أوبئة الثورة المضادة

أوبئة الثورة المضادة

أحمد حسين

 

        هناك سؤال يصلح لحل كل إشكالات الرأي حول واقع الثورات العربية، ويحدد مصير فرصة العمر التي أتاحتها أمام التاريخ العربي، المترنح بين وعي الثورة ووعي الهبّة الإصلاحية. والسؤال هو هل يمكن موضوعيا وعمليا، وأكرر موضوعيا وعمليا، أن يقيم العرب علاقة مع أمريكا في إطار السوية السياسية والإنسانية، واحترام مصالح الطرفين. وهل يمكن لأمريكا أن ترضى موضوعيا وعمليا بهذا النوع من العلاقات مع العرب؟ ألجواب على هذا السؤال هو الذي سيحدد ما إذا كنا نريد ثورة على مستوى تحقيق الذات الشاملة، والخروج إلى ساحة التحرر الوطني والقومي، وبناء مشروع التنمية العربية، أو على مستوى تحسين واقع الحال السيئة. وبالتالي فإن طبيعة الإجابة على السؤال الموجه إلينا نحن تحديدا، هي التي تحدد لنا مواصفات الطريق الذي علينا أن نسلكه إلى الهدف. ولن تستطيع الثورات الشعبية حسم موقفها، أو تحديد وجهتها، بدون الإجابة على هذا السؤال بوضوح ونزاهة موضوعية مقابلة.

        مصالح أمريكا لدينا، كدولة ذات بنية إمبريالية مركبة، تبلغ حد الضرورة القصوى التي لا يمكن الإستغناء عنها طوعا. فقضية السلع والثروات والخدمات الإستراتيجية التي تشتمل عليها المنطقة العربية، تجعل منها مركزا عالميا لمشاريع الدول الإمبريالية، التي تقوم بطبيعتها على موازنة نهب الأخر، كجوهر اقتصادي قومي. فكل شعوب الأرض الضعيفة تدفع من خبزها اليومي لإعداد المائدة المقررة، ونمط الحياة المرفه، للمواطن الغربي، والأمريكي بالذات. وهو كائن مثقف اجتماعيا يمكن أن يثور إذا انخفض مستوى معيشته عما هو عليه. بل إنه كائن كثير المطالب، ذو حس طبقي مرهف، على الدولة أن تضعه في سياق أمامي لمستوى المعيشة

        للمحافظة على استقرار المجتمع. وبذلك فإن المجتمعات اوالأنظمة الإمبريالية هي كلها بنى متورطة من حيث علاقتها بالأخر. وبطبيعة التأسيس، والنزعة القيادية للمعسكر الإمبريالي، وفائض القوة، وارتباط العسكري بالإقتصادي والإجتماعي، فإن أمريكا هي أكثر الدول تورطا في الأخر. ومن الطبيعي، لما للمنطقة العربية من أهمية لوجستية للإمبريالية، وكون الرؤية الإستراتيجية الآمريكية لهذه المنطقة، هي مزيج من ضرورة البنية الخاصة والخوف، بل الفزع، من قيام مشروع قومي نهضوي فيها، فيمكن القول أن أمريكا متورطة في العرب إلى درجة الشذوذ من حيث الحاجة البنيوية. ومع أن هذه الرؤية الإستراتيجية الممزوجة بالتخوف الدائم قد ورثتها أمريكا عن الأوروبيين، إلا أن مشروعها لأمركة العالم، أي السيطرة عليه تحت إسم العولمة، فإن مخاوف أمريكا، وحاجتها للمنطقة العربية كموقع وكآلية قمع لوجستية لفرض تصوراتها في العولمة على الأخر الإمبريالي، مثل أوروبا والصين وروسيا الدولة المسلحة والمفلسة، يتجاوز المخاوف والأطماع الإستعمارية القديمة، بمدى غير قابل للمقارنة إلى درجة الإفتراق الجوهري. فإذا أضفنا إلى هذا الرابطة العضوية بين أمريكا والصهيونية، وتحالفهما المقدس أثناء الحرب العالمية الثانية، لإثخان أوروبا بالجراح، وسلب إرثها الاستعماري، وإقامة إسرائيل كقاعدة تدييث متقدمة للشعوب العربية، والتنكيل بها تنمويا وقوميا، وتعطيلها اجتماعيا ومعنويا، استطعنا أن نفهم لماذا كان على أمريكا موضوعيا وعمليا التورط في الدم والشرف القومي العربي، إلى درجة الإبادة المادية والجسدية والمعنوية، كما فعلت وتفعل في العراق وفلسطين ولبنان. إن أمريكا ترفض وستظل ترفض، تحت كل الرايات الحقوقية والسياسية والعسكرية، اية شرعية لوجود عربي اجتماعي مستقل ومتماسك، لأنه يشكل خطرا، كما تقول على المنصات الدولية، على السلام العالمي وإسرائيل وجيران العرب الآخرين. أما في دهاليز التنكيل السيكيولوجي بالعرب كعينة بشرية، من خلال الإعلام الفني والأدبي، فإن العرب قريبون جدا من الهمجية والتفاهة والتطرف، علاوة على أنهم يتنكرون بشدة للديمقراطية، هذه المقولات، لن نخدع أنفسنا وننكر أن أمريكا، نجحت في تحويلها إلى قناعة ثقافية، تم تبنيها ساسيا على مستوى العالم، بطواعية وتعاون عربي نادر في التجارب البشرية. هذه هي أمريكا موضوعيا وعمليا، كما تقول الوقائع، في تعاملها مع العرب. فهل الشعوب العربية مستعدة لقبول الضرورة والحاجة الموضوعية لأمريكا لنزع الشرعية عن الوجود العربي، والتعامل معه دوليا على هذا الأساس؟

        لقد تعايش إنسان ما بعد النفط والخليج، مع الشذوذ الأمريكي الخاص بالعرب، منذ مؤتمرات ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. لقد وصل باليأس والمعاناة حافة الفهم، ولكنه اكتفى بجلد الذات، مبررا استسلامه بعجزه، وكأنه ولد عاجز. وقد استعان على هذا التبرير بثقافته الدينية التي أضيف إلى حيلها الفقهية، فقه العجز والتسليم لإرادة الله وليس لإرادة أمريكا. أصبحت أمريكا في وعيه المتهرب، بمساعدة من ” الكنيسة الإخوانية “، نوعا من العقاب السماوي، وإشكالا دينيا خالصا. وكانت أمريكا تدفع أثناء ذلك كل تكاليف الوعظ والصدقات ورواتب أئمة المساجد، وطباعة الكتب الدينية وتوزيعها مجانا أو باسعار رمزية. لقد أصبح نشر الفكر الإخواني بالنسبة لأمريكا، أكثر جدوى من التدييث بالإعلام السيكيولوجي، والتنكيل المعنوي. وفي الحقيقة أن الجهات والمصالح الدولية والمحلية التي تكالبت على الإنسان الهجري، لا يمكن الإحاطة بها في مقالة واحدة أو كتاب واحد. ولكن المهم أن أمريكا والصهيونية كانت وراء ذلك كله، وأن الجماعة ظلت الحليف التلقائي لها في العالم العربي، لالتقاء المصالح المثالي بين الطرفين على الساحة القومية. هي دائما على المستوى الميداني أمام أمريكا أو خلفها مثل قناة الجزيرة. ويمكن القول أن وصول إنسان النفط والخليج حد اليأس من ذاته، هو الذي جعله يتافجأ مع المتفاجئين، من الحراك الشبابي الذي تجاوز بشهامته واندفاعه الفدائي كل التوقعات.

        لم يكن هناك حركات شبابية واضحة المعالم في العالم العربي. وأكمل تعريف للضعف في التجربة هو أنه القوة غير المنظمة. فمبدأ الحياة، هو توفر طاقة الوجود لتحقيق الذات. هذه هي المعادلة المنطقية. وهي لا تعترف بالضعف، سوى أنه سلبية الوعي والتنظيم. لم يكن المستوطنون اليهود الأوائل ومن تبعهم في فلسطين لديهم من الطاقة التجميعية، ما يعادل عشر الطاقة الجماعية للشعب الفلسطيني. ولو كان هناك تنظيم فلسطيني مقابل لتنظيمهم، لفروا جوعا من فلسطين بدون حرب. وهذا يعني أن التنظيم والقوة، مقابل عدم التنظيم والضعف لا ينفصلان أبدا. لذلك فإن الهبات الشبابية في العالم العربي، لا تعاني من نقص القوة، ولكن من نقص التنظيم. فعفوية الثورة، جعلت منها، تحت وطأة الواقع المريع، انفجارا عظيما في مصر وتونس، ولكنها حتى الآن لم تستطع تحقيق امتيازها الثوري الموضوعي، الذي كان من المفروض أن ينقل السلطة الكاملة عفويا إلى الشعب، كما في كل الثورات الشعبية. ولو توفر التنظيم المسبق لفكرة الثورة، لما كان سيناريو الثورة المصرية أو التونسية يقف الآن مترددا أمام السيناريو الأمريكي الذي يفرضه عدد من الوكلاء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. فالثورة لا تنظر إلى الوراء، وتسحق أعداءها سحقا تحت أقدامها، وبدون تردد، كبداية محتمة لنظام أي سياق ثوري. وعلى هذا الأساس من العفوية، فإن الشباب الثائر لم تتح له فرصة التفكير بسيناريو أمريكي محتم، لتدارك أي تغيير يهدد مصالح أمريكا، ويغير استراتيجية ونوع العلاقة القائمة بينها وبين العالم العربي، والتي يمكن اختصارها بالتحكم الكامل بمصيره، وماركته الإجتماعية. لذلك، وبدون أي مناص، على الثورتين المصرية والتونسية، أن تجيبا نفسيهما على السؤال المتعلق بأمريكا. أي أن تتبنيا مفهوم الثورة الحقيقي، أو أن تكتفيا بالإصلاح الإجتماعي، ودمقرطة النظام القائم. فإذا كان القرار في صالح مفهوم الثورة، فعليهما أن تدركا موضوعة أن أمريكا عدو حتمي للشعوب العربية، لا حياة معه ولا حرية ولا مستقبل اجتماعي وطني أو قومي. أما إذا كان لهما رؤية موضوعية مختلفة، فهذا ِِشأن مصري وتونسي داخلي، لا يحق لأحد سوى الشعب المصري والتونسي التدخل فيه. وحتى الأن فإن السيناريو المفروض عليهما ليس سيناريو داخلي، وإنما سيناريو أمريكي بامتياز، يقوم عملاء أمريكا في الجيش والحياة السياسية العامة بتنفيذه. وهو ما يضع مستقبل الثورة في رأس اهتمامات شعوب المنطقة العربية، والإنسان العربي.

        وإذا كان هناك قرار شعبي عربي لصالح الثورة ككل، فإن مفهوم الثورة، وطبيعة العدو الأمريكي، تفرضان على الشعوب العربية وعيا موضوعيا مفصلا، لسيناريو الحركة التي يجب الإلتزام بها. فقد أتاحت لهما ثورتا مصر وتونس درسا وتجربة مفصلة في الإتجاهين. وأتاحتا لهما أيضا الزمن اللآزم لاتخاذ القرار. فإذا كان في اتجاه الثورة بكل أبعادها في العمق والإتساع، فيجب الإستعداد لها بالتنظيم الشبابي، الذي تقتضيه موضوعية المواجهة الحتمية مع أمريكا وحلفاءها، وهم موضوعيا وواقعيا آليات الثورة المضادة :

أية بقايا للنظام الزائل: ووجودها أمر غير منطقي بتاتا بعد الثورة، ويثير العجب، وينشر ظلالا من عدم الفهم حول الثورة، ستستغلها الثورة المضادة للتشكيك، وفكفكة المواقف داخل الثورة.

حركة الإخوان كحليف طبيعي لأمريكا: وأهم نقاط اللقاء بين هذه الحركة البراغماتية وأمريكا، هو العداء للقومية العربية، ومفهوم الأمة الدينية كبديل عن المفهوم القومي، والعداء المشترك لحركات التحرر الأجتماعي.

ألأنظمة العربية في الخليج : وهي ضعف الحلقات لأن أمريكا معنية باستبدالها أ أضعف الحلقات حاليا، لأن أمريكا معنية باستبدالها، والمشكلة هي إمكانية فرار هذه الأنظمة مع أرصدتها الشخصية، وربما الإرصدة السيادية أو قسم منها أيضا، خاصة وأن هذه الأنظمة من النوع الذي لا يورث سياسيا، لآن الفكفكة قد تلغي السمة السيادية المستقلة لهذه الكانتونات. وستكون هذه كارثة اقتصادية لمشروع التنمية القومي العربي.

قناة الجزيرة: كوكر خالص للعمالة لأمريكا، يعمل في مجال الفكفكة الأخلاقية والسياسية والإجتماعية، ويتعامل مع مواقع الغرائزالطائفية والعرقية والثقافية بقفازات حريرية ناعمة.