيث تحليل الكسب و( اقتناء ) النساء. فهو مثل الغني، يحل ويحق له نظريا المال الشرعي بدون حدود، ومعه كل ما يحل ويحق للغني من رفاه وزوجات وتمتع وجوار بدون عدد. والعقل المخاتل يعرف أن هذه مغالطة سهلة وواضحة الأهداف، ولكن تجاهل ذلك كان يشكل نصيبه الوحيد من المجهود الذاتي المطلوب لاستمرار اللعبة. على الهجري ألا يفكر أبدا بصوت مرتفع، أو لا يفكر أبدا. فصورة النظام الوحيدة التي تناسب ” برمائيته ” هي ما هو قائم، ولا يصح في العقل، أو حتى المصلحة، افتراض أية صورة مختلفة، تضعه في فضاء الفزع التاريخي المفتوح بدون أية قدرة على المواجهة، وتؤدي ليس فقط إلى افتضاح دخيلته الماجنة في العلاقة مع مثيله، بل إلى سقوط أمنه الشخصي. لذلك واصل قرونا تشرب الوضع، وتعايش معه بالتحايل والتظاهر والنفاق والسطو والإستتار، كما هو منصوص، وتحول باختياره وبكده إلى بنية دجل ثقافية متناقضة مع أية قيمة أخلاقية أو عقلية أو جمالية. لقد أدرك أن التطفل على الوجود أسهل من مواجهته، فعاش وجودا قائما على انسجام الغريزة مع القبح العقلي والأخلاقي، ينسج علاقاته بالآخر المثيل والآخر المختلف على ذات النمط. وتحول قبحه الثقافي إلى مكره تاريخي في العقل الثقافي الآخر، وأضحوكة عقلية ونفسية وسلوكية في التعامل. أي أصبح موضوعا للتلاعب والإستباحة والتنكيل والإستهانة بإنسانيته في إطار علاقات الصراع البشرية. وظل التجاهل لديه أسهل من الرد.فعاش حتم الضرورات البيولوجية مثل أي كائن حي، ولكن بطريقته الخاصة، أي بمنهج جليل في المعرفة هو منهج النص، متجاهلا كونه لصا وطفيليا ومنافقا وعدميا، يبرر عدميته بالإختباء وراء النص. لم يكن على خلاف له مع التجربة سوى طعمها المر، وإصرارها على الطريق الصعب، في حياة زائلة. ولو كان له الخيار في الإمتثال لقانون الوعي أو الإمتثال لقانون النص، فهو يفضل الأخير لسهولته ومجانيته، بغض النظر عن سجالات المعرفة. فما دام هناك سجالات حول المعرفة فذلك يعني أنه لا يوجد معرفة يقينية. وبإمكانك اختيار النهج المعرفي الذي يريحك في إجازتك الفردية القصيرة على الحياة. فكل شيء هو مجرد اختلاف في مزاج المصلحة. والتقية أمر محمود في ثقافة النص. لا الدين ولا الفقه استطاعا أن يخدعاه، ولكنهما وفرا له خيار مراءاة النص، بديلا عن خيار الحرية الإجتماعية الدموي. ولما كان الخيار الثاني مكلفا على ضوء انعدام المهادنة في منطوق النص، فضلا عن تأويلاته الدستورية الطيعة، فضل مبايعة النصوص واللصوص، على التعرض للقتل. وما دام قد قرر النجاة بأي ثمن، لم يعد هناك مجال لأي وعي سوى وعي الإحتراف الذي يخدم الغاية، أي تبني ثقافة احترافية وبني وفاقه معها على منطق عقلي من نوع ما:

نعم ! هناك قانون للوجود ! فماذا في ذلك؟ نحن موجودون داخله بالحتم شئنا أم أبينا مثل غيرنا ! كل ما تبقى هو اختلاف وجهات النظر حول نهج الحركة ومصدرها. والعقل التاريخي مثل عقل النص ينكر الخيارات في المعرفة ويرفض ازدواجية الولاء. ولا مجانية في حركة نهر الوجود المتدفقة التي لا ترحم الذين لا يجيدون السباحة. ولكن أحد الخيارات أيضا هو الجلوس على الضفة. والمخاتلة أفضل من السباحة الفعلية. فليبق القانون على حاله إذن. سنعيش بأقل قدر من المعاناة، إذا أمكن. فنحن عابرو سبيل. وقد اعتدنا خيار النص الذي يقرر أن قانون النجاة هو المعجزة، وليس تعلم السباحة في أنهار المعرفة. فماذا يهمنا إذا كان هذا صحيحا ام لا، ما دام هو الخيار الأسهل؟ بهذه الثقافة الإحترافية استطاع الهجري أن يهادن العيش ويقاطع الوجود.

وهكذا كان. ووجد الهجري نفسه في دوامة الإمتثال، يفقد كل علاقاته القديمة بذاته، ويبدأ ذاتا جديدة قائمة على غسل الدماغ بفصله عن العقل. نعف الدين الجديد سلة رموزه التراثية كلها وملأها برموز جديدة تعود كلها إلى اليهودية. فصل بينه وبين الحرية باستبعاد الحركة الذاتية من أساسها. وسجن الكينونة الشاملة في كينونة النص فلم يعد من معنى لوجود العقل سوى تحقيق الإمتثال. وكان على نصوص الدين الجديد، وبالأحرى الثقافة الجديدة، أن تكون مقنعة بدرجة استثنائية، فكانت نصوصا سماوية مباشرة، مدعمة بالسيف. ولم يكن أمام العقل الطبيعي سوى التخلي عن طبيعته. وهكذا تم احتلال العقل بالإمتثال الذي أصبح ذاتا ثقافية لمعجزة المجتمع الفقيه.

قال العقل المخاتل: ألنص هو الخليفة الوحيد على الأرض. أما الخليفة الفعلي فهو ممثل النص وحارسه فقط. وبما أن النص لا يعطي كل ما عنده للعامة المعوقة عرفانيا ( إيمانيا )، فالخليفة المختار بعناية ترجيحية إيمانية بالوراثة والبيعة، هو وحده المؤهل بالوكالة للنطق بالحكم الذي تحدده النصوص. هذه الأهلية ليست زمنية أي عقلية، لأن إرادة الله الخفية هي التي اختارت الخليفة، وإلا لعدنا إلى مقاضاة العقل للنص، فانهار كل شيء وعدنا إلى الجاهلية. وبما أنه يجب الحفاط على مسافة بين النبي والخليفة، فالأمر يجب أن يكون على هذه الطريقة: لا يجوز في الخليفة ما جاز للنبي المعصوم بالرسالة والوحي، فلا بد من متخصصين في التقوى والعلم بالنصوص يعينونه في مهمته الصعبة على أساس ( فذكر إن نفعت الذكرى ) فقط. وأصبح هؤلاء الوكلاء النظاميين ( العلماء ) هم حلقة الوصل مع العقل المخاتل نيابة عن الخليفة، يحملهم وزره أمام العامة إذا اقتضى الأمر. واختار الخليفة، كما هو متوقع من رجل حكم وسياسة وعرش، أنبغهم ختلا، وبادلهم أنخاب العقل المخاتل، فنسبه بعضهم إلى العصمة، ونسبهم هو إلى التباس النص: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )، فلقبهم بالعلماء ووزع عليهم المناصب الكهنوتية. وهكذا قام الكهنوت الهجري وبالتالي الثقافة الهجرية عموما على أركان خمسة:

1-ألنص المقدس.

2-ألعقل الفقهي أي العقل المخاتل.

3-الدستور العملى، وهو مزيج من الركنين ألأول والثاني.

4-ممثل النص وحارسه- الخليفة- البابا – الحكم الثيوقراطي.

5-الأمة الدينية.

على هذه الأركان أقامت الثقافة الهجرية كنيسة النص الأكثر ضبطا وفرادة واتساعا في تاريخ الإجتماع الكهنوتي الخاص. وتسبب المزج بين مصلحة النص ومصلحة العقل المخاتل، إلى تدفق ثقافي فقهي لا مثيل له في التجربة البشرية، أنتج في النهاية العقل الثقافي الهجري. وهو نوع من الرقص الدوراني الإحترافي بين الغريزة ( الضرورة ) والنص ( الغيبية ) يقدمه العقل المخاتل الذي أدركه أخيرا قانون التحول المورفولوجي، وأصبح جوهره البنيوي هو مخاتلة ذاته، ومن ثم فلا عقل للوجود إلا عقل النص.

وباعتبار وحدة الجوهر التكويني الجدلي للبنية، من حيث هي خامة اجتماعية، فلا عبرة في تعدد التسميات. وفصل الدين عن البنية النفسية والثقافية والعقلية أو فصلها عنه، هو مجرد ظواهر متعددة لإشكل واحد، هو الفرق بين العقل التاريخي والعقل المخاتل. فالتاريخ ثقافة العقل العلمي، والدين ثقافة العقل الطبقي المتحايل. وفي حضرة ثقافة متحكمة ومدعمة بشمول النص المباشر القداسة، أي خلافة النص على كل شؤون الحياة اليومية حتى في مكنوناتها الشخصية، بوطأة تفصل بين الحياة والموت، لا يكون هناك فرق بين مصير الإنسان ومصير عقله، فهما مربوطان معا بحبل واحد هو الحياة أو التاريخ أو قوانين الطبيعة التي تحتم سلوكا عمليا واحدا، ولكن بمناهج ثقافية مختلفة للعقل الموضوعي أو العقل المخاتل. ويتابع نص الفطرة الطبيعي قوانينه في الناس دون أن يلقي بالا إلى اختلاف المناهج الثقافية والعقلية، فهذه تجد مكافئاتها سلبا وإيجابا في عفوية الحتم الأمامي المتحرك للتاريخ (القانون)، وعلى أساس هذا الحتم، تكون النتيجة النهائية. تنشأ أمم وسيادات عقلية واجتماعية وحضارية، وتسقط أمم في النص الساكن فتفقد أهليتها للوجود.

أصبح الهجري سوقة، أو مثقفا أكاديميا، أو سياسيا، وكيلا للنص وبنية فقهيه، حتى ولو لم يقصد ذلك. فهذه القاعدة الثقافية الفقهية، تكاد أن تكون الرابطة الوحيدة التي ربطت الهجري بتاريخه الخاص. وقد وفر له التعاقد البنيوي المخاتل داخل حركته الإجتماعية فضاء سهلا لهذا النهج من العلاقة بينه وبين المثيل البنيوي الداخلي (المتعاقد الهجري ). أما المثبل البنيوي الخارجي ( المتعاقد غير العربي ) فقد تكفلت به شعوبية الفقه وأممية النص الهجري المؤسس. لا فرق بين مسلم ومسلم في اللون والطعم والرائحة. لذلك فلا يعتبر المسلم آخرا بنيويا وإنما مثيلا بنيويا. وغرق الهجري في مثلية العلاقة هذه إلى أذنيه ليحفظ هدوءه وأمنه البيولوجي. حكمه المماليك والشعوبيون من جميع الأجناس المسلمة من فرس وأتراك وبربر وكرد والبان وأجناس مشبوهة لعائلات مستعربة تخفت بالإسلام ما تزال تحكم بعض أقطاره إلى اليوم، بدون أي اعترض من جانبه. ولكن كيد القانون الجدلى لا يتوقف عند هذا، فوجد نفسه أخيرا في مواجهة المختلف البنيوي الذي كان من المحتم عليه جدليا أن يملأ الفراغ المحاذي في حركته التطورية. لقد تضاءل الزمان والمكان داخل السياق إلى درجة التماس المباشر بين البشر. لم يعد حي أو مدينة أو دولة في العالم خارج إملاءات الوضع العام للعلاقات البشرية الجديدة. كل الألعاب توحدت في لعبة واحدة ولم تعد العزلة خيارا في أي مجال. لم تعد خيارا اجتماعيا أو ثقافيا، فالعولمة وصلت حتمها المادي الأوفى ولا بد للمشهد أن يتغير. وقد تغير المشهد مرات كثيرة قبل هذه، ولكن بهامش من الحرية بين الأطراف يبيح نوعا من العزلة الذاتية. أما هذه المرة فلم يعد هناك هوامش فاصلة تحقق العزلة النسبية في حالة التماس المباشر. وفرض عليه الخارجي نصوصا جديدة للإمتثال للقوة، وللنمط العملي، الذي يعترف بالمخاتلة كمفردة من مفردات العلاقة، ولكن ليس كإيديولوجيا وثقافة اجتماعية شاملة خارج السياق العام.

كانت الساحة الهجرية بدون مشروع اجتماعي أو قومي يملأ الفراغ الفعلي. فقد ظل الهجري خلال تجربته التاريخية النادرة يملأ الفراغ بالفراغ. يجدد دينه بين الفينة والفينة بزيارة فقهية للنص يعود منها محملا بأجوبة نصية مقنعة تماما على أي جديد تفرضه تساؤلات الحاجة العملية:

قال المندوب السامي البريطاني في مصر وهو يجلس مع محمد عبده على شرفة اسكندرانية تطل على البحر:

– قلت لي أن كل شيء مذكور لديكم في القرآن.

أجاب الشيخ:

نعم ! وما فرطنا في الكتاب من شيء.

قال المندوب وهو يشير إلى سفينة راسية قبالتهم، تابعة لشركة كوك كبرى شركات النقل البحري البريطانية، وعلى جانبها كتبت كلمة كوك بخط واضح:

انظر إلى هذه السفينة ! أهي مذكورة أيضا في القرآن؟

قال الشيخ:

– طبعا ! لدينا آية في القرآن تقول: وتر ” كوكَ ” قائما.

قد لا تكون هذه حكاية عينية. ولكن لتكن نكتة ! فهي انعكاس مهم جدا لضغط ثقافة الفراغ الإحترافية على العقل. هذا المأزق يمثل عينية الحركة الهجرية في الفراغ على حقيقتها. يمثل ثقافة العقل الخاص المستسلم لمهارات الفقه، إلى درجة النكتة. يمثل هجرة العقل العربي من مكة إلى المدينة. من وعي الذات إلى ثقافة الفراغ المطبق. لذلك حينما اقتحمه الخارجي، بفظاظة الإغتصاب، انغمس فيه بدون عقل على الإطلاق، لأنه لم يكن لديه ما يرد به سوى سلاح المخاتلة الذي لم يعد يكفي للخلاص المجاني في العلاقة بالآخر. فاكتفى بالإمتثال لشروطه، بالعيش خارج الفعل والقيمة. واتهمه الفقهاء بأنه لم يكن يصلي أو يتقن الوضوء، وبأنه مال عن الدين إلى القومية، فاستحق العقاب الإلهي. ثم نهض الفقه يجدد الدعوة إلى الدين، ولكن هذه المرة بأجر مرتفع جدا مدفوع مباشرة من ثروات الغرب المستودعة في باطن الأرض الهجرية، ومن دماء الهجريين.

ولم تنفع الثقافة المكتسبة الهجريين بعد جرهم من عزلتهم قسرا إلى حلبة التنكيل العالمي. ولا يبدو حتى الآن أن الهجريين سيستطيعون الخروج من ورطتهم، ليس لأنهم لا يريدون، بل لأنهم فعلا لا يستطيعون. فتحت ضغط ثقافة الأنا الإحترافية، لا يمكن للعقل القاصر أن يستبدل ثقافة العقل المخاتل بثقافة العقل التاريخي بطريقة التبني والإمتثال التي تعامل بها مع النص. فالعقل التاريخي ليس نظرية في فلسفة الوجود يتحلى بها من يشاء. هي ببساطة عقل الوجود الذي بنته التجربة ليس كخيار أو احتراف ثقافي، وإنما كوعي بنيوي ملزم جدليا. أنه ليس تناول وجبات ثقافية ساخنة في ضيافة آخرين، كما يظن النموذج الهجري الأكاديمي. القضية قضية وجود عقلي نقدي مكافيء قادر على اقتحام وعي النص وادعاءاته بآلية موضوعية مشتركة مع المصدر هي جدل الصراع البناء، وليس سخافات فقهية مثل ” حوار الحضارات ” و ” حوار الأديان ” والإعتدال والأخلاق الذاتية والنصية كما يتصور العقل النصي العاجز للمثقف الهجري. لذلك فإن المثقف الهجري الأكاديمي في معظم حالاته فقيه ملثم، عاجز عن الإكتشاف أو الإبداع لأنه محترف نصي يعمل النص في العقل، ولا يعمل العقل في النص الذي سيتلاشى بمجرد تناول جزئيته بالعقل الشمولي. وسوف تظل احترافيته الثقافية النصية حاجزا بينه وبين انتاج النصوص التي يؤلف تلاشيها حركة تطور المعرفة وحركة العقل ووظيفة الجدل. إنه لا يؤمن وقد لا يتصور ضرورة تلاشي النصوص كما هو الحال بالنسبة لتلاشي البشر وحلقات الوجود العضوي لتكوين ما نسميه الحياة. وهذا هو سبب اجتراره العبثي للمعلومة وتاريخ التصوص بدل التعامل مع بنية النص العابرة وفكفكتها بالتجاوز. لذلك فمعظم ثقافات التجاوز الهجرية المحاذرة، لم ولن تفيد في أية تنمية ثقافية حقيقية. فبدون اقتحام النصوص وفرض تلاشيها لن يخرج الهجري من دوامة الإمتثال والعقم واجترار التخلف. سيظل متمترسا في عزلته المريحة خالي البال مما يجري خارج الباب. وكما يمرر متسللو الثقافة والفكر من الهجريين علوم الكوانتوم بنصوص الفقه التأويلي، ويدعمون بذلك حالة التخلف الإحترافي، فإنه سيقوم بدوره بتمرير عظمة تخلفه إلى أبنائه. وستستمر دورة العبث الإحترافي في الزمان والمكان الهجري إلى حين اختفاء التخلف من حياة البشر. فما لم يدرك الهجري أن الله هو الحركة المكونة بوكالة العقل الطبيعي، وليس السكون في مستنقع الفقه، بوكالة العقل المخاتل، فلن يكون هناك خلاص.

ما الذي ينقص الهجري ليرى في وضوح السيناريو كل الحقيقة؟

ألم يكن نهوض الإسلام السياسي متزامنا مع الهزيمة القومية التي نفذها الغرب والصهيونية سنة67؟

ألم يكن صعوده بهذه السرعة، وشعاراته وفقهياته وإعلامياته كلها تدور حول كون الإسلام هو الحل، وليس الفجور القومي الذي أثبتته الهزيمة.

وماذا حصل بعد ذلك؟

اتفقوا مع الرئيس ” المؤمن ” على تصفية آثار الناصرية إلى درجة أن النصوص القرآنية هبت لمساعدتهم في التنكيل بتاريخ الرجل الشخصي. واغتيل الرئيس ” المؤمن ” بعد أن انتهت منه أمريكا بأيد إسلامية، وجيء بمبارك، ودخلت مصر في الملكية العقارية لأمريكا وإسرائيل. وجرى احتلال العراق وتدميره جذريا، قيادة وشعبا ووطنا وثروات، بإجماع ديني شيعي وسني على المشاركة المباشرة في جريمة العصر.

من الذي وظف الجرائم الطائفية في الإبادة الإجتماعية والسياسية والقومية الكاملة للعراق كدولة، والإبادة الجسدية الجزئية للشعب العراقي بالإضافة إلى تشريد وذبح كل العناصر القومية داخله ولماذا؟

هل استفاد الإسلام من هذا؟

ومن الذي استفاد فعلا؟

استفاد الذين لا يريدون أية نهضة قومية داخل الوطن العربي. استفاد الغرب والصهيونية. واستفاد الإخواني طارق الهاشمي، والدعووي المالكي، والحزب الشيوعي العراقي، والقومية الكردية الإسرائيلية، أي كل أعداء النظام القومي.

لماذا يقتلون الناس في الجزائر ويسجدون لغير الله في أماكن أخرى؟

من أين لهم البنوك الإسلامية برأسمال تريليون دولار؟

لماذا تقوم أنظمة الغرب بحركاتها “القرعاء” السخيفة من منع الحجاب، وبناء المآذن والتعرض للنبي؟

أية مصلحة ممكنة لها في ذلك سوى إثارة التعصب الديني لدى المسلمين وانعكاس ذلك على ايجابا على الإسلام السياسي.

لماذا شتمت عجول الفقه عبد الناصر وصدام أكثر مما استنكرت عمل رسام الكاريكاتير الدانمركي، وموقف حكومات الغرب التي وقف كثير من رؤسائها مع حرية الرسام في شتم النبي؟ أليس في هذا ما يثير التساؤل.

متى برزت فلسفة الإعتدال لدى فقيه الفقهاء إلا بعد هذه الوقائع؟

كثير من هذا…. يومي وشهري وسنوي، والعقل المخاتل يقوم باللعب ضد حامله. أعبدوا الله وفكروا بعقل التجربة، فلا يمن أن يكون الله يحب الأغبياء أو المنافقين أو فقهاء الإعتدال المدفوع الثمن.