انتصار الهزيمة أم هزيمة الإنتصار

انتصار الهزيمة أم هزيمة الإنتصار

أحمد حسين

 

        توضحت صورة التوجهات على المستوى الشعبي العربي، محققة كل التخوفات وخيبة الأمل المتوقعة. وبالمقابل لم يطرأ أيضا إي جديد على الإجماع الغربي على التصدي لأي تغيير في المنطقة العربية ليس في صالحه، وبالعنف المسلح وغير المسلح. هذا الإجماع المبدئي كان قائما طيلة تاريخ العلاقة مع العرب، ولكنه هذه المرة إجماع مبدئي بدون إجماع سياسي مقابل. فحركة معسكر التحالف، كما تسميه قناة الجزيرة بمودة فائقة وحنان زائد، تبدو شبيهة بحركة القبائل االقادمة من شمال أوروبا لاجتياح الأمبراطورية الرومانية الغربية. كان لكل مجموعة من القبائل خريطة المشروع الخاص بها، على خلفية الإفتراق التام للمصالح. هكذا يبدو الإجتياح الغربي الحالي للمنطقة العربية، بحيث لا يبدو من الصعب إدراك أن هناك أكثر من مشروع أو موقف واحد داخل التحالف، الذي تتحدث عنه أكاديمية الإعلام المواكب للمشروع الأمريكي الصهيوني.

        أمريكا والصهيونية لم ولن تمكنا، أوروبا أو روسيا، أن تضعا أقدامهما في الشرق الأوسط أو أفريقيا بدون الإلتزام المسبق بأجندتهما السيادية المشتركة. ولكن بعض الدول الأوروبية يبدو بأنها لا تريد أن تؤدي لأمريكا وحليفتها دور الدول الخليجية. فساركوزي بسلوكه الإستعراضي، لم يعد قادرا على إقناع حتى أصدقائه، بأنه رئيس مناسب لفرنسا، إلا من خلال الإنصياع للرومانسية القومية المتوسطية التي ستجعل من فرنسا مركزا إمبريالبا متكاملا، له وزنه العالمي المستقل. أما ألمانيا التي تقاسم فرنسا العداء للأنجلوسكسون، فقد جاء الوقت بالنسبة للشعب الألماني ليتذكر عظمته القديمة، ويتوقف عن الخضوع لرئيس تعينه أمريكا، ويبدأ باستعادة استقلاله، خاصة بعد أن دفع ثمن أخطائه القديمة كلها كما يعتقد. وميريكل كنسخة أقدم بكثير من ساركوزي، وتعرف أن حياتها السياسية قد انتهت، تحاول أن تجاهر بنوع من الأستقلالية. لقد فهمت عجائز أوروبا القديمة، أن أمريكا كانت وراء الكثير من مصاعبها الإقتصادية، خاصة بعد الأزمة الإقتصادية الأخيرة، ووراء فرض وصايتها السياسية عليها من خلال تخويفها بالإرهاب والضعط الصهيوني، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. وتأكدت أخيرا أن المشروع السيادي لأمريكا والصهيونية لم ولن يتعامل معها بناء على الوزن المفترض لدول مثل فرنسا وألمانيا، وإنما على أساس الوزن العددي للدول الصغيرة في أوروبا، التي تشكل أحصنة خشبية داخل الإتحاد الأوروبي. وعلى دول مثل فرنسا وألمانيا أن تلتزما بأجندات التحالف سلفا، ليكون لها دور تابع في المشروع المرزي للعولمة. ولكن الرأي العام في تلك الدول، أو جزءا مؤثرا منه على الأقل على يضغط باتجاه القيام بدور مستقل عن أمريكا وحليفتها، في الشرق الأوسط وإفريقيا. وبما أنه لا يوجد مشروع أوروبي، ولن يوجد قريبا، يعمل بموازاة مشروع التحديث الأمريكي لآلياته وهيمنته السياسية على الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، فإن فرنسا صاحبة الحلم المتوسطي تدفع نحو التدخل العسكري المباشر في المنطقة العربية، للتواجد من خلاله ميدانيا على جسد المشروع الأمريكي الصهيوني وتحييد مستواه السيادي. وأمريكا تدرك هذا وتحاول من ناحية الإسراع في استكمال التركيبة النظامية الخاصة بها، ومن الناحية الثانية ترفض الأعمال العسكرية المنفردة على الأرض، لأنها تعرف أن الهدف من ورائها هو استباق الإنجازات الأمريكية السياسية هناك.

        أما روسيا، فهي تحاول بيع بيضها الفاسد للجميع. وهي ليست مؤهلة الآن لغير هذا الدور. ومع أن أي خلاف بين وأمريكا وأوروبا تعتبره في صالحها، إلا أنها تعلم أنها غير مهيأة حاليا للعب أي دور سياسي استراتيجي، مكتفية بالصفقات الهامشية مع جميع أطراف السوق الإقتصادية.

        ملخص القول، أن وضوح الرؤية متوفر لدى الجميع ما عدا الضحية، وهي الشعوب العربية. وفي الحقيقة أن المواطن العربي العادي يعاني من تراث طويل لتراكم طفيليات المقدس على وعيه إلى درجة التعطيل الكامل. وهو ذات الوعي الذي تابعه الإستشراق الغربي بالتعهد والوصاية التنموية، حتى تحول إلى إدمان نوعي وجوهر بنيوي للإغتراب الإجتماعي للشخصية العربية. ولكن تراكمات الإستبداد راكمت الرفض اللاواعي لهذه الحال، حتى انفجر بها الوعي الباطن للتجربة على شكل ثورتين شعبيتين نادرتين فيهما من الشجاعة والإخلاص أكثر مما فيهما من ووح الرؤية. كانت الثورة المصرية بزخمها وشموليتها كافية لتحريك العصر كله وبدون مبالغة، ولكن خلط الوعي بين الثورة والإصلاح في أذهان الكثرة الجائعة التي لم تستطع الربط بين كل خطوط التداخل الإجتماعي، جعلها تتوانى عن كل الأمور الجوهرية التي تحتمها الثورة، وبدلا من أن تسعى لتثوير السياق الإجتماعي من أساسه، تنازلت عنه ” لحامي الثورة ” تماما كما خطط لها الإخوان وقناة الجزيرة. لقد كانت لعبة انتصار الثورة المبكر، وحاجتها من ناحية أخرى إلى الحماية من خارجها، مهزلة كاملة أدت في النهاية إلى تضييع ديناميات الوعي الباطن الأساسية وهي الحاجة إلى سياق جديد، مبني على وجوب التناقض بينه وبين كل ما سبقه، والدخول بدل ذلك في علاقة محرمة مع الجيش الذي بنته أمريكا لحماية استراتيجيتها في كل بلد عربي، من الشعب ومروق النظام. إن موضوعية العصر الثورية، تحتم على أية ثورة شعبية في أي بلد في العالم، البدء بتدمير الهيمنة الأمريكية الصهيونية على حاضره. وتجاهل هذا الحتم وحده كبداية يبطل موضوعة الثورة من أساسها. وقد تجاهلت الثورة الشعبية المصرية، والتونسية بمدى أقل، هذه الحتمية الأولى، فوقعت بين براثن الثورة المضادة. هذا التجاهل بالذات هو الذي أدي إلى تجاهل الحتم الموضوعي المقابل في المنطقة العربية، وهو أن شرط نجاح الحتم الأول هو الحتم القومي الشامل للثورة. وقد نجح الإخوان وقناة الجزيرة والعسكر ومن ورائهم أمريكا والصهيونية في دعم هذا التجاهل، الذي يودى كما نرى الآن بكل الثورات الشعبية العربية، ويحولها إلى غزوات أمريكية، وصراعات أهلية وطائفية. إن حرية أو تحرر أي قطر عربي منفردا، هو استحالة منطقية، بل هو هراء دموي أخرق، يتأكد كل لحظة أن أمريكا والصهيونية وعملائهما في المنطقة والعالم، لا يراهنون على غيره لتأبيد هيمنتهم على المنطقة العربية. ولا يوجد ثورة حقيقية في العالم العربي، تعادي التبعية لأمريكا، تتنازل سلفا عن مصدر قوتها القومي الأساسي والحاسم في معركة الحرية والتحرر. ولا يوجد مثقف سياسي عاقل لا يدرك أن نظرية العولمة الأمريكية الصهيونية، تقوم على التذرير والتركيب كما في لعبة ” الليجو “. وأن العالم العربي هو النموذج الأهم في العالم لهذه اللعبة لمنع قيام علاقات تكامل اقتصادي قومي بين قطرياته، يلغي الحاجة إلى الخضوع لشروط سوق التكامل الدولي الإقتصادية. أي التبعية لأمريكا.

        إن غياب الثقافة القومية التحررية، من قطريات العالم العربي، وليس بالصدفة، قد أودى بالمشروع القومي كمشروع وحيد ممكن للنهوض الإجتماعي التحرري للشعوب العربية. لقد اختار المواطن العربي عربة الديموقراطية الغربية، على التحرر القومي، لأنه فشل في قراءة عصره. تصور أن الديموقراطية الغربية، هي مشروع تحرره، وليس استعباده. لقد خلط بين حرية انتخاب حكامه، وبين حرية اختيار مستقبله، واعتبرهما أمرا واحدا. لم يثر استغرابه، ذلك الإجماع الواسع بين القوى الدولية، وقوى اليسار واليمين والليبرالية، على محاربة أية ظواهر قومية على طول الساحة وعرضها. لم تلفت نظره عملية تصفية العراق بإجماع غربي وقبلها تصفية نظام ثورة يوليو في مصر، وذلك الإجماع السياسي والثقافي العالمي على الولاء التام لكل ما ارتكبته إسرائيل من مذابح غير مسبوقة، وما قامت به من حروب استباقية تدميرية لكل محاولات التنمية في العالم العربي. ولم يثر انتباهه ذلك التواجد الإخواني الدائم على بوابات التدمير المنهجي التي ارتكبت وترتكب في الدول القومية. وحاليا وفي عز هيجانه الثوري، كما يظن، لا يستغرب المواطن العربي غزو أمريكا لليبيا بالإخوان والمرتزقة والأساطيل البحرية والجوية الغربية التي تدافع عن دولة بنغازي الإسلامية. لا يصدقون أنه لا يوجد في ” ثورة الشعب الليبي” مدني واحد بمعنى الكلمة، وأنهم جميعا إخوانا ومرتزقة، مكونون من الأجنحة العسكرية للإخوان ومرتزقة الشركات الأمنية، وأن الثورة الشعبية الحقيقية هي ” الكتائب الأمنية ” للقذافي، والتي تقاوم الغزو لأراضيها.

        تبدو بعض الشعوب العربية الآن وكأنها كانت بحاجة إلى ثورات للحصول على الديموقراطية الإنتخابية. لذلك أصبحت امريكا الأن، بحكم تلاقي الأهداف بين الطرفين، مرشحا منطقيا لقيادة تلك الثورات الشعبية والدفاع عنها. لذلك أيضا، يكفي الآن ألا يوافق الشعب الليبي على تبني مخصصات الشعوب العربية من الديمواقراطية الأمريكية، لكي يتحول إلى مرتزقة نظام مارق، ويتحول مرتزقة حملة بنغازي إلى شعب ثائر. لذلك على العرب ألا يثوروا أبدا من أجل الديموقراطية، فهي مطلب أمريكي أيضا. ولم يبق أمامهم أي نوع ممكن من الثورات الآن، سوى الثورة على أنفسهم وعلى أمريكا وديموقراطيتها وأحصنتها الخشبية. هل سيحدث ذلك في مصر؟ لقد تعلم الشباب المصري الدرس؟ ولكن عليهم هذه المرة أن يبداوا الثورة من آخرها إلى آخرها، فهل ما زال ذلك ممكنا؟ هم من يقرر ذلك.