لماذا يجب أن ندفن أنكيدو (الحلقة السادسة والاخيرة)

مؤتمر التمويل الدولي، التنمية وتشكيل الحيز الفلسطيني.

(مركز دراسات التنمية/جامعة بير زيت، 27-28 أيلول 2010)

عادل سمارة

· الخيار الآخر: التنمية بالحماية الشعبية

لا يُحمى فكر أو رأي أو مشروع أو منشأة إلا من منشىءٍ أو بانٍ لها. هذا المعنى المبسط للتنمية بالحماية الشعبية (أو ما يبقى في الواد غير حجارة- اللاز للطاهر وطار). هي درس تأثير الواقع الملموس على وعي الطبقات الشعبية كي تخلق وتحمي مشروعها التنموي. والمقصود هنا، ليس تحت الاحتلال وحسب بل في اي مجتمع طبقي. وهو مشروع اشتراكي دون مواربة، لكنه يبدأ ويُنشأ من المستوى الشعبي القاعدي ليفرض نفسه على النخب المتعالية أو المُعلاة بتمويل الأجنبي كيف لا، وهي دوماً بلا سيقان حقيقية. وهذا يفترض ويشترط تخطي التهميش المفروض على الطبقات الشعبية بل خروجها على التهميش والقبض بيديها على زمام المبادرة. هكذا بدأ مشروع التنمية بالحماية الشعبية في الأرض المحتلة مع الانتفاضة الأولى، ولهذا تحديداً قُمع من قبل الكيان الصهيوني الإشكنازي وأُغتيل مع إقامة “أوسلو-ستان” التي أوقفت المقاطعة والانتفاضة. وبعدها كان ما كان وسيكون كذلك.

ُطلقت تسميات كثيرة “بمسميات تنموية” في الأرض المحتلة. ولست هنا بصدد
تفنيدها أو دحضها أو مدحها. لكن ما يُدهش في كثير منها أنها كانت مثابة اجتراء مصطلح دون محمول تنموي ودون مفردات غير راسمالية، وللانتباه، فإن هذه المفردات الراسمالية إنما هي انتماء من جهة وتقيُّدٍ من جهة ثانية بشروط المرحلة (1985-2008) إي تفكك الدول الاشتراكية، فمن الذي يجرؤ على تأدية الأذان خارج الجرَّة! بينما التنمية هي في مبتداها نقيض التحديث الراسمالي، وهي المشروع العملي الميداني التطبيقي للاشتراكية. التنمية بالحماية الشعبية باختصار: هي بناء الجميع ومن أجل الجميع باستثناء أعداء الشعب ممن هم تحت جلد الشعب نفسه.

أما وهي كذلك، فهي رفض قطعي للسائد سياسيا واقتصاديا وخطابا وحتى مصطلحات. وعليه، فإن تنمية بديلة تعني العمل من تحت وفي ظل القائم سياسياً، التيار السائد أو المهيمن، اي في حالة الأرض المحتلة سلطة التسوية، ولكن بمنظور اقتصادي بديل. وبديل هنا يمكن أن يكون راسمالياً ايضا بديلا لرأسمالي قائم. والأمر نفسه عن مفردات من طراز التمكين وغيرها.

على أن الخلل الأخطر هو مصدر المشروع أو السياسة او “الموديل التنموي” لمطروح، بمعنى أيُّ نَبتٍ هو؟. هل هو نبت برِّيٍ شأن التنمية بالحماية الشعبية؟ أم هو من صنع مكتبيٍّ غذَّاه التمويل الأجنبي فاسماه “تنمية” وجرى تجميعه كقطع غيار لسيارات من مختلف الأنواع والطُرُز؟ هي سيارة في الشكل لكنها لا تسير.

والأمر الأشد خطراً كيف جرى تمويل تصميم هذا الموديل او ذاك؟ هل كان بتمويل الدول الأجنبية عبر منظمات الأنجزة الأجنبية للمحلية؟ وهل يجوز هذا! أو هل يُعطي/يُثمر في
التحليل الأخير؟

كان جنين موديل/ نموذج التنمية بالحماية الشعبية قد طرأ في ما اسميته “سياسة السقوف الممكنة” بمعنى أن يتم التركيز الفلسطيني على المجالات التي لم يركز عليها اقتصاد العدو.[1] لكنني تحولت لاحقاً، من المقاومة السلبية/المرنة إلى التحدي الاقتصادي فكان موديل التنمية بالحماية الشعبية كمشروع نظري[2]، ليجد فرصته بالصدفة أو بالضرورة والقطع على الأرض حين عدت وكنت أكتب نص الأطروحة. عدت لأرى مباشرة وعن كثب بعد أقل من شهرين:

· أن العمال الفلسطينيين (من الضفة والقطاع المحتلين) داخل الكيان يقاطعون العمل هناك، وهو ما كنت اسميته في الأطروحة: الانسحاب إلى الداخل شغلا /إنتاجاً واستهلاكاً ( ص 345 وص ص 361-381. أي أن العمال هم أول من بدأ المقاطعة. والمقاطعة لأي موقع عمل أو مصدر دخل هو تحدٍٍ للذات يدفع لإقامة موقع عمل ومصدر دخل آخر، نقيض بلا مواربة. .

· وأن الطبقات الشعبية بأجمعها قد هوت ومارست مقاطعة منتجات الاحتلال.

· وأن محاولات زراعية وتصنيعية قد شقت طريقها لإنتاج بعض ما يُطلب سواء
تعاونيات الأحياء أو التعاونيات الزراعية، وحتى محاولات تصنيعية من عمال اكتسبوا
خبرة في العمل في مواقع اقتصاد الكيان…الخ وفي كل هذا كان دور المرأة رياديا.

· تطلَّب هذا الفوران الشعبي قيادة سياسية وقيادة اقتصادية. قيادة سياسية تتبنى الانتفاضة تنمويا وثقافيا وليست قيادة تستحلب من الانتفاضة “تسوية سياسية” بأي ثمن. كان يجب أن تقوم م.ت.ف (بما هي شبه حكومة آنذاك) بتوفير قروض للفلاحين كي يستغلوا الأرض ولإقراض مشاريع لتشغيل العمال وإنتاج الأساسيات. وهذا لم يحصل. كما أن راس المال الخاص لم يُقبل على الاستثمار في إنتاج أكثر بدائل ممكنة.[3] فمنظمة التحرير كانت في أرقى تصوراتها الاقتصادية تحلم بإقامة سنغافورة هنا أو تايوان، وقد كتبت في غير موضع وزمن، أن الإمبريالية لا تريد هنا سوى (تايوان أو سنغافورة واحدة هي الكيان ص 347 من الأطروحة نفسها). وكنت اقصد ان الظروف القائمة آنذاك، أقصد قبل أوسلو، لن تسمح بتحرير أرض لتُقام عليها دولة حقيقية ومستقلة، وأن ما يمكن أن يُقام هو كيان بموجب قرار الأعداء وخاصة الإمبريالية والصهيونية[4]، وعليه، تولدت أوسلو-ستان.

بين ما كنت اقترحته في بحث الأطروحة وبين ما تعلمته من الانتفاضة كانت عناصر نموذج
التنمية بالحماية الشعبية. بمكوناته المذكورة أعلاه، وانفصاله الواضح عن اقتصاد الاحتلال والاقتصاد الراسمالي التابع لسلطة الحكم الذاتي لاحقا لجر الأخير إليه وليس تبعيته لاقتصاد السلطة الراسمالي التابع، وإعادة تركيب البنية الإنتاجية شعبيا، وخلق نمط استهلاك واعٍ، وإقامة شبكة تسويق شعبية، وإعادة توزيع الفائض المحلي، وقطع الارتباط باقتصاد العدو، وإعادة العلاقة بالاقتصادات العربية، وربط هذا كله أو اشتراط استمراره وتجذره ببلورة الطبقات الشعبية لحركة ثورية قادرة على حمل المهمة.

لم تكن الانتفاضة الأولى من صنع مفكر أو قيادي أو سلطة…الخ كانت نَبتاً شعبيا برِّياً. كانت حصاناً بريا لحق به “الكاوبوي-الكمبرادور” الفلسطيني ولجمه إلى أن تسربل بالتطبيع وسقط.

وحيث لم تكن الانتفاضة كتنمية بالحماية الشعبية من صنع قادة، فإن اغتيالها كان من صنعهم، فكانت اتفاقية اوسلو سياسياً واتفاق باريس اقتصادياً، وما نتج عنهما هو اختيار طريق وأفكار ووصفات البنك الدولي وسياسة الباب المفتوح وهي التي أدت إلى تعميق التبعية والفساد وتراجع البنى الإنتاجية لنجد البلد وقد غدت مجرد مجتمع يعيش غالبه على اقتصاد التساقط الذي لم يأت حتى من مشاركة بين مركز سائد محيط تابع يشارك بدرجة ضئيلة في العملية الإنتاجية/ التجارية، بل تابع يُموَّل من المركز لاجتراء تنازلات عن وطن من أجل مقادير من المال وسلطة محدودة في الضفة الغربية وربما دون قطاع غزة. وهذا ما اسميته “الريع النقودي مقابل التنازلات السياسية” وهي التي وصلت برئيس سلطة الحكم الذاتي مؤخرا إلى إعلان استعداده للتخلي عن الحق التاريخي اي حق العودة مقابل الحصول على دولة في الضفة والقطاع.

لا الأرض لرئيس الحكم الذاتي، ولا الناس قطيع عنده، ولم يخوله ولا يستطيع أحد تخويله بهذا. هل يمكن لسلطة بهذا المبنى والموقف أن تقيم تنمية؟ بالقطع كلا!

وللمفارقة، فإن هذه التصريحات السوداء تلقي ضوءاً على مصداقية التنمية بالحماية الشعبية.


[1] أوردت هذا في كتابي: اقتصاد المناطق المحتلة: التخلف يعمق الإلحاق منشورات صلاح الدين 1975، وكتاب اقتصاديات الجوع في الضفة والقطاع منشورات مفتاح 1979.

[2] كان هذا، جنين/ جوهر أطروحتي لنيل الدكتوراة(أنظر أدناه الأطروحة مطبوعةً، صفحة التجريد Abstract والاستنتاجات)وقد بدأته 1986، لكنني عدت هاربا من لندن يوم 4 أكتوبر 1987 بعد أن هّدِّت بالقتل إثر صراع فكري ضد التطبيع أُغتيل على إثره الرفيق ناجي العلي وكان في الصف المضاد محمود درويش وإميل حبيبي ورجاء النقاش وغيرهم. ولم يكن لي أن أعود قبل 4 أكتوبر لأنني كنت خرجت للدراسة بحكم محكمة احتلالية بأن لا أعود قبل 4 أكتر 1987. وكنت أود بقاء سنة رابعة هناك لأكمل أطروحتي وأدافع عنها والتي بدأت فيها نموذج التنمية بالحماية الشعبية (نُشرت لاحقا

Industrialization in the West Bank: A Marxist Socio-Economic Analysis, Al-Mashriq Publications for economic and Development Studies, Jerusalem 1992 )

ولأتدبر بعض المال من أشغال كثيرة عملت بها وانا ادرس هناك، وكنت أعلم أن الأكاديميا المحلية لن تسمح لي بالعمل ولم تسمح فعلاً. لكن اغتيال ناجي العلي أرغمني على الهرب إلى الأرض المحتلة وأنا اعلم أن مختلف انواع القَتَلة هناك أمامي. هكذا يقول المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا

لكنني قلت لنفسي، إذا كان ذلك حتماً، فليكن هناك وليس هنا! وكنت محظوظاً أولاً، بعودتي لأجد بعد شهر وقد اشتعلت الإنتفاضة الشعبية لأجد لمخطط نظريتي هذه مكانه الطبيعي، أُناسه الطبيعيين”، وثانياً ان رأسي ما تزال على كتفي وبينهما!.

كتبت عدة طبعات لهذا الموديل وخاصة:اقتصاد الضفة والقطاع من احتجاز التطور إلى الحماية الشعبية، مع ملحق إحصائي للسيد عودة شحادة وصدر عن دار الأسوار في عكا شباط 1988، وأُعيد إصداره في دمشق الشام عن دار كنعان. وكذلك في كتابي:

Beyond De-Linking: Development by Popular Protection vs development by State,
Al-Mashriq Al-A’amil for Cultural and Development Studies and Palestine Research
and publishing Foundation, Glendale, CA and Ramallah 2005.

ولاحقا، كتبت طبعة خاصة بطلب من الرفيق الطاهر المعز للقراء في أقطار المغارب العربي، ونشرتها في مجلة كنعان في العدد 129، نيسان 2007 ص ص 3-35. وهي موجودة في موقع كنعان الإلكتروني.

[3] لعل هذا ما افادني في التوصل غلى موديل للتنمية لا يعتمد على الدولة/السلطة بما هي طبقية أي لطبقة، وأن التنمية لا بد أن تأتي من الأسفل وأن لا تتبع منهج السلطة؟ أنظر

Beyond De-Linking: Development by Popular Protection vs development by State, Al-Mashriq Al-A’amil for Cultural and Development Studies and Palestine Research and publishing Foundation, Glendale, CA and Ramallah 2005.

[4] كان رأيي منذ تلك الفترة أن م.ت.ف لن تتمكن من تحرير اي شبر لتقيم عليه دولة. وقد أوردت هذا في كتاب سرِّيٍّ 1977 احتوى وجوب مغادرتي للجبهة الديمقراطية إضافة إلى رؤيتي أن التنظيم ليس ماركسياً ولا بد من حلِّه والتخلص من الأكثرية غير الماركسية وبأن الاتحاد السوفييتي ليس حليفا بدرجة تحالف الولايات المتحدة مع
الكيان الصهيوني وبأنه ليس دولة اشتراكية
.