تشى غيفارا ونقد الاتحاد السوفييتي (الحلقة الثالثة)

إضاءات على فكره الاقتصادي ورؤيتة المبكرة للانهيار السوفييتي

مسعد عربيد

لماذا كتب غيفارا نقده ل”الدليل السوفييتي في الاقتصاد السياسي”؟

لحظ غيفارا ان المنابع النظرية للفكر الماركسي قد نضبت بعد أعمال ماركس وإنجلز ولينين، ولم يتبقى إلا بعض الاعمال المعزولة ككتابات ستالين وماو تسى تونغ والتي حافظت على القوة الابداعية للماركسية.

وفي هذا السياق، كان ستالين، في الفترة الاخيرة من حياته، قد أمر باعداد كتيب اطلق عليه فيما بعد اسم “الدليل السوفييتي في الاقتصاد السياسي” The Soviet Manual of Political Economy، يعالج مواضيع الاقتصاد السياسي ويضعها في متناول الجماهير. وقد لحقت بهذا “الدليل السوفييتي” تغييرات كثيرة أجريت عليه في السنوات اللاحقة وفقاً للتطورات الاقتصادية والسياسية التي شهدها الاتحاد السوفييتي في عقد الخمسينيات من القرن الماضي وخصوصاً بعد وفاة ستالين (1953) وإنعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي (1956) وتولي خروشتشيف زمام القيادة في الاتحاد السوفييتي، وكان من شأن التطورات ان أدت، مع نهاية ذلك العقد، الى تغييرات جذرية في الخطاب الاقتصادي السوفييتي إنعكست في العديد من الكتابات والادبيات والاطروحات التي رافقها جدل كبير.

كان غيفارا يرى ان التكيفات التي تضمنها “الدليل” السوفييتي كانت تغيرات فرضتها البراغماتية والتي جاءت في الوقت ذاته نتيجة الافتقار الى التحليل العلمي. لقد أيقظت الهزة الكبيرة التي أحدثها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي، الاتحاد السوفييتي من الكسل الذي ألم باقتصاده في مرحلة التحول الاشتراكي، إلا أن هذه الهزة لم تدفع الاقتصاد السوفييتي الى الامام بسبب، وفق ما رآه غيفارا، “إستنفاذ احتمالات التنمية، والتي كان نتيجة للنظام الاقتصادي الهجين، وبسبب ضغوط من البنية الفوقية”، لذلك “إتخذ القادة السوفييت خطوات الى الوراء والتي أكملت التنظيم الصناعي الجديد. وقد حلّ القمع محل الكسل إلا ان كليهما حافظا على الطبيعة الدوغمائية”.

من المعروف أن غيفارا كان المهندس الاول للعلاقات الكوبية ـ السوفييتية وهو ما ينبغي فهمه على انه تعبير طبيعي وأمين لالتزامه بالفكر الماركسي ودفاعه عن كوبا وثورتها ومصالحها في سياق التحديات التي واجهتها في السنوات الاولى بعد إنتصارها والتي شكّلت تهديداً كبيراً لوجودها واستمرارها. إلاّ أن غيفارا أخذ يكوّن التحفظات إزاء الاقتصاد السوفييتي من خلال قراءاته وأحاديثه مع الخبراء السوفييت ومطالعته للكتيبات السوفيتية التي كانت تدافع عن السياسات الاقتصادية السوفييتية، وكذلك من نقاشاته مع مؤيدي الاتحاد السوفييتي في كوبا، إضافة الى لقاءاته مع الماركسيين الغربيين الذين عبّروا عن نقدهم وإمتعاضهم من سياسات الاتحاد السوفييتي نذكر منهم بول سويزي، وليو هبرمان وبول باران وغيرهم ([1]). وكان ما شاهده غيفارا في زياراته ليوغسلافيا والاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية الاخرى قد أثار في نفسه الكثير من التساؤلات بل والشكوك وأطفأ فيه جذوة الامل والحماسة.

فقد هاله ما لحظه في زيارته للاتحاد السوفييتي من إلتزام العامل السوفييتي بعمله وتفانيه في الاداء والانتاج، في حين كان يعاني من تدني كبير في مستوى المعيشه، كما عاين غيفارا المسافة الكبيرة التي كانت تفصل بين القادة السوفييت من جهة، والعمال والجماهير والشعوب السوفييتية من جهة اخرى.

وخلال زيارته ليوغسلافيا (1959)، قبل زيارته للاتحاد السوفييتي، أخذ يساوره القلق بسبب التناقضات الذي حفل بها نمط الانتاج في ذلك البلد وتولدت لديه قناعة بان الارتكان الى الروافع الراسمالية في الانتاج (مثل الربح، والحوافز المادية…الخ التي كان قد أدخلها في الاقتصاد السوفييتي البرفيسور إفزي ليبرمان من جامعة موسكو)، دون الالتفات الى ضرورة تغيير وعي الجماهير وقيم الناس وأفكارهم ومواقفهم، سيؤدي الى إعادة إنتاج وعي راسمالي وعلاقات اجتماعية راسمالية.

خلال عامي 1963 ـ 1964 وطيلة فترة عمله كوزيرللصناعية، إنخرط غيفارا في جدل مع الكثيرين الذين أبدوا تأييدهم للنمط السوفييتي في الادارة الاقتصادية والذي دعا، من حيث الجوهر، الى تعزيز الاستقلالية الاقتصادية للشركات والسماح “للسوق” ان تفعل مفعولها. كما انه إصطدم بالكثير من العقبات من خلال عمله كوزير للصناعة، وهي التجربة التي فرضت عليه البحث عن نمط بديل لادارة الاقتصاد الكوبي ومواجهة تحديات التنمية في مرحلة التحول الاشتراكي. وقد عبّر عن وجهات نظره من خلال العديد من الوسائل والمنابر: تواصله مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، أحاديثه ومناقشاته مع رفاقه ومساعديه، مساهماته في “الجدل الكبير” بما يزيد عن ثلاثة عشر مقالة، مشاركته ومناقشاته في المحاضرات الاسبوعية التي كان يقيمها العلماء السوفييت في هافانا، وكذلك عبر مقالاته وكتاباته وخطاباته الكثيرة، وخصوصاً خطابه الاخير في الجزائر في فبراير 1965.

خلص غيفارا، من خبراته هذه ومن تجربته مع الدول الاشتراكية بقطبيها الرئيسيين، الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي، والتفاوض معهما حول وسائل الدعم الاقتصادي والعسكري، خلص الى ان سياسات هذه الدول الاشتراكية تفتقر الى الاممية. وقد تحلى بالشجاعة في أعلان رأيه هذا على الملأ في خطابه الشهير في الجزائر (فبراير 1965) حيث أنب هاتين القوتين الاشتراكيتين الرئيسيتين لفرض شروط للتبادل التجاري مع الدول الفقيرة في سوق هيمنت عليها الامبريالية معيباً عليهم أنهم لم يقدموا دعماً غير المشروط للدول الفقيرة، بما فيه الدعم العسكري، لنضال الشعوب التحرري في الكونغو وفيتنام على وجه الخصوص. (Besancenot and Lowy, 2009, 113)

يقول غيفارا:

“لدى الشروع في هذه الدراسة النقدية، وجدنا الكثير من المفاهيم التي تتناقض وطريقة تفكيرنا، فقررنا البدء بهذه المجازفة ـ كتاب يعبر عن وجهات نظرنا ـ باكبر قدر ممكن من الصرامة العلمية والامانة القصوى. وتظل هذه الاخيرة أساسية إذا إعتبرنا أن دراسة النظرية الماركسية والحقائق الجديدة، تضعنا في موقع إنتقاد الاتحاد السوفييتي، وهو (اي الموقف النقدي) الذي أصبح الشاغل لكثيرين من الانتهازيين الذين يهاجمون من أقصى اليسار لصالح الرجعية. إننا مصممون على ألاّ نخفي اية أراء لاسباب عملية، إى اننا في الآن ذاته، سنخلص الى نتائج ستساعدنا، بفضل دقة منطقها ومنظورها الواسع، في حل المشاكل ولن تطرح أسئلة دون حلول”. (Yaffe 2009, 240)

وفي تقييمه لمسؤولية لينين في هذا المضمار، قال:

“من خلال ممارستنا وأبحاثنا النظرية إكتشفنا الفرد الذي يستحق كل اللوم، باسمه الكامل: فلاديمير إيليتش لينين. الى هذا الحد بلغت جرأتنا. إلا ان اولئك الذين يتحلون بالصبر للاستمرار حتى الفصول الاخيرة لهذا العمل، فانهم سوف يثمنون الاحترام والاعجاب اللذين نكنها لهذا الشخص “المذنب” والدوافع الثورية لتلك الافعال التي من شأن نتائجها اليوم ان تصدم مؤلفها…”.

بهذا المعنى شكّل نقد غيفارا “للكتيب” السوفييتي الخطوة الاولى في مساهمته في صياغة نظرية حول الانتقال الى الاشتراكية والبحث عن حلول مشاكل وإشكاليات التحول والبناء الاشتراكي.

في هذا السياق، بادر غيفارا بدراسة أصلية للاقتصاد السياسي الماركسي والرجوع الى امهات الفكر الماركسي بغية تطبيقها على مرحلة التحول الاشتراكي بذهنية منفتحة وعقل ناقد وروح حرة منطلقاً من أنه:”ليس من الممكن تدمير الآراء بضربها ـ هذا هو بالتحديد ما يقتل التنمية برمتها، التنمية الحرة للذكاء”. ولهذا السبب بالذات كان غيفارا يحض رفاقه دوماً على المزيد من العمل والمساهمة والتفكير والعودة الى دراسة الادبيات الماركسية الكلاسيكية من أجل القضاء على النهج الآلي والدوغمائي الذي حاولت “الماركسية السوفييتية” تلقينه من خلال الادبيات السوفييتية، وعلى وجه الخصوص “دليل الاقتصاد السياسي السوفييتي” الذي رفعته القيادة السوفيتينة الى مقام “الانجيل” بدلاً من العودة الى وإعتماد “رأس المال” لماركس، على حد قول غيفارا.

شكّلَ كتاب “رأس المال” لماركس الركيزة النظرية الرئيسية لمشروع غيفارا وتحليلاته وأفكاره والتي كان قد ساهم بها من خلال “الجدل الكبير” في كوبا (1963 ـ 1965) ومهامه كوزير للصناعة والتي تمحورت حول قانون القيمة ومفعوله في ظل الاشتراكية، دور النقد، التمويل، النظام المصرفي في الاشتراكية وإستعمال الحوافز المادية والمعنوية ونقد ما جاء في “الدليل السوفييتي” حول هذه المسائل. مضيفاً الى ذلك تجربته ومشيراً الى نواقص النظرية السوفيتية داعياً الى المزيد من الدراسة والتحليل للعديد من جوانب الاقتصاد السياسي والتنمية الاشتراكية.

لِمَنْ كتب غيفارا؟

توخى غيفارا من كتابة ملاحظاته النقدية، ومن كتابه الذي لم يُنحز، أن يعالج قضايا العصر بروح جديدة تتناسب مع تطوراته، وكان ينوي توجيه كتابه للبلدان النامية والمجتمعات الثورية في العالم الثالث كي تستفيد منه في تنميتها الاقتصادية في مرحلة التحول الاشتراكي. وقد دوّن، في سياق الاعداد لكتابه هذا العمل، قد دوّن الكثير من الملاحظات حول “الدليل السوفييتي” الذي كان مستخدماً في تلك الاونة كدليل إقتصادي في كوبا. وكان قد إستشعر أن الكثيرين سيجدون في كتابه إساءة لمشاعرهم، فيما سيجد فيه آخرون حملة مسعورة في “معاداة الشيوعية” مغلّفة بالحجج النظرية. إلا ان أملاً كبيراً كان يحدوه في أن يلقي فيه كثيرون نفحة أفكار جديدة تستند الى تحليل علمي وماركسي ناقد ومنفتح. من أجل هؤلاء كتب غيفارا فوجه ملاحظاته الى الطلاب الكوبيين الذين كانوا يعانون جرّاء عملية تلقن “الحقائق الخالدة” من المنشورات والادبيات السوفييتية. قال:

” الى اولئك الذين ينظرون الينا بعين الريبة بسبب الاحترام والولاء اللذين يشعرون بهما حيال البلدان الاشتراكية، فاننا نوجه لهم تحذيراً واحداً: التأكيد الذي جاء به ماركس في الصفحات الاولى من “رأس المال”، حول عجز العِلم البرجوازي على النقد فيلجأ الى الذرائع بدل ذلك، هذا العجز ينطبق اليوم على نحو مشين على علم الاقتصاد الماركسي. يمثل هذا الكتاب محاولة للعودة الى الدرب الصحيح، وبغض النظر عن قيمته العلمية فاننا نفخر باننا حاولنا ان نقوم بذلك في بلدٍ نامٍ صغير. ستواجه الانسانية العديد من الصدمات قبل تحرريها النهائي، ولكنها لن تصل الى هذا، وهو ما نحن مقتنعون به بالكامل، بدون تغيير جذري في استراتيجية القوى الاشتراكية الرئيسية”. (Yaffe 2009, 241)

وليس في هذا القول ما يحتاج الى مزيد من التوضيح: فهو نقد صريح “للقوى الاشتراكية الرئيسية” وهو في الوقت ذاته تحديد دقيق لمهام هذه القوى، ولا يخفى ابه بذلك كان يقصد الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية وكافة بلدان المنظومة الاشتراكية، مطالباً إياهم بالتصدي للمسؤوليات التاريخية إزاء “تحرير الانسانية”.

خلاصة القول انه غيفارا كان يطمح، في النهاية، ان يقنع الدول الاشتراكية الاخرى بالعدول عن النمط السوفييتي في التنمية والحد من التوجه نحو “اشتراكية السوق”. كان يرى ان هذه الدول تسير في طريق مجهول، وكثيراً ما كان يشبّه هذه البلدان “بالطائرة التي ضلت سبيلها وبدل ان تعمل على العودة الى دربها الصحيح، تابعت رحلتها في الطريق المجهول”. كان غيفارا يأمل بان نقده، الذي يستند الى التجربة العملية في نظام التمويل بالميزانية، سيقنع الدول الاشتراكية بتصحيح هذه الاخطاء. الا ان ما كان يثير حنقه هو غياب اي منبر للجدل الاممي حول الاقتصاد السياسي في مرحلة التحول الاشتراكي.

محاولة لتأريخ الخلاف مع السوفييت

يرجح الكثيرون من المحليين ان الاتصالات والمفاوضات السرية المبكرة بين كوبا والاتحاد السوفييتي بدأت في مصر وربما بوساطة مصرية عبر السفارة السوفيتية في القاهرة. وربما كانت بداية العلاقة (الرسمية) مع الاتحاد السوفييتي في اكتوبر 1959 بعد عودة الوفد الكوبي من زيارة للاتحاد السوفييتي، وتعيين غيفارا رئيساً لدائرة التصنيع داخل المعهد الوطني للاصلاح الزراعي.

وبالرغم من التوتر الذي إتسمت به علاقة غيفار بالاتحاد السوفييتي وما شابها من خلافات في محطات متعددة، فانه يظل من العسير تحديد تأريخ زمني دقيق لبدايات الخلاف بين تشى غيفارا والقيادة السوفيتية.

لم يخفي غيفارا امتعاضه في أعقاب أزمة الصواريخ والموقف السوفييتي منها، خلال الاسبوع الواقع بين 22 و28 اكتوبر 1962 عنما قرر خروشتشيف سحب الصواريخ السوفيتية من كوبات منصاعاً لتهديد الرئيس الاميركي جون كندي دون التشاور مع او حتى إشعار فيدل كاسترو بهذا القرار.

وخلال سنوات “الجدل الكبير” الذي احتدم في كوبا (1963 ـ 1965) والذي شمل نقاشاً عاماً وحاداً حول مسائل الانتقال الى الاشتراكية، لم يتورع غيفارا عن الافصاح والوقوف بوضوح وحزم ضد المفاهيم الارثودكسية السوفييتية المتخشبة وغيرها من مواقف المنظومة الاشتراكية في اوروبا الشرقية.

لا شك أيضا في ان هذه الخلافات قد طفت على السطح، خلال الندوات الاسيوعية التي أشرف عليها العلماء السوفييت الذين اوفدوا الى كوبا لهذا الغرض، “التثقيف الشيوعي”، والنقاشات الساخنة التي كان يثيرها غيفارا في تلك الامسيات.

كما ان بوادر خلافه مع الاتحاد السوفييتي وسياساته تجلت حين تألق غيفارا كأكبر الممثلين والمتكلمين باسم الشعوب الفقيرة في العالم الثالث، معلنا مناهضته للامبريالية اينما حطت قدماه ضارباً بعرض الحائظ سياسات ورغبات الكتلة الشرقية في الكثير من التصريحات والمواقف والخطابات التي أطلقها غيفارا على مدى علاقته مع السوفييت، منذ ان رحب به السوفييت في الساحة الحمراء في موسكو يوم 7 نوفمبر 1960 وحتى أوائل عام 1965 ، والتي أثار العديد منها حفيظة القيادة السوفييتية.

إتضح منذ ذلك الحين، وتحديدا بعد خطاب غيفارا الشهير في الجزائر (فبراير 1965)، كما يذكر بعض المحليين وكما جاء في العديد من الوثائق لتؤكد ان هذا الخطاب الذي كان الظهور العلني الاخير لغيفارا على المشهد العالمي أو في أية مهمة كوبية، كان على ما يبدو طلباً سوفييتياً. (Besancenot and Lowy, 2009, 113)

نقد “نقد تشى غيفارا”

إنتقد الكثيرون، في كوبا وخارجها، غيفارا بان أطروحاته في نقد الاتحاد السوفييتي جاءت “مثالية” وخارج سياق المرحلة التي ناضل فيها. وهو نقد ربما كان غيفارا قد إعتاد عليه خلال حياته القصيرة، إلاّ انه ما زال يتردد حتى يومنا هذا رغم الكوارث التي منيت بها الشعوب والانسانية من جرّاء وحشية الامبريالية والراسمالية وما حلّ بالمعسكر الاشتراكي من دمار وإنهيار. فقد جاء التاريخ ووقائعه ليؤكد ما ذهب اليه غيفارا في تقييمه ونقده.

وكي نضع الامور في نصابها الصحيح، قد يكون من المفيد ان نسترجع تلك الحقبة التي ناضل فيها غيفارا ومنحها جلّ جهده وحياته ـ حقبة النصف الاول من ستينيات القرن الماضي. فقد حفلت تلك الحقبة باوضاع دولية ومحلية ساخنة تذكر أهمها:

ـ إتسمت الساحة الدولية بالنزاع الصيني ـ السوفييتي وتداعياته، وبالحرب الباردة بين المعسكرين في ظل توحش الامبريالية الاميركية في سعيها نحو الهيمنة على العالم وحربها في فيتنام، يقابلها التواطئ السوفييتي الذي تمثل آنذاك بسياسات أسموها “الحياد الايجابي” و “التعايش السلمي”؛

ـ على مستوى العالم الثالث شهدت المرحلة صعود حركات التحرر الوطنية وأنتصاراتها المتلاحقة في أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كان أنتصار الثورة الجزائرية اشهر علائمها؛

ـ كما شهدت الساحة الدولية تبلور وتعاظم دور حركة عدم الانحياز من حيث تنامي الفكرة وحضورها في العلاقات الدولية؛

ـ أما الداخل السوفييتي، فقد عاش أوضاعاً إستثنائية شملت إصلاحات اقتصادية جذرية بعد وصول نيكيتا خروشتشيف الى مواقع القرار في ذلك البلد، الذي إنقضى على المرحلة الستالينية وتوجه نحو مهادنة المعسكر الراسمالي ـ الامبريالي عبر سياسات الحياد الايجابي والتعايش السلمي؛

ـ في خضم هذه الاحداث العارمة جاءت الثورة الكوبية لتعلن، بعد إنتصارها بعامين، تبنيها للدرب الاشتراكي وسط حصار امبريالي اميركي غاشم وخانق هدد، وما زال يهدد، أمن البلد وسيادته وشعبه ومستقبل ثورته.


[1] Paul Sweezy, Leo Huberman and Paul Baran.