أنا الشعب لا يعرف المستحيل

 

أنا الشعب لا يعرف المستحيل ولا يرتضي للخلود بديلا

محمود جلبوط

 

        الشجاعة والتصميم والوعي الثوري هم الرافعة الثورية التي تحمي وتحفظ وتحقق الشعار الثوري للانتفاضة في مصر ” الشعب يريد إسقاط النظام.

        لقد امتدت الانتفاضة القادمة من تونس بزهوها ربوع الوطن العربي وانتشرت كانتشار النار في الهشيم، وخرقت الحدود بسرعة ليس لتشابه طبيعة الأنظمة والمظالم فقط بل لتثبت أن هذه الحدود مصطنعة بنوها لاحتجاز الشعب وقدراته خلفها، والشعب ضاق ذرعا بها وبمظالم وهزائم وإهانة أنظمته حتى كاد أن ينعي نفسه كثرة إحباطاته. حطت الانتفاضة في خطوتها التالية في مصر، قلب الوطن، لتكنس منها الذل العربي الذي سنّ في جلّه عبر مؤتمرات مشبوهة وكواليس لقاءات ثنائية ورباعية وثلاثية في شرم الشيخ حيث يرقد الآن الدكتاتور المخلوع في مآله الأخير هو وعائلته، لترعد فرائس العدو في فلسطين فيضرب أخماسا بأسداس. تتابع الانتفاضة سيرها بهية مباركة غربا وشرقا تزعزع حيث تمر أركان أنظمة الكمبرادور المتعفنة الجاثمة فوق صدور الشعب منذ عشرات السنين حكمت الشعب بالحديد والنار أفسدت وفتتت المجتمع، جرفت منه كل الحراك السياسي وفكره والعاملين فيه عدا عبيدها، وأنشأت عوض عنه حراكا طائفيا مذهبيا وفكرا وهابيا قدريا تسليميا ولترسيخه اقترفت أحايين كثيرة مجازر جماعية أثارت الرعب في قلوب الناس أفرادا وجماعات، ومحاكم استثنائية وأحكام عرفية وقوانين طوارئ همها الوحيد سحق آدمية الشعب وكرامته.

        هبت العاصفة تعتمد على اختمار تمرد تنامى بعيدا عن عيون البصاصين لدى شباب عربي تسلح بالشجاعة والتصميم عقد العزم على تجريف الخوف والذل والهوان الذي اعترى مجتمعاتهم عشرات السنين، يعتمرهم غضب وحنق شديد على سلطات لم تقدم لهم طوال حكمها سوى الفقر والجوع والبطالة، تصدوا لشرطة وبصاصي النظام هم للأسف من أبناء جلدتهم جندهم النظام باستغلال فقرهم وجهلهم، أفسدهم عبر حملات منظمة من التضليل والتجهيل وغسل الدماغ، حرضهم على استباحة كرامات وأمن أهليهم، حولهم إلى جلادين وسجانين ضد آبائهم وأمهاتهم وإخوة وأخوات لهم عانوا على أيديهم كل صنوف التعذيب في فروع التحقيق والمعتقلات سنين طويلة بذنب أنهم سعوا بكل كبرياء ليجعلوا من مكان عيشهم وطنا مجيدا، حرا آمنا، رحيما ليليق بهم كبشر آدميين، يأمنون فيه على أنفسهم في عيش كريم.

انتفض الشعب ضد القهر، والجوع، الإفقار، البطالة، الفساد، الرجعية، التمييز، والمحسوبية.

انتفض الشعب أخيرا على الدمى المأجورة التي رهنت مستقبله لدى التتار عتاة الاحتكار العالمي وهدرت ثروات البلاد في سبيل مصالحه ومصالح حفنة من عملاء محليين أصحاب رؤوس الأموال البلطجيين. انتفض الشعب على أجندات النظام الطائفية والمذهبية وحروبه الأهلية، على تطبيعه مع العدو الصهيوامبريالي الذي أمّن له كل الدعم: مالا وسلاحا وغطاءا سياسيا، تدريبا لجيشه وأجهزة مخابراته وشرطته ومثقفيه لتجريف البلاد من قوى المقاومة والممانعة، سعى بالقمع والقتل والاعتقال والتضليل لتصبح البلاد مرتعا للنهب والسلب وللقواعد العسكرية والاقتصادية لتؤمن سيطرته على العالم.

        انتفض الشعب لأنه قرر أن يسترد الوطن والكرامة المهدورتين عند أقدام هذا العدو التتري، ليسترد الثروة المنهوبة، ليزيل الإعاقة عن كاهل مستقبله المرهون للخارج في ظل علاقة التبعية، لأن أقل من هذا لهو عبث وجهد ضائع، فقوى الثورة المضادة التي باغتتها الانتفاضة على حين غرة تنتشر بين ظهرانيها، متربصة وراء مكاتب الحكومة الحالية والمجلس العسكري وفروع المخابرات والدوائر الحكومية والسفارة الأمريكية والصهيونية تسن سكاكينها للانقضاض عليها إن رفت عين يقظتها ولو للحظة للقضاء عليها رغم إسقاطها لرأس النظام، وتريد أن تجهض شعارها المكثف ” الشعب يريد إسقاط النظام ” إلى “الاكتفاء بإسقاط الرئيس” للحفاظ على النظام، فهي تسرع الخطى في هذا قبل أن تتحول الانتفاضة الجريئة إلى ثورة حقيقية تطيح بالنظام كله وبتوابعه وعلائقه، لتضيف إلى مخزون ذاكراتنا الشعبية كما فعلت دائما فشلا آخر.

        يتهمنا البعض بأنا نضفي على الانتفاضة المصرية أمنياتنا ورغباتنا الدفينة، ونحن نقر بهذا، ليس انتقاصا من عظمة الانتفاضة التونسية المجيدة صاحبة الشرارة الأولى في بركان البارود العربي المتنقل أو بالانتفاضات العربية الأخرى الدائرة، ولكن، وكما كررنا سابقا وسنبقى نكرر، لمركزية دور مصر بما مثلته وتمثله في قلب الوطن العربي من موقع وثقل سكاني واجتماعي وسياسي وتاريخي..إلخ.

لا غرو أن يضفي الشعب العربي كله على امتداد مساحة الوطن العربي ومن يشاركه في هذا الوطن من شعوب أخرى أمنياته ورغباته على هذه الانتفاضات المتدحرجة في أصقاعه وصلت خليجه وعراقه وحتى كردستانه، فرح عارم ينتابنا رغم حزننا على إراقة دم الشهداء، لأننا هرمنا بانتظار هذه اللحظة التاريخية كما قال أحدهم في شوارع تونس أثناء انتفاضتها، قضينا من العمر جلّه نناطح الأنظمة وقهرها منفردين فاستفردت بنا واستهلكت غرف التعذيب والزنازين ومراكز التوقيف والمعتقلات زهرة شبابنا، لكننا لم نيأس وراهنا دائما على انتفاضة الشعب، لم يفارقنا أبدا أمل اللحظة الحالية: الشعب ينتفض!! يا الله!! انظروا ما أبهى المشهد الجلل!! انهضوا أيها الذين قضيتم في المعتقلات وتحت التعذيب وساحات الإعدام وانظروا كم هو المشهد جميل! الشعب ينتفض والرايات تعم الساحات، إن الوطن يتجلى بكامل بهائه.

        بل نضيف بأن حجم توقعاتنا من هذه الانتفاضات ليساوي حجم خوفنا وحرصنا عليها لدرجة أننا نتمنى أن نحميها برموش العين لو استطعنا سبيلا.

        نعم نتمنى عليها الكثير لأنه حقنا، وتنوعت أمنياتنا بتنوع مواقعنا الاجتماعية والطبقية، وبناء عليه ستختلف توقعاتنا منها باختلاف ولاءاتنا الأيديولوجية والثقافية ورؤانا المستقبلية إلى جانب إدراكنا بأنه من المبكر خوض تحليل سياسي اجتماعي طبقي مطول على الرغم من توفر ما ظهر من أطر جليلة الوضوح عبر الشعارات المطروحة أو من خلال متابعة ما يقوله أو يكتبه أو ينقل عن بعض الثوار المشاركين فيها في وسائل الإعلام لتكوين انطباع أو رأي أولي.

        قالوا: إنها ثورة قد فجرها بضعة شباب من على صفحات الفيسبوك، فسخرنا، لإدراكنا أن الفيسبوك أو التويتر والإنترنيت بشكل عام لا يصنع ثورة ولو خصصت هيلاري كلنتون البليارات من الدولات لدعم مدونات ” أولادها” في العالم على قول الرفيق عادل سمارة. لأن دور الانترنيت كما نرى لا يتعدى وسيلة اتصال متقدمة محققة (بالرغم من رقابة أجهزة المخابرات الغربية لها) سهلة وسريعة يستعملها ميسوري الحال من الطبقة الوسطى وقلة من الفقراء المهتمين بالشأن السياسي العام والناشطين الطامحين للتغيير لاختصار المسافات فيما بينهم وتبادل الآراء ونقاشها وبلورتها، وأن معامل اختمار وتجهيز الانتفاضات والثورات لا تجري على صفحات النت وإلا كانت مكشوفة لدى أجهزة الاستخبارات مسبقا، بل هي هناك في العمق بعيدا عن عيون البصاصين المحليين والدوليين من خلال عمل تحريضي توعوي بين الجماهير، وجها لوجه عبر عمل تصادمي يومي، في “الاغوار”، إنه جهد مركّز ومنظّم، مضني ومحنك طويل النفس يمر عبر آليات يطول شرحها يعرفها الثوار جيدا، وإلاّ انتفت الثورات قبل اكتشاف الانترنيت والفيسبوك.

        قالوا أنها ثورة شبابية، ونقول فليبارك دورهم الريادي في إشعالها، بل ليس غلوّا لو أقرّينا أن هذا الدور الريادي تركّز على كسر جدار الخوف الذي بنته أجهزة قمع النظام عندما تدفقوا إلى الشوارع والساحات متّحدين كقبضة اليد الواحدة بروح استشهادية يواجهون بجرأة بصدورهم العارية كل أشكال القمع السلطوية التي اعتمدها النظام أصلا لبناء جدار الخوف هذا الذي بعد أن أزالوه انكشف ضعفها وعجزها، بعد سقوط الخوف راح يتكشف اختمار وعي ثوري تكون لدى الجماهير بجهود وتضحيات أفراد وأحزاب تنوعت مشاربها، ليس جميعها كما ادعوا من أزلام النظام وتريد تسلّق الموجة، بل إن لبعضها باع طويل في معارضة ومناوشة النظام، لها ما لها وعليها ما عليها. وبعد كشف عريّ النظام باختفاء أجهزة شرطته اكتشف الشعب لحمته الاجتماعية وأثبت بوسائل بدائية متواضعة أنه قادر على حماية نفسه وأملاكه وحتى متاحفه بكل بساطة بلجانه الشعبية، فما عاد الدين ولا انتماءاتهم العشائرية تفرقهم، تقاسموا لقمتهم وفرحهم وتعازيهم بشهدائهم، اختلط المسيحي مع المسلم مع العلماني، لقد حرس المسيحيون المسلمين أثناء صلاتهم في ساحة التحرير من بلطجية النظام وصلّى المسلمون مع المسيحيين في قداسهم، نامت النساء إلى جانب الرجال دون ولو حادثة أخلاقية واحدة أو حادث طائفي واحد.

        قال البعض متباهيا أنها ثورة لا طبقية غابت عنها الحزبية والأيديولوجية والسياسة والشعارات المعادية لأمريكا و”لإسرائيل”!! اندهشنا تساءلنا: كيف يقرأ هؤلاء وكيف يسمعون وينظرون؟ ماذا فهم هؤلاء من شعار الانتفاضة المكثف: ” الشعب يريد إسقاط النظام “. ضد من يثور إذا التوانسة والمصريون؟ وماذا كتب الثوار على لافتاتهم المرفوعة وأوراقهم وقمصانهم؟ وبماذا تهتف أصواتهم الجميلة الهادرة؟ لماذا ثارت الناس إذا ونزلت إلى الشارع معرضة حياتها للخطر؟ هل تتدحرج الانتفاضات من ساحة إلى ساحة في الدويلات العربية المختلفة للتسلية فقط ولتسرية الضجر؟ هل يثورون من قبيل الفستقة والرفاهية والبطر وقضاء وقت الفراغ؟ أم أن هؤلاء ينظرون إليها على أنها حفلة شبابية في ديسكو لما ضاق الديسكو عليهم لكثرتهم خرجوا إلى الشوارع يتراقصون ويغنون كما يحدث أحيانا في بعض المدن الأوربية في بعض المناسبات الكبيرة؟ عجيب أمر هؤلاء ’ لماذا يطلقون عليها تسمية ثورة وضد من تثور إذا؟ إن هؤلاء الدعاة بكل بساطة مصابون بتقعّر أو بتحدّب فكري أو أنّهم من دعاة أمريكا و”إسرائيل” واستدخال الهزيمة واستمرار التطبيع مع العدو، أو، والله العليم، من أولاد ” هيلاري كلنتون”.

        ربما افتقرت الانتفاضة في أيامها الأولى لوضوح الشعارات وهذا مصدره من وجهة نظرنا فجائيتها وعفويتها كما نخمّن، ولربما، ولعدم عنفيتها، قد شارك فيها تشكيل اجتماعي وسياسي واسع وعريض لفئات الشعب المصري مما دفع منظميها لأن يأخذوا بعين الاعتبار الحساسيات السياسية لدى جميع الأطراف المشاركة وهذه والله حصافة، وربما الأمر يعزى للانتقائية التي تمارسها القنوات الفضائية العربية المعروفة بمصادر تمويلها وأجندة أصحابها، وربما لأشياء أخرى يمكن فهم اعتباراتها لاحقا بعد اتضاح الصورة فغدا يذوب الثلج ويبان المرج، كثير من ربما ولكن، وفي كل الأحوال، فإن هذا يؤكّد إن افتقار حركة ثورية ما لحزبها الثوري يقود نشاطها ويحقق برنامجها ويتابعه لهو مثلبة وليس ميزة إيجابية، وإن عذرنا عدم وجود مثل هذا الحزب في البدايات فعلى الثوار تشكيله بالسرعة الممكنة قبل أن تنقض قوى الثورة المضادة المتربصة بهم في الداخل والخارج وتجهض ثورتهم، وإننا نرى أن افتقار الانتفاضة المصرية، والتونسية من قبلها، لحزبها الثوري المسبق الإعداد هو الذي تسبب في تخبطّهما بعد إنجاز خطوة إسقاط رأس النظام، تجلى هذا من خلال البلبلة والركاكة في مواجهة مناورات أزلام النظام ومؤسساته الأساسية وخاصة المؤسسة العسكرية في كلا البلدين، بعد أن أشكل عليهم وهما أنهما إلى جانب الشعب، وفي مواجهة مناورات الأمريكان والصهاينة للحرص على النظام وتثبيته بتجميله عبر تعددية شكلية قادمة وصندوق اقتراع لشرعنة مكتسباتهم والتطبيع شعبيا بعد أن فشلوا به منذ توقيع اتفاقية الذل العربي في كامب ديفيد، ومما يؤسف له انسحاب الثوار من “الغوار”، واغوارهم هي ميدان التحرير والساحات الأخرى والشوارع والعصيان المدني. متى حدث هذا؟ بعد أن بدأ العمال بالانضمام للثورة من خلال إضراباتهم الجماعية. حدث هذا قبل تحقيق شعارهم إسقاط النظام وكما نقدر بسبب افتقارهم لهذا التنظيم الثوري.

        إن الشجاعة والحماسة والاندفاع لوحدهم لا يصنعون ثورة، والاستعداد للشهادة في سبيل أهدافها لا يجلب خواتم مظفرة لها، ما لم يقترن ذلك بالوعي الثوري والمعرفة فيه وبناء حزب ثوري على أرضية الأهداف المتبناة والوعي بها، فالثوار الشباب يحتاجون، إلى جانب رومانسيتهم الثورية، الواقعية الثورية وهدوء التفكير وعمقه وتجذّره، وخبرة الشيوخ وحكمتهم ولياقة مفاوضين أشاوس لكي تبلغ الثورة أهدافها المنشودة.

        بغض النظر عن كل الاعتبارات السابقة فإنه لمن الجهل وقصر النظر اعتبارها أنها غير طبقية. فبتحليل بسيط لشعارهم المكثف ” الشعب يريد إسقاط النظام ” يظهر أنها طبقية بامتياز. لأنه لو سألنا بكل بساطة ماهو هذا النظام وممن يتكون لأجابوا إنه، وكما وصفوه بأنفسهم، عبارة عن تزاوج السلطة مع رجال الأعمال وأصحاب البلايين الذين استولوا على مقدرات البلد وعاثوا فيه فسادا، حصّلوا ثرواتهم وريعهم من نهب الأرض ومصانع الدولة ومن استباحة عمل الناس وأرزاقهم وأرضهم وأملاكهم وكرامتهم، والسمسرة مع رأس المال الأجنبي من خلال تربعهم على قمة السلطة وعن طريق تحالفهم الشيطاني مع الاحتكار الغربي الصهيوني بعد أن أتبعوا البلد بقضها وقضيضها للسوق وشروط البنوك الدولية كان من نتيجتها إفقار الناس وتجويعهم وفقدانهم لأعمالهم وسكنهم وشباب خريجين جامعات عاطلين عن العمل، كثيرا من الناس سكنوا المقابر وأحيانا الشوارع، وكثيرا منهم لا يجد ما يسد رمقه في يومه، يفتقرون إلى مياه صالحة للشرب. مظالم فوق مظالم تحالفت مع فقدان الكرامة الفردية في الداخل من خلال اعتداء رجال الأمن والمال على آدميتهم وجمعيا من خلال رهن كرامة الوطن للعدو ومشاركته في حروبه العدوانية على الوطن العربي وتجويع الشعب الفلسطيني والقضاء على مقومات المقاومة لديه مما أفقد مصر وزنها العربي والإقليمي والدولي لدرجة أصبحت عاجزة حتى عن حماية مصادر مياهها. أوضاع ضاقت الناس بها أوصلتهم إلى حافة اليأس أو كادت، دفعتهم دفعا للنزول إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم ورفضهم لواقعهم الذي أوقعهم النظام وحلفائه فيه فقرروا إسقاطه للخلاص من واقعهم المهين هذا، فمن يكون هؤلاء الناس إذاَ سوى عامة الشعب من الطبقة الوسطى وصغار الكسبة والعمال والفلاحين وجميع المتضررين من النظام.