حول المجلس العسكري للجيش في مصر

حول المجلس العسكري للجيش في مصر

محمود جلبوط

 

يحاول هذا المجلس من خلال المناورات التي يتبعها على الطريقة الكسنجرية بذل ما يستطيع لعدم المساس “كثيرا” بهيكلية النظام الأساسية والحفاظ على هيبته بالرغم من صمته أحيانا ولغاية في نفس يعقوب عن خدش الشباب الثائر لبعض مؤسساته إن في مراكز الشرطة أو المخابرات العامة.
فما هي شخصية المجلس العسكري الاعتبارية؟ 
        هو مجموعة من جنرالات الجيش ذوي الرتب العالية كبيري السن يرجع معظمهم إلى “جيل أكتوبر” كما يسمونهم في مصر ذلك لمشاركتهم سوية في حرب تشرين سنة 1973، تجمع بين أفرادهم رابطة زمالة قوية وتاريخ طويل من الخدمة العسكرية المشتركة قضوها تحت أمرة رئيسهم السابق محمد حسني مبارك باعتباره قائدا أعلى لهم جمعتهم به إلى جانب خدمتهم العسكرية تحت ظلّه زمالة إن صح التعبير وأهداف مشتركة. ولكن السؤال الهام هو: هل يعتبر هؤلاء الجنرالات العسكرية “تنحي” قائدهم الأعلى السابق عن السلطة نهاية المطاف لنظام يعتبر المجلس العسكري من أهم أركانه؟
        كل الدلائل تشير دون أدنى شك أن عملية “الخلع” التي حققها رجال الانتفاضة الشجعان لمبارك لا يمكن اعتبارها ولا في أي حال من الأحوال نهاية للنظام وكلّ ما يجري وما يقوم به هذا المجلس العسكري هو ترقيع للنظام، وأن نقل صلاحيات المخلوع إلى المجلس المذكور يعني فيما يعنيه حرصه الشديد على استمرار النظام، تجلّى ذلك من خلال حرص هذا المجلس على حكومة عيّنها المخلوع على الرغم من إدراكه لرفض الشعب لها باعتبارها محابية للدكتاتور المخلوع وهي شريكته في الفساد، هذا أولا، وثانيا حرص هذا المجلس عبر بياناته المتتالية على تطمين الكيان الصهيوني ورعاته في أمريكا وأوربا على التزامه بكل الاتفاقيات العسكرية والسرية والاقتصادية المعقودة عهد النظام الرئيس المخلوع مع أنه أكد في كل بياناته وتصريحاته تبيه لمطالب الشعب وأهداف الثورة بيعه مما أدّى إلى تضليل طيف واسع من الشباب المنتفض أودت إلى تقديرات خاطئة باتخاذه قرارا بالانسحاب من الغوار قبل إنجاز محقق لشعارهم الثوري: “الشعب يريد إسقاط النظام”. 

        بالتأكيد لا يمكن أن يصدق كل ذي بصيرة أن حماة العهد القائم من جنرالات العسكر منحازين أو يمكن أن ينحازوا إلى الانتفاضة كما صوّر لها وصدّقت من خلال بعض تصريحاته الإعلامية وبياناته العسكرية مع العذر لو كانت مجرد مناورة انتفاضية، بل إن وهم حيادية الجيش المصري لم تقتصر على النوايا الطيبة لدى الشباب الثائرين وإنما كانت تسود قناعة شعبية يبدو أنها تعود بمرجعيتها إلى أن النظام حرص على ألاّ يقدّم المؤسسة العسكرية لحقبة طويلة على أنها عنصر سلطة معترف به وبالتالي لم يتمظهر ولاؤها للنظام أو رأسه أي الرئيس بالذات مع أن الواقع لم يكن كذلك ولا مرة واحدة، وبناءا عليه فإن الذي جرى حقيقة أن الجيش قد ادعى دور الموقف الحيادي بين الشعب وبين قائده ربما بناءا على سيناريو قدم لرئيس أركانه أثناء زيارته لأمريكا قبيل اندلاع الانتفاضة. 

لكن لماذا كان هذا الدور هو الأسلم للحفاظ على النظام؟ 

        لأن جنرالات الجيش قدّرت، ومنذ البداية، كما الثائرين تماما أنه لو أعطيت الأوامر للجيش بالتصدي للمنتفضين وإطلاق النار عليهم لعصى كثير من ضباط الجيش وصف ضباطه ومعظم مجنديه هذا الأمر وامتنعوا عن تنفيذه بل على الأرجح سيختار معظمهم الانشقاق والانضمام إلى صفوف الشعب ومشاركتهم عصيانهم في ميدان التحرير كما حدث لبعض ضباطه الشباب الذين رفعهم المنتفضون على أكتافهم علما أن هذا قد تم دون أوامر لإطلاق نار والمثل الليبي ماثل للعيان.

        لذلك يسود اعتقاد أن الجيش قد فكر مليا واختار موقفه الذي اختاره ليرمي عصفورين بحجر: الحفاظ على وحدته لرعاية الانتقال بالنظام إلى عهد جديد بعد تنحي رئيسه والقيام بعملية تجميلية دون الحاجة لتفكيكه بتضافر جهود “أولاد هيلاري” وبعض الأطراف السياسية المتغازلة مع أمريكا لامتصاص اندفاعة المنتفضين في الوقت الذي بدأ العمال في المصانع يرفدونهم بإضراباتهم واعتصاماتهم في الكثير من المعامل وأماكن العمل.

        لقد أقسمت المؤسسة العسكرية على ما يبدو لرئيسها المخلوع أن تؤمن له نهاية مشرفة لفترة رئاسته وخروجا “سلسا” من الحكم كما صرّح رجالات الإدارة الأمريكية في أكثر من مناسبة وقد حققت له ذلك(وهي لا تحتاج الحفاظ على عهدها له حتى آخر المطاف)، وأقسمت لأمريكا أيضا بأنها ستحافظ على جميع الاتفاقيات والمواثيق المبرومة والعهود المقطوعة معها ومع “إسرايل” وقد استعجلت لها ذلك صراحة من خلال بياناتها ومازالت تحاول جاهدة للالتزام به. 
        ربما من المبكر الإقرار فيما إذا استطاعت الانتفاضة إنجاز تغيير جوهري في تركيبة النظام المصري وتعديل سمته الطبقية الأساسية التي اعتمدها لسيطرته الطبقية المستندة إلى تزاوج بين رجال الأعمال والسلطة المغتنية منها أومن سمته السياسية بأنه نظام كامب ديفيد نسبة إلى الاتفاقية التي حددت مسؤولياته في الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني وتأمين المصالح الأمريكية والمساهمة مع أمريكا في مد هذا الكيان بمقومات قوته في المنطقة العربية من خلال اتفاقية الغاز وغيرها وملاحقة وحصار المقاومين ضدّه وتجفيف منابع تمويلهم. أو الإقرار بأن الانتفاضة قد استطاعت أن تدخل إلى مسرح التغيير المصري شيئا آخرا عدا إسقاط النظام وجدار الخوف والتخفف من شعور الهوان. 

        إن الجنرالات بقيادة رئيسهم محمد طنطاوي قد تمتعوا سابقا ليس بثقة مبارك المطلقة طوال مدة حكمه فقط بل وثقة الكيان الصهيوني والإدارات الأمريكية المتعاقبة ووقد نشأ بين ثلاثتهم من خلال عملهم المشترك لعشرات السنين علاقة حميمية وإخلاص لا تشوبه شائبة، ومن هنا كان الإصرار الأمريكي، بعد إفلاس كل مناورات الرئيس المخلوع، لنقل السلطة إليهم بعد الإدراك أن لا مفر من التضحية برأس النظام تحت ضغط انتفاضة الشعب الأبية التي لم ترضها خطوة تكليفه نائبه سليمان. 
        على افتراض صدق نوايا جنرالات المجلس العسكري بتبني مطالب الشعب والتزامه بتحقيق مطالبه حقا لباشروا فورا باتخاذ قرارات لا مندوحة عنها لإثبات حسن هذه النوايا مثل إلغاء قوانين الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين وإقالة الحكومة المعينة من قبل مبارك وتشكيل حكومة جديدة انتقالية من شخصيات ثقافية أكاديمية سياسية كانت أم تكنوقراط تحظى بقبول المنتفضين أنفسهم أو على الأقل من خارج دائرة النظام السابق ودوائره المشبوهة، لتباشر هذه الحكومة بمهمات المرحلة الانتقالية التي كان من المفروض أن يتصدر مهماتها المباشرة إلغاء الدستور القديم المفصل على مقاس الدكتاتور المخلوع وليس تعديله، اعتقال رموز الفساد وعلى رأسهم مبارك وعائلته لمحاكمتهم أمام القانون الجديد المنبثق من الدستور الجديد الذي ستشرف على صياغته لجنة تضم مختصين قانونيين وتشريعيين من شباب الثورة ومن مختلف مشارب الشعب واختلاف تنوع تركيبتهم الشعبية: مسلمون-مسيحيون–علمانيون نساء ورجال..إلخ ليؤسس لبناء عقد اجتماعي جديد يحوز على رضا الجميع ويصون حقوق الأفراد والجماعات على أساس المساواة في الحقوق والواجبات ويضمن تحرر المرأة وتخلصها من أغلالها القانونية والاجتماعية السائدة للتنسب مع عهد الثورة ويدفعها بالتالي للمشاركة الإيجابية في مجتمع تمثل نصفه على قدم المساواة مع الرجل، دستور يرسّخ لمبدأ حرية التعبير والاعتقاد يشعر الجميع في ظلّه بالأمان والاطمئنان وإزالة مشاعر الغبن والظلم والخوف.

        لو كان المجلس العسكري صادقا حقا في تعهداته للشعب لاتخذ قرارا بتجميد نشاط الحزب الحاكم الفاسد (والأفضل تفكيك) إلى مابعد انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة تعقد على أساس مواد الدستور الجديد ويحدد موعدها بما يتيح للكتلة الشعبية بناء تشكيلاتها السياسية الجديدة لخوض الانتخابات بناءا على برامجها ورؤاها فلا ينبغي أن ننسى أن النظام قد جرّف التربة الاجتماعية من السياسة والسياسيين ولإعادة السياسة إليها من جديد تحتاج إلى وقت كاف. 

        لكن ما جرى على أرض الواقع لم يبشر بالخير بتاتا ولم يدع للتفاؤل بالطبع، فقد اعتمدت المؤسسة العسكرية حكومة أحمد شفيق المشكلة من قبل الرئيس المخلوع دون تعديلات تذكر وباركها ماطل كثيرا لتغييرها، وجلّ ما دعا إليه للدستور هو إجراء تعديلات لبعض مواده فقط، لم يلغ قانون الطوارئ ولم يطلق سراح المعتقلين بل هدد بمنع التجمعات والاحتجاجات، وثار لغط كثير حول استمرار دور ما للرئيس المخلوع من مكان إقامته ولنائبه، مما عنى للكثيرين من الثوار أن المجلس العسكري المذكور لا يحمل نوايا جدية لإجراء تعديلات جذرية لأسس النظام بل يهدف من خطواته في إدارة التغييرات إلى كسب الوقت للاكتفاء بعملية تجميلية له تحمل في طياتها إمكانية تشكيل تعددية سياسية مراقبة “دوليا” تمارس اللعبة ” الديموقراطية” على الطريقة الأمريكية يشرّها صندوق الاقتراع ويحدد نتائجها منذ انطلاق مرحلتها الأولى وحتى المرحلة النهائية المال المحلي واستطالته الدولية إلى جانب دعم وتعاون مجيشي الدين لتوظيفه في إحكام الطوق على مطامح الثوار لإنجاز تحوّل ثوري حقيقي على المستوى الاجتماعي والفكري والأخلاقي والحقوقي والاقتصادي والسياسي.
ما هي دوافع الجنرالات العسكرية التي تقف وراء عدم سماحهم للثورة لأن تكتمل؟
        لأن كف جنرالات المؤسسة العسكرية ليست نظيفة من الفساد الذي عمّ مفاصل النظام كما يتوهم الكثيرون من الأطراف المشاركة في الانتفاضة، وغاب عن ذهن هؤلاء أن المؤسسة العسكرية هي من أهم مفاصل هذا الفساد وحماته، بل يمكن اعتبارها بجهازها الأساسي سلطة مستقلة بحد ذاتها داخل السلطة الحاكمة وتوزع المغانم أيضا من خلال إدارتها لمشاريع كبيرة خاصة بها تطال جميع فروع الحياة. فهي تزاول إدارة أحياء سكنية كبيرة ومتعددة، أسواق، أماكن ترفيهية مراكز سياحية مخصصة لقضاء عطل ضباط القوات العسكرية، معامل الصناعة العسكرية وإنتاج العديد من السلع المدنية المركبة والبسيطة، هذا فضلا عن المصادر المالية الأخرى المتعلقة بالسمسرة على صفقات السلاح، وهي تخشى بالتأكيد أي حملة تطهير جادة لفساد النظام، وهي تدرك بأن أي حملة محاسبة ثورية حقيقية للفاسدين سوف تطال ذقونهم ولن تستثنيهم بالتأكيد لأن فساد مشاريع المؤسسة العسكرية تعتبر من أهم مفاصل فساد النظام، ومن هنا فإن جنرالات وضباط الجيش ينتابهم خوف لا يستهان به من سقوط النظام واستبداله بنظام جديد يقوم على أنقاضه يعتمد سياسة المحاسبة والشفافية نهجا، وسيعرّض امتيازاتهم ومصالحهم للشك والتساؤل والمحاسبة. 

        والسؤال الجوهري هو: هل تنسجم امتيازات الجنرالات العسكرية والأعداد المهولة من ضباط المخابرات العلنية والسرية إلى جانب العدد المهول من ضباط الأمن المركزي والشرطة السرية المستحقة من النظام القائم مع تركيب ديمقراطي شعبي حقيقي تطالب به الثورة في مصر؟ 

        بالطبع لا، لكن عملية تغيير النظام ستكتمل عاجلا أو آجلا، لأن الشعب قد استفاق.