حوار مع سمير أمين في القومية والقطرية والشيوعية (الحلقة الثالثة)

في القومية والقطرية والشيوعية

ومسائل أخرى

حوار عن بعد مع سمير أمين

(الحلقة الثالثة)

عادل سمارة ـ رام الله المحتلة

أمين:

فالواقع هو أن الشعوب المعنية، بعد أن يئست من فشل خطاب العروبة وعجز ممارساتها عن تحقيق الهدف، بل عن إقناع الجماهير بالدخول معهم فى الصراع من أجل “الوحدة العربية”.. هذه الشعوب اتجهت فى اتجاه آخر من خلال تكريس انتمائها إلى عقيدة دينية حلت محل عقيدة القومية.

يغيب عن أمين هنا التماسك العلمي، من هي هذه الشعوب؟ وهل يمكن الحديث في المجتمعات الطبقية عن “الشعوب”؟ أم عن الطبقات. وإذا كانت الطبقة لا تأخذ معناها إلا إذا كانت ذات مشروع سياسي، فما معنى اعتماد “الشعوب” في مشروع سياسي يراه امين “الأسلمة”؟. ومن الذي فشل؟ هل هي العروبة، خطاب العروبة أم قوى معينة حملت ذلك الخطاب. وحتى هذه القوى. وما المقصود بخطاب العروبة، هل هي اللغة، الأطروحات، الأسس…؟

ليس مغزاي هنا تعريف العروبة بأكثر مما هي مسألة تعبير عن انتماء إلى المكان والزمان الحاضرين. إلى بقعة جغرافية رأى لينين أنها الساسية للقول هذه أمة، هذا عن المكان، وعن الزمان أعني اليوم وغداً، بماذا تحلم وكيف تجسد؟ بهذا المعنى فالعروبة أكثر من عروبة، ولا أقصد عروبة مصر أو الأرض المحتلة بالكيان وبأوسلو-ستان، بل عروبة كل طبقة/تحالف طبقي على حدة، وفي مواجهة واحدها الآخر. الوحدة من خطاب عروبة، والمقاومة من خطاب عروبة، والكمبرادور الاقتصادي والسياسي والثقافي خطاب عروبة أخرى.

حتى والكثير من الطبقات الشعبية قد ذهبت لخطاب الدين، ولأن حركات وأنظمة قومية قد عجزت ففشلت، لكن هذا ليس نهاية التاريخ، ولا إغلاق باب البدائل إذا كنا نقرأ المرحلة، وأي مرحلة، قراءة مادية تعتمد الصراع الاجتماعي/ الطبقي حتى لو لم يكن ساخناً. التاريخ لا يدور، يُديره الناس.

ولكي نكن منصفين لهذه القوى والأنظمة، التي لا اتمتع انا بتذكار هزيمتها، ربما لأني تربيت إلى وقت في مناخاتها بل كنت جزءاً منها. لنكون منصفين، فإن هزيمة هذه القوى ليست فقط لقصورها ولكن هناك المشروع الراسمالي المركزاني وخاصة في حقبة العولمة. مشروع لا يسمح ولن يسمح باي خروج من تحت عباءته لا في القاهرة ولا بغداد ولا موسكو ولا عدن، ولا حتى في الصين. إنما الاستهداف هنا أشد ناهيك عن دور الكيان الصهيوني الإشكنازي.

لا أتصور أن أمين يؤمن بما قال أن العقيدة الدينية حلت محل العقيدة القومية، ليست الأمور بهذه البساطة. ليست العقيدة الدينية أرضية لمشروع اجتماعي اقتصادي دولاني ما لم نصل إلى “أممية دينية” تختصر الدول القومية ليس في الخطاب بل في المشروع المجسد “حيِّزياً” فهل لهذا افقاً؟ على الأقل اليوم؟

لا شك أنك شاركت كثيراً في الكتابة والحوار عن ذبول الدولة القومية والسيادة أو بقائهما، سواء في كتابات هاردت ونيجري أو مابعديين آخرين. هذا ناهيك عن مخاطر الحديث عن عقيدة دينية بهدف التجسيد المشروعاتي السياسي الدولاني، لأن هذا يفتح استغلال قولك لمشروعية “الدولة اليهودية” وأنت لست هكذا قط. هذا ناهيك عن الحديث عن تقسيم العالم إلى دول دينية، أي أن “أممية دينية” ليست واردة على الأقل لأنه لا دين يتنازل للآخرين ولا بد للأمية الدينية أن تنتهي، بل هي عمليا، إلى اممية راس المال. وبهذا المعنى يظل الزمان والمكان مسرحاً لإحدى الأمميتين، أممية راس المال وأممية العمل.

أمين:

الغريب هو أن الكيلانى، الذى يعتبر نفسه ماركسيًا، لا يرى أن الماركسية تتنافر والمواقف الثقافوية. أعتقد أن هذا الأمر يظهر الطابع الدغمائى لفهم الماركسية عند الكيلانى. وسوف نرى فيما بعد ما يثبت ذلك، علماً بأن الذهنية الدغمائية هى ظاهرة موجودة بالفعل فى صفوف جميع مدارس الفكر، فى الحاضر والماضى، ولا يشذ معسكر الماركسية عن هذه القاعدة العامة.

قد يكون البعض ما زال يحمل الرؤية الثقافية لدى ساطع الحصري وهي على أية حال، رغم طوباويتها ليست النظرة العلمية ولكنها الأقل خطراً من الثقافوية المركزانية الرأسمالية الغربية التي خُلقت وأُنعشت للرد على وتجاوز الماركسية وتحديداً المرتكز الطبقي ! وإذا كانت الثقافوية لا تناسب الوجوب الثوري في مجتمعات الغرب الراسمالي التي أنجزت الوحدة القومية المتقدمة راسمالياً بل تعيقه، فهي خطيرة على الوطن المجزأ وستجزئه أكثر.

أمين:

4- لن أضيف إلى ذلك تعليقاً على الكتابات القومية المتطرفة والساذجة التى تذهب إلى أبعد من إشهار “تواجد القومية العربية منذ الفتح” حتى تزعم أن العروبة ظاهرة سبقت هذا الفتح!

يصح هذا القول إذا كان المقصود بالقومية المعنى القومي المعاصر الذي يلخصونه في “وعي الأمة بوجودها ودخولها في مشروع تحقيق وحدتها” حتى بمعزل عن السوق…الخ. ولكن، هل يمكن إنكار أن الصينيين موجودون منذ كنفوشيوس وقبلا منه، وكذلك الهند وفارس، لماذا هذا الكرم في الانتقاص من كون العرب كانوا موجودين تسميها امما أو شعوبا هذا امر آخر. وكما أن الذين في الصين صينيين، فالذين في “مكة” عرباً. ليست بالمعنى المعاصر هذا نعم، ولكن وجود بشر على ارض تخصهم هو بداية الحديث عن أمة. أعتقد بأطروحة ان العرب موجودين قبل الإسلام، وأن الإسلام خطوة في التاريخ العربي إذا قرأنا التاريخ قراءة مادية.

أمين:

يزعم الكيلانى، ومعه جميع أصحاب “الفكر القومى”، أن الإنسان العربى (أو الأغلبية على الأقل) يمارس “عروبيته” بوعى ولا يعترف بالانتماء “القطرى” إلا غصباً عنه. كما يزعم الكيلاى أن “القطرية” اصطناعية ونتاج لـ “فعل خارجى”، ألا وهو تقسيم حديث للوطن العربى إلى دول (وأحياناً دويلات) مستقلة بعضها عن بعض وخاضعة للسلطة الأجنبية. وإذا كان ذلك صحيحاً- جزئياً- فيما يخص تقسيم الشام بين فرنسا وبريطانيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكذلك ربما بالنسبة إلى فصل الشام عن العراق، فأعتقد أن القول يتجاوز حقيقة الأمور فيما يتعلق بمعظم البلدان الأخرى، وحتى فيما يتعلق بالهلال الخصيب.

من الخطورة بمكان التقليل من مشروع التجزئة الذي يتم تجديده حتى اللحظة، والتجزئة ليست مسألة أن أهالي جيبوتي عرباً أم لا. التجزئة هي مشروع استغلال الوطن العربي وغيره. إن “فرق-تسد” مرفوعة الآن إلى مستوى: “التفكيك والتذرير للمحيط وتركيز المركز”. وفي الوطن العربي يجري تفكيك حتى القطر الواحد من داخله، تكرار ما فُعل بسوريا. أليست كارثة العراق في فك الكويت عنها؟ ألا تجري اليوم محاولات تفكيك العراق، بل هي تحصل وماذا عن الصومال؟ ألم تتم محاولات إقامة إسرائيل أخرى للنخبة المارونية في لبنان؟ أليس اتفاق طنجة 1956 هو كي لا تتم اية وحدة مغاربية، لا داع لتميتها “وحدة المغارب من أجل الوحدة العربية، لا داع، إنما هناك جوهر المشروع.

لا يمكن سحب الحديث عن القطرية بمعناها السياسي المتخارج في تبعية للمركز، أي دورها الوظيفي، على خصوصيات القطريات التي هي موجودة حقا. وأعتقد ان رفض القطرية هو مشروع نضالي حقيقي في هذه اللحظة على الأقل لأن الدولة القطرية هي تجسيد مصالح طبقة الكمبرادور التي استنفذت دورها.

أمين:

فللقطرية جذور أعمق ترجع إلى مسيرة التاريخ قبل الغزو الاستعمارى الحديث. وقد أدى اختلاف التطور المجتمعى إلى تباين الظروف الاجتماعية الملموسة التى تعيش الشعوب فى إطارها.

هل كانت هناك قطرية في الحكم العثماني، أم ان هذا الاحتلال هو الذي كيَّف كل منطقة عربية طبقا لمتطلبات ارتباطها بالمركز العثماني؟ اي هل كان تطور هذه المناطق على طبيعته؟؟ هل كان لأي عربي أن يعيش أو يتطور دون هيمنة الاحتلال التركي؟ لم تكن تلك الجزيئات حرة التطور لنقول أنها قطريات لها اسسها. هناك اسساً للفوارق، قامت على الموقع الذي فرضه عليها العثماني، وهناك خلال العثماني وبعده طبيعة القطر نفسه. فهل كان للسعودية ان تُلحق بالسوق العالمي قبل النفط؟ بينما كان ذلك لمصر؟ إذن لمنحى التطور القائم على الموهوبية كما أشرت آنفاً دور اساسي.

إن ردة الفعل على القوميين اليمينيين يجب أن لا تدفع لاختلال المنهج المادي التاريخي في التحليل. هناك “تطوير” ل اللاتكافؤ في الوطن العربي وليس تطورا اختياراياً. (مجلة المستقبل العربي المشار إليها سابقاً ).

أمين:

فنجد هنا مجتمعًا منقسمًا إلى قبائل فى الجزيرة والمغرب وموريتانيا وليبيا، بينما هناك مجتمعات أخرى لا وجود فيها لمثل هذه الظاهرة. وهل يمكن تجاهل الناتج الذى تنتجه ظاهرة القبائلية فى الوعى بالانتماء الذاتى؟ وكذلك هل يمكن تجاهل الانتماءات الطائفية المتعددة فى الهلال الخصيب؟ بل وحتى فى الجزيرة نفسها هل يمكن تجاهل التباين بين أهل نجد الوهابيين وأهل الحجاز وأهل شواطىء الخليج الشيعة؟

لا

لا يمكن تجاهلها، ولكن تجب قراءتها وليس بهدف تغذيتها. قرائتها من مدخل خطورة ولا تاريخية الوجود المنحصر على الذات غير ذات القدرة على الإنتاج مما يدفعها لتبعية خارجية ما وبالتالي تعاكسها مع مشروع الدولة الواحدة، الموحدة…الخ. يذكرني هذا الحديث بمساقات واسعة تُدرَّس في جامعة لندن وغيرها عن فسيفسائية الوطن العربي وخاصة الشام والعراق، وهي ما تتم الاستعانة بها اليوم في العراق وحتى في السودان. إن هذه التنوع موجود في العديد من دول العالم، وإن بدرجات. وقد يكون السؤال الحاسم هو: هل للدولة المركزية القوية اقتصاديا دورها في حسم التخارج التبعوي لهذا الإقليم أو هذه الطائفة أم لا؟ هل كان تماسك الاتحاد السوفييتي سابقا بحكم القوة فقط ام بحكم القوة الاقتصادية؟ أليس لتفككه علاقة قوية ما بالضعف الاقتصادي وهبوط اسعار النفط الخام الذي كان يغطي عجزه؟ لو كانت الوحدة القومية تأتي بالمشاعر لاتحدت ألمانيا بباقات الورد من بسمارك. وهل كان لألمانيا الغربية أن تبتلع الشرقية دون عسر هضم لو كانت فقيرة؟

أمين:

وبدلاً من أن نتحدث عن “الذاتية” (بالمفرد) ألا يكون من الأفضل والأقوى والأصح أن نعترف بأن للفرد العربى “ذاتيات” عديدة منوعة، لعلها تدخل فى تناقض فى بعض الظروف، وأن تتعايش دون صعوبة فى ظروف أخرى.

هذا صحيح وهذا في كل مكان هذا في بريطانيا مثلا، رغم التقدم الراسمالي ويظل الحسم هنا في قوة الدولة الاقتصادية وهذا سبب بقاء الولايات المتحدة وتفكك الاتحاد السوفيتي واستمرار الصين رغم الاستعادة الرأسمالية كما كان يحذر ماو.

أمين:

وذلك دون اعتبار أوجه أخرى للذاتية التى تخرج عن إطار الانتماء للجماعة، مثل الانتماء الطبقى والانضواء فى فلسفات الحياة المختلفة (قبول “التحديث” كما هو، أو رفضه، أو الأمل فى “تحديث الحداثة” نفسها… الخ)، وهى انتماءات متعددة شأن فعلها فى المجتمعات العربية المعاصرة هو شأن فعلها فى المجتمعات الأخرى غير العربية.

ولو حصرنا النظر على الانتماء “الجماعى” (القومية أو الوطنية، سميها كما تشاء) لوجدنا هرمًا من الانتماءات تتطابق فوق بعض وتكوّن معاً الوعى الحقيقى المعيش. فأنا لا أنكر وجود بعد “عروبى” يعمل عمله، ولكن هذا الاعتراف لا ينفى وجود أبعاد أخرى للانتماء الجماعى.

إذا وقعنا في القراءة الثقافوية والتسليم بها او حتى الهوياتي سينتهي الهرم هذا إلى أنني رب الأسرة الفلانية وهذا عالمي، هذا ما دفعت إليه الرأسمالية منذ قرون وتدفع إليه اليوم المابعديات تكفيراً بمختلف السرديات الكبرى. لذا يبقى الفيصل هو الواقع المادي والتحديد الطبقي ومدى تسيس الطبقات. هل احترام الملك عند المغربي شيئا سوى علامة سالبة هي اساسية في إجهاض حتى التقدم؟ وهذا يبرز سؤالا علينا جميعا حله: ما هي النظرية أو المساهمة التي علينا إنجازها ولو كمسودة كي يكفر المواطن العربي بنظام الحكم، لا أن نستدعي سلبيات كهذه لإثبات خصوصيات قطرية هي نفسها معيقة للتقدم والذي هو ما ننشده. لا خلاف على ذكرها وقرائتها، إنما الخلاف على عدم الدقة في توظيفها.

أمين:

هذا هو الأمر الواقع الذى لا يمكن تجاهله. اسأل فردًا مغربيًا على سبيل المثال عما إذا كان يعتبر “شخصيته” لا تختلف عن “شخصية” مواطن عربى آخر، وسوف يقول لك فوراً ذلك المغربى (أو العديد منهم) إن احترام الملك عنده يمثل عنصراً أساسياً فى ذاتيته، والجزائرى سوف ينظر إلى المغربى على أنه “شخص قريب”، ربما “شقيقه” فى بعض الأحيان، ولكنه “مختلف” بالتأكيد.

لنلاحظ المفارقة صديقي الشيوعي البريطاني/الإيرلندي توبي شلي، وقف عند صبي في سبتة ليمسح حذائه (كان ذلك عام 1985) تحدث مع الصبي بالعربية فقال له الصبي هل أنت فلسطيني قال نعم نهض الصبي وأخذ يقبله هل يفعل ذلك تاجر الكمبرادور المغربي؟؟؟؟ ربما كان والد هذا الصبي ممن يقدسون “مولاي الحسن الثاني” ولكن، كيف نوظف الموقفين؟ هذا الفيصل.

أمين:

إن الأفراد الذين يضفون بالفعل الأولوية الأولى للانتماء “العروبى” وينكرون بالنسبة إلى أنفسهم أى انتماء آخر، لا يمثلون سوى أقلية صغيرة وسط أقلية أخرى تحتل فضاء “المسيسين”. وتصور أن ما يقول به أفراد هذه الأقلية هو صحيح بالنسبة إلى الجماهير، إنما هو إسقاط تعسفى لميول طيبة لا أكثر.

السؤال هنا ليس علمياً، فحتى القول بالأولوية العربية لا ينفي أنني من فلسطين أو من البحرين، ولا ينفي النضال في المكان ولكن باي اتجاه؟ هل هو باتجاه تحسين شروط تبعية البحرين ام بناء شروط التقاطع العربي. كتبت ذات مرة إلى الشيوعي السوفييتي الراحل والمرتد الراحل إميل حبيبي: ” إذا كان مشروع التسوية ممكنا فلماذا يكون مشروع الوحدة مسنتحيلا؟” (كان هذا خلال النقاش عن التطبيع وضده وهو ما افضى إلى اغتيال ناجي العلي). هذا دور الأقلية المسيسة من جهة، وليس عليها سوى أن تذهب عميقا لتقرأ كيف تم تجهيل الأكثرية الشعبية. في حديث لطلبة كلية جامعية دعاني إليه المحاضر، سألت 60 طالب وطالبة ماذا تسمي نفسك بسؤال مباشر وسريع: أجاب طالب واحد عربي. فأردفت: من يؤيد صدام حسين في ضم الكويت: الجميع؟ هذا ما يجب أن تبحث فيه المادية التاريخية. فالطبقات الشعبية تبحث عن مصالحها حتى في لحظات تشويه وعيها، تبحث عن التنمية وحتى في الوطن العربي تبحث عن الكرامة.

أمين:

ولئن كانت ملاحظة حقيقة الوعى العربى المعاصر أمرًا واضحاًَ وبسيطاً، فإن كشف ما كانت عليه فى العصور القديمة هو أمر آخر، أصعب بالتأكيد. بيد أن الأكثر احتمالاً هو أن الأمور لم تكن مختلفة. فمن المشكوك فيه افتراض أن المزارع المصرى والبدوى فى الجزيرة وراعى الغنم فى المغرب قد عاشوا “ذاتية عروبية” تجمعهم فى “وعى بالوحدة“. هذا بينما يمكن تصور أن الأمر قد اختلف بالفعل من هذه الزاوية بالنسبة إلى كبار تجار فاس ودمشق وعلماء القيراوان والأزهر ورجال السلطة العسكرية هنا وهناك، فيحتمل أن هؤلاء عاشوا بالفعل نوعاً من الذاتية المشتركة. ولنتساءل هنا: أكان جوهر مضمون هذا الوعى المشترك هو الانتماء القومى العربى أم الانتماء إلى ما كان يبدو لهم حقيقة “الأمة الإسلامية”؟ أميل إلى ترجيح الجانب الثانى على الأول، بدليل أن هذا الوعى بالانتماء إلى جماعة واحدة قد ظل قائماً فى إطار الإمبراطورية العثمانية غير العربية.

لا يمكن إسقاط وعي قومي في عصر راس المال على “عربي” بدوي أو راعٍ في الجزيرة قبل قرون. أنت هنا على حق. واستغرب إذا كان محاورك يقول هذا؟ من اين للبدوي او الراعي أو حتى الحرفي أن يفكر في العروبة ولماذا اصلا عليه ذلك، ما هو المناخ الاجتماعي، في تلك الفترة، الذي يثير في ذهنه علاقة ما مع مزارع في الدار البيضاء.

السؤال هو اليوم: أين يقف المرء من التجزئة والتبعية عبر مصالحه المادية مدعومة باللغة والثقافة والتاريخ…الخ وإذا كان الدين عامل احتواء في السابق فليس اليوم بنفس المضمون وخاصة الجانب الإيجابي. ولكن، ألا تعتقد ان استدعاء تأثير الدين قبل قرون مختلف عن استدعائه اليوم؟ وأن توظيفه اليوم أخطر؟ وهنا يكمن كعب أخيل لقوميين وشيوعيين عرباً في هجمتهم على الدين من باب المقصِّرين نضالياً أمام إسلام سياسي كفاحي. لا أعتقد أن الطبقات الشعبية غدت اصولية هكذا، ولا سلفية. المعيار الأساسي هو : من هو الطرف السياسي الذي يلتقط ما تبتغيه الأمة، بل الطبقات الشعبية ويناضل ضمنه. عندما رفعت الحركة الوطنية شعار الكفاح المسلح في الأرض المحتلة، وكنت أنا من مؤسسي الجبهة الشعبية في الضفة والقطاع، كنا في وضع قبول هذا ورفض ذاك، بمعنى صلاحيته وصلابته الكفاحية، كان تدفق الناس بلا حدود، لم نكن نستدعيهم، كانوا يأتون. وحينما تورطت الحركة الوطنية في اوسلو وواصل الإسلام السياسي نضاله المسلح وحتى عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، ذهبت الطبقات الشعبية إليهم. هل غيرت الناس عشقها؟ لا، هي اتجهت إلى الطرف الذي يحاول الإجابة على ما تريد. كل المليارات التي تدفقت إلى الأرض المحتلة لم تغير في مزاج الجماهير، بل زادت الحركة المسماة علمانية، رخاوة وتورطاً في مؤسسات الأنجزة، وفتح خروقٍ للمركز دولا ومخابرات وأكاديميا وافرادا. وكل هذا يزيد رصيد حماس. آسف على الشطط فلسطينياً ولكن ربما هي مقتضيات التوضيح.