إطلالة على سورية…

 

 

إطلالة على سورية…ماض وحاضر

محمود جلبوط

 

كنعان: ننشر مقالة الصديق محمود جلبوط مع انها لا تتعامل مع السؤال الجوهري المشرع حالياً: ما هي طبيعة الثورة المضادة وما الموقف منها اي من النظام القادم إذا ما انتصرت الثورة المضادة؟ وننشرها رغم أن ما يتعلق بالصراع في بداية الثمانينات لم يكن طائفياً، بل كان برأينا بين السلفية والعلمانية، والأهم أن الأرقام التي يتحدث عنها صديقنا لم تُسند من أي مصدر لا شرقي ولا غربي.

إن كنعان سعيدة بقرارات الحكومة السورية الحالي ونطالب بالمزيد.

* * *

        تمتد جذور سوريا عميقة في التاريخ فهي من أكثر المناطق حيوية التي تنازعنها الإمبراطوريات القديمة التي توالت على حكم المنطقة: الفينيقية والآشورية والكلدانية والفرعونية والفرس ثم الإغريقية والرومانية لضمها إلى حدودها على اعتبارها جسر يربط بين منطقتي نفوذ لا يستقر الأمر للقوى الساعية إليه في المنطقة دون السيطرة عليها.

        تعتبر سوريا من أقدم مناطق العمران الإنساني المكتشفة حتى الآن كما أظهرت الاكتشافات الأثرية لسرير النهر الكبير الشمالي بعد أن أقر علماء الآثار أن تاريخه يعود إلى ما قبل مليون سنة.

وتنافس دمشق في قدمها مدينة أريحا حسبما اختلف فيه الباحثون ، فهي على أقل تقدير يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد بتسعة آلاف سنة ، هذا إلى جانب أن الاكتشافات الأثرية لمنطقة أوغاريت قرب اللاذقية قد أثبتت ميلاد الكتابة البشرية الأولى فيها ، وما يزال سكان معلولة بالقرب من دمشق حتى الآن يتكلمون اللغة الآرامية التي تحدث بها المسيح.

        إن سوريا جزء من منطقة جغرافية دعيت في الماضي القريب بلاد الشام والتي اتسعت جغرافيتها ما بين الأهواز العراقية جنوبا على الخليج العربي ، وسلسلة جبال طوروس شرقا ، والبحر الأبيض المتوسط وشبه جزيرة سيناء غربا ، لم تكن تفصل بين مكوناتها السكانية ما يفصلها اليوم من حدود مصطنعة أقامتها قوى استعمارية لتقاسمها تكنى (سايكس-بيكو) ، وبسبب تطورها الزراعي وشبكات ريها المتقدمة وشكلها الجغرافي الذي يأخذ شكل الهلال أطلق عليها تسمية “الهلال الخصيب”.

        شكّلت سوريا على مدار تاريخها أرضا لعبور الطامحين للحكم والملك من الشرق ومن الغرب وبات يطلق عليها بفعل موقعها هذا ودوره “بيضة القبان” لمن اشتعلت في رؤوسهم شهوة لمشروع امبراطوري عالمي يبسط أطرافه من بلاد فارس وحتى مصر ، ولذلك كثر غزاتها ، وترك كل منهم بصماته عليها لتعدد ثقافاتها: آرامية ، آشورية ، بابلية جديدة ، فارسية ، يونانية ، رومانية ثم خلع عليها الغساسنة والمناذرة ثوبها العربي قبل أن تصبح هذه المدينة الأقدم في العالم ، في القرن السابع بعد الميلاد عاصمة العرب والمسلمين قاطبة.

        ازدهرت سوريا في ظل حكم بني أمية في جميع المجالات وشكلت مركزا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وروحيا للعالم القديم آنذاك وتحولت إلى ملتقى طريقي: البخور: حيث يجلب التجار من بلاد العرب جنوبا التوابل والبخور واللؤلؤ ، والحرير حيث يحمل التجار منتوجات الأنسجة الحريرية من أقاصي الشرق في الصين إلى أسواق دمشق كعاصمة لإمبراطورية امتدت أطرافها في حينه من الهند شرقا حتى جبال البيرينيه غربا قبل أن تخربها موجات الغزاة المغول والصليبيين ويقسموها والتي ابتدأت من أواخر القرن الحادي عشر ولم تجد لها نهاية إلاّ بعد مرور 200 سنة مخلفة دمارا وخرابا عدا ملايين القتلى.

        استولى العثمانيون على سوريا عام 1516 وقسموها إلى أربعة وحدات إدارية: حلب ، دمشق ، طرابلس وصيدا (ما يسمى هذه الأيام لبنان) ، وقد امتدت حدود الدولة العثمانية في أوجها إلى ما يزيد عماّ وصلت إليه الدولة الأموية من مناطق أوربية (إلى النمسا) مما دفع الدول القومية الأوربية الناشئة آنذاك والتي كانت تمر في مرحلة ما اتفق على تسميته بالمرحلة المركنتيلية أن تتحالف للتصدي للمد والتوسع العثماني بل والهجوم على بعض أطرافها من الجزء الشرقي والجنوبي (شمال أفريقيا) من البحر الأبيض المتوسط بعد أن زودوا بمعلومات هامة مستجلبة من طلائع الحملات التبشيرية المبكرة والتجار الأوربيين والباحثين والرحالة المفعمين بحلم السيطرة على هذا الشرق الذي نظروا إليه على أنه “ساحرا” لكنهم تعاملوا معه بكل عجرفة.

        بكّر نابليون بحملته الاستعمارية على المنطقة في عام 1798 قبل أن يتم تقاسم نفوذها واستعمارها فيما بعد أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.

        إثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الاولى راحت أوربا تبحث في المنطقة العربية عما أسمته في حينه “شريك حليف” يؤمن لها مصالحها ويحرسها ، فرسى اختيارها على جاسوسها ت.ي.لورنس لإنجاز هذه المهمة والذي خلع عليه عرب شبه الجزيرة العربية لقب “لورنس العرب” الذي عقد معهم اتفاقا يتم بموجبه تجنيد “جيش عربي” يوكل إليه إعلان التمرد على السلطنة العثمانية والقتال إلى جانب بريطانيا ضدها وضد ألمانيا بموجب وعد نقله إليهم من “جلالة” الملكة البريطانية بإقامة مملكة عربية على الأراضي العربية التي “ستحرر” من السيطرة العثمانية ينصب عليها أولاد الشريف حسين “ملوكا” ، ثم شاءت الأقدار أن تنتصر الثورة البلشفية في روسيا القيصرية وتكشف وثائقهم السرية التي كشفت عن خدع ونوايا فرنسا وبريطانيا لاقتسامهم وفقا لما بات يعرف باتفاقية سايكس-بيكو.

        دخل الجيش “العربي-الانكليزي” إلى دمشق عام 1918 واتفق المؤتمر السوري آنذاك على تنصيب “الأمير” فيصل عام 1920 ملكا على سوريا بالرغم من علم بريطانيا أن سوريا ولبنان حسب اتفاقية سايكس-بيكو كانت من حصة فرنسا لتحتفظ لنفسها العراق وشرق الأردن وفلسطين.

قرر الجنرال الفرنسي غورو دخول دمشق على رأس جيشه عام 1924 وكان قد استبق ذلك بإصدار قرار 318 سنة 1920 الخاص بمنطقة لبنان والذي أسفر عن إنشاء دولة لبنان الكبير( ما يطلق عليه اليوم لبنان لمن ينسى ) بعد أن دخلت الجيوش الفرنسية دمشق قامت بطرد “الملك” فيصل إلى فلسطين تنفيذا لمعاهدة “السيفر” التي نصت على انتدابها لسوريا.

        فصلت إدارة الاحتلال الفرنسي لبنان عن سوريا لتعلنه دولة جديدة تحت مسمى “لبنان الكبير” تحكمه صيغة نظام وإدارة سياسية طائفية تتوزع على تعدد مكوناته الدينية سرى مفعولها عام 1932 وما زالت هذه الصيغة قائمة إلى اليوم بعد أن رعت فرنسا هذا الجزء المقتطع من سوريا كأم (وهذا إحساس العديد من القوى الانعزالية المعادية للعروبة نحو فرنسا) ، ثم قسمت ما تبقى مما يسمى اليوم سوريا إلى مناطق لوائات منفصلة “دويلات”: دمشق ، حلب ، العلويين ، جبل الدروز ، وسلمت لواء اسكندرونة إلى تركيا عام 1939.

        قاوم السوريون الانتداب الفرنسي منذ اليوم الأول على دخوله وانطلقت المقاومة السورية التي سعت قوات الاحتلال الفرنسية عبثا سحقها ، قصفت المدفعية الفرنسية دمشق عام 1936 ولكن الثورة استمرت حتى إعلان الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول عام1941 عن وعد بمنح سوريا استقلالها الذي لم يتم إنفاذه حتى عام 1945 لتصبح سوريا على شاكلتها الحالية دولة مستقلة وعضوا في الأمم المتحدة وأحد الأعضاء المؤسسين للجامعة العربية ، وتم سحب آخر جندي فرنسي عنها في 17 نيسان عام 1946 الذي يحتفل فيه السوريون عيدا للاستقلال.
        أشعلت المطامع العدوانية الغربية وهجومها الاستعماري على المنطقة العربية مطلع القرن العشرين الثورات في جميع أرجائها وأسست لانبعاث المشاعر القومية العربية المشتركة بطابعها الحديث وجذّرت في أبنائها النزوع للاستقلال.

        لكن الاستعمار الأوربي حرص قبل أن تنسحب جيوشه العسكرية من المنطقة على إبقاء قواعد فيها بعد أن بذل جهودا حثيثة جبارة بالتعاون مع قوى محلية باعت نفسها له لتكبيل المنطقة برمتها بشبكته العنكبوتية عبر علاقة كولونيالية شيطانية تحت رعايتها لتتحكم بمفاصل بنيتها وحركتها ما زالت ترزح المنطقة تحت نيرها حتى اليوم لتمارس آثارا تدميرية على العرب بالغة السوء سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تهدد كيانها بالتفتيت وتتركها تعاني من إعاقة تطور بنيوية وطنية مزمنة يعاد إنتاجها باستمرار ، ولا خروج للعرب من حبائلها سوى بالفكاك منها.

        إن أخطر ما ورّثته الفترة الاستعمارية الغربية للشعوب العربية أمران إثنان: الأمر الأول إلقاء زبالته الصهيونية فيها باقتطاع قطعة عزيزة على قلوب العرب مقامها مقام القلب فيهم اسمها فلسطين لتبني قاعدة استعمارية عسكرية دائمة أسمتها مستوطنة “إسرائيل” وفاءا لوعد من عاهرة الاستعمار الغربي في حينه بريطانيا الذي أصدره وزيرها الصهيوني بلفور عام 1917 وبالتآمر مع كل أعضاء منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها لتحمي مصالحهم ، والأمر الثاني هو تنصيب زبالة العرب كانت قد أخضعتهم لعملية صهينة معقدة حكاما على المنطقة العربية.

        لم تكتف المستوطنة القاعدة الغربية “إسرائيل” بحدودها في فلسطين فشنت حربها في حزيران عام 1967 لتضم إليها من الأراضي العربية المجاورة لها في مصر وسوريا والأردن وبقية فلسطين ما ينوف على ما اغتصبته عام 48.

        استقبلت سوريا على أراضيها من ضحايا التطهير العرقي الغربية الصهيونية في فلسطين ما يقارب 85 ألف فلسطيني يزيد تعدادهم الحالي حسب معدل ولاداتهم إلى ما يقارب النصف مليون ، تتوزع الكتلة الرئيسية منهم في مخيمات محيطة بالعاصمة دمشق ، وفي هذا المقام ينبغي الإقرار بأنهم قد عوملوا في سوريا من قبل الشعب السوري الكريم والشهم بما يختلف عما جرى لإخوانهم في المناطق العربية الأخرى ، فقد تساووا بالمواطن السوري: تعليما وعملا وسكنا ، لهم ما للمواطن السوري وعليهم ما عليه ، فتقاسموا حلوها ومرّها.

        لم تتمتع سوريا ما بعد الاستقلال بحياة التعددية الحزبية والسياسية والانتخابات البرلمانية للأسف سوى لفترة قصيرة ، وقد شهدت الساحة السياسية في حينه ظهور العديد من الأحزاب الجديدة كالحزب الاشتراكي العربي والقومي السوري والتعاوني الاشتراكي إلى جانب حزب البعث ، الذي تغير اسمه بعد عام 1947 ليستقر عام 1953 على اسم حزب البعث العربي الاشتراكي ، إلى جانب الأحزاب التقليدية القديمة التي قارعت الاستعمار كالحزب الوطني وحزب الشعب التي بقيت تسيطر على الساحة السياسية إلى أن دخلت سوريا مرحلة الانقلابات العسكرية المتعاقبة من عام 1949 ولغاية 1958 وهو العام الذي تم فيه إعلان الوحدة مع مصر التي كان من أهم سماتها إنهاء التعددية الحزبية وتحريمها قانونيا. انهارت الوحدة عام 1961 لتدخل سوريا مرحلة ما اتفق على تسميته فترة الانفصال ، وقد صدر في هذه الفترة عام 1962 قانون الطوارئ العتيد الذي هدفت قوى الانفصال من خلاله أصلا إلى قمع التيار الوحدوي المناهض لحركة انفصالها والمتشكل من حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة الوحدويين الاشتراكيين وحركة القوميين العرب والجبهة العربية المتحدة وما زال مستمرا إلى الآن بعد أن قرر حزب البعث استعماله ضد معارضيه أيضا منذ انقلابه في عام 1963 وحتى يومنا هذا. دخلت سوريا في هذه المرحلة فترة شلل سياسي (لقد تم تشكيل ست حكومات في فترة لا تتعدى 17 شهرا) إلى أن وقع انقلاب آذار عام 1963 بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي ثم انقلب بعض رفاق البعث العسكريين بقيادة مجموعة صلاح الجديد ومن ضمنهم الأسد الأب على رفاق ما سمي “البعث اليميني” مجموعة أمين الحافظ في شباط من عام 1965 وأودعوا السجن ( وتعرفنا عليهم في سجن القلعة) ، لم يمض على الانقلاب الوليد سنتين حتى شنت “إسرائيل” حربها الخاطفة في حزيران من عام 1967 والتي استمرت ستة أيام فقط سميت “نكسة” حزيران احتلت “إسرائيل” بموجبها مرتفعات الجولان إلى جانب سيناء وبقية فلسطين.

        أثارت هزيمة حزيران في سوريا نقاشات مطولة وخلافات كبيرة بين رفاق الانقلاب حديث العهد بين مجموعة صلاح الجديد ووزير الدفاع حينذاك المرحوم حافظ الأسد مما أسفر في نهاية المطاف إلى انقلاب “أبيض” قاده حافظ الأسد على رفاق انقلاب الأمس وأودعهم السجن (وقد توفي معظمهم فيه أو بسببه ) ، وأطلق عليه تسمية “الحركة التصحيحية” في تشرين 1970 وحكم سوريا حتى وفاته عام 2000 قبل أن يرث الحكم من بعده ولده بشار الأسد ومازال.

من المحطات السياسية الفارقة التي ميزت فترة حكم الأسد الأب:

– حرب تشرين 1973 خاضتها سوريا إلى جانب مصر وأسفرت في خواتمها عن إعادة مدينة القنيطرة من الأراضي التي احتلتها “إسرائيل” في حرب حزيران 67 وذلك بناءا على توقيع اتفاق فض الاشتباك بين سوريا و”إسرائيل” الذي برد خط الجبهة المشترك إلى هذه الساعة.

-خروج مصر من معادلة الصراع “العربي- الإسرائيلي” بتوقيعها لاتفاقية “كامب ديفيد” ، ثم لحقت بها الأردن بتوقيع اتفاق “وادي عربة”.

– تمتين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي السابق.

– اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 ودخول القوات السورية عقبها إلى لبنان بمسمى قوات الردع العربية للفصل بين المتحاربين على ضوء أمريكي أخضر وانتهائها عام 1990 وفقا لاتفاق الطائف.

– اجتياح “إسرائيل” الأول لجنوب لبنان حتى نهر الليطاني عام 78 وتشكيل المنطقة الآمنة بقيادة العميل سعد حداد وخلفه بعد موته العميل أنطوان لحد.

 

– وكانت العلامة الفارقة الأساسية التي ميزت حكم حافظ الأسد هي الحرب الطائفية الطاحنة التي دارت بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي أدخل سوريا أتون طائفي عسير نتيجة القتل الطائفي المتبادل كان من أبشع ما جرى في سياقها مذبحة مدرسة المدفعية التي نفذها فصيل إخواني بحق عساكر علويين في حلب وحادثة الأزبكية في دمشق وتفجير باصات نقل الركاب في الكراجات ، بينما تميز رد السلطة في السياق نفسه مذابح جماعية أهمها ما جرى على يد سرايا الدفاع تحت أمرة شقيق الرئيس رفعت الأسد في سجن تدمر في 26.6.1980 إثر محاولة الإخوان الفاشلة لاغتيال الرئيس وراح ضحيتها ألف سجين قتلوا في أماكن نومهم ، ومذبحة حماة في 2 شباط 1982 والتي ذهب ضحيتها ما بين 30-40 ألف شخص عدا عن تهديم قسم كبير من المدينة إلى جانب العدد المهول من الجرحى والأطفال المشردين ، ومذابح “صغيرة” في حلب وجسر الشاغور.

        أن أخطر تجليات هذا الصدام الطائفي المجنون هي ما قامت به السلطة على يد أجهزتها الأمنية بعد أن أوغلت في دم المواطنين وتدربت على استباحة أمنهم من عمليات تجريف للبنية المجتمعية السورية من أي أثر لرأي مخالف يميني كان أم يساري ، فردي أم حزبي ، وزج كل من لا يظهر ولاءا للسلطة حتى ولو ممالئة في المعتقلات زرافا زرافا والاحتفاظ بها دون تقديمها إلى محاكمات لعشرات السنين مما أدى إلى ازدحام المعتقلات في هذه الفترة لدرجة لم يعد يتوفر مكانا للنوم ، وصل عدد المعتقلين في هذه الفترة من حكم الأسد الأب إلى ما يقارب 27 ألف معتقل ، وأعدم ما يقارب 16 ألف سجين ووصل عدد المفقودين الذين لم تسوى أمورهم حتى الآن 17 ألف مفقود ولا يعرف أهاليهم إن كانوا في عداد الأموات أم لا ، وقد ترافقت هذه الفترة بإطلاق يد الأجهزة الأمنية على المواطنين وتجنيدهم بالقهر للتجسس على بعضهم حتى بات الأخ يشك بأخيه ويخافه ترافقت بحملة تجويف فكري دعت لتأليه الفرد وشخص “القائد الملهم” وحكم الحزب الواحد.

– اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 واستمرارها حتى عام 1988.

-الخلاف مع تركيا على مياه نهر الفرات

– اجتياح “إسرائيل” الثاني للبنان 82 أسفرت عن طرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية منه واحتلال العاصمة بيروت وانفراط عقد جبهة القوى الوطنية اللبنانية المتحالفة مع المنظمة وتنفيذ القوات اللبنانية بقيادة حبيقة وجعجع بإشراف الجيش الصهيوني لمجزرة صبرا وشاتيلا وانطلاق عمليات المقاومة اللبنانية الإسلامية.

– حرب الجبل وانتفاضة بيروت وإسقاط اتفاق 17 أيار مع إسرائيل 84 وانعقاد مؤتمر لوزان (بدعم من سوريا).

– ازدياد الضغوط الغربية على سوريا بسبب دعمها للمقاومة اللبنانية والفلسطينية وإقامة بعض قياداتها على أراضيها إلى جانب إجبارها للخضوع للأجندات الغربية في المنطقة وخاصة فيما يتعلق بالصراع “العربي-الإسرائيلي”.

لكن النظام ارتأى في حينه أن يواجه هذه الضغوط بتشديد آلة القمع على الشعب وتجفيف شامل لمنابع السياسة من البنية المجتمعية السياسية السورية سوى من الولاء “للقائد” وللسلطة التي تقوقعت حول نفسها وتصلبت محتمية بتشديد الأحكام العرفية وتنشيط قانون الطوارئ والأجهزة الأمنية إلى الحدود القصوى عوضا عن الانفتاح على الشعب لإجراء مصالحة وطنية واسعة عساها تتمكن من فتح ثغرة في جدار الاحتقان الأهلي والاجتماعي والسياسي الذي هدد لحمة النسيج الاجتماعي السوري ومازال.

– تحرير لبنان في 25 أيار عام 2000 من الاحتلال الصهيوني بدعم بين من سوريا لحزب الله.

– وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران من عام 2000 ليرثه في الحكم ابنه بشار رئيس سوريا الحالي

 

“ربيع دمشق”

        بغض النظر عن فكرة التوريث التي وسمت استلام الرئيس الشاب بشار الأسد الحكم بعد وفاة أبيه وخدشها لأعراف وتقاليد نظام جمهوري حرص الحزب الحاكم كحزب “قومي عروبي اشتراكي” على التأكيد على مبادئها وما شكله استلامه لمنصب الرئاسة من خرق فاضح للقوانين المنصوص عليها في دستور مستفتى عليه صاغه الرئيس الراحل بنفسه إلا أن الشعب السوري قد توسّم برئيسه الشاب الجديد خيرا بناءا على ما أورد من وعود في خطاب القسم الذي ألقاه أمام ما يعتبر مجلسا لممثلي الشعب في 17.7.2000 ، مما سمح لانطلاق ما اتفق السوريون على تسميته “ربيع دمشق”.

        إن إحدى أهم تجليات ذاك الربيع هو تراخ القبضة الأمنية الحديدية الملحوظ التي سادت فترة الرئيس الأب ، ومن المهم هنا التنويه أنه قد سبق ذلك استدلالات أولى بالرغم من تواضعها من خلال كلمة البطريرك الأرثذكسي هزيم في حفل تأبين الرئيس المرحوم حافظ الأسد وجهها إلى الابن بشار الأسد قائلا:” في ظننا أنك تريد أن يعرف المواطنون أن تكون معهم ، لا المتعالي عليهم كما يريد البعض ، متألها”

        في ظل هذا “الربيع” طفت على الساحة جرأة خجولة من خلال بعض المقالات والتصريحات الصحفية التي بدأت تدق أبواب”مملكة الصمت” ، وأصدر 99 مثقفا سوريا بيانا يطالبون فيه بإلغاء قانون الطوارئ المفروض والأحكام العرفية منذ ما يقارب الخمسين سنة وإطلاق الحريات العامة والإفراج عن معتقلي الرأي ، ثم انطلقت ظاهرة تشكيل المنتديات السياسية والفكرية على الساحة السورية من مختلف الأطياف السياسية والفكرية وحتى باشتراك رفاق من حزب البعث الحاكم نفسه ، وصل تعداد هذه الصالونات والمنتديات إلى 70 صالون ومنتدى كان من أهمها “منتدى جمال الأتاسي” ذو التوجهات الناصرية (نسبة إلى المرحوم أمين عام الاتحاد الاشتراكي في سوريا جمال الأتاسي) و”منتدى الحوار الديمقراطي” الذي أطلقه المعارض رياض سيف في منزله ، ترافق ذلك بإصدار الرئيس الشاب الجديد عفو عن مئات المعتقلين من جميع التيارات السياسية المعروفة في المعارضة السورية.

        لم يدم الربيع في سماء دمشق طويلا ، لم تكد تمضي ستة أشهر على تفتح براعمه حتى ذبلت ، فمع نهاية كانون الثاني عام 2001 ادعى وزير الإعلام السوري غاضبا ” أن دعاة المجتمع المدني هم استعمار جديد” ، وفي شباط من نفس العام هدد نائب الرئيس حينذاك عبد الحليم خدام (الذي انشق عن النظام فيما بعد وغادر البلاد وانضم إلى معارضيه بعد تشكيله تحالفا مع إخوان المسلمين أسموه التحالف الوطني قبل أن يجمد الإخوان عضويتهم فيه) المعارضين السياسيين ومثقفيهم مصرحا بأنهم “لن يسمحوا بتحويل سوريا إلى جزائر أو يوغوسلافيا”.

        حاصرت السلطات السورية بعد ذلك المنتديات بشروطها التعجيزية ومسائلاتها الأمنية ففضل أعضاؤها السلامة والتزموا الصمت فخمد الحراك السياسي من جديد بعد أن ألمح الرئيس السوري في تصريحاته بوضوح لا يقبل التأويل أثناء حضوره إحدى مناورات القوات المسلحة: ” في سوريا أسس لا يمكن المساس بها قوامها مصالح الشعب…..ونهج القائد الخالد الأسد والقوات المسلحة” ، ثم نقل عن وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس تعقيبا على بيان 185 مثقف المطالب بإطلاق الحريات العامة:”إننا أصحاب حق ولن نقبل بأن ينتزع أحد منا هذه السلطة لأنها تنبع من فوهة البندقية ونحن أصحاب هذه البندقية لقد قمنا من أجل هذه السلطة بحركات عسكرية عديدة ودفعنا من أجلها دمائنا ” ، ولإنهاء الحوار الدائر استأنفت آلة القمع دورتها من جديد ورجعت حليمة لعادتها القديمة ولجأت السلطة لأسلوبها الذي أتقنته ومارسته أربعين عاما متواصلة باعتقال من يخالف رأيها لتضع حدا نهائيا للحراك السياسي الذي أثاره ذاك الربيع القصير.

        تفيد إحصائات المؤسسات الاقتصادية والمالية الغربية الرقمية إلى جانب مؤسسات النظام السوري بالطبع أن سوريا في عهد بشار الأسد تميزت “بالانفتاح” واتساع نهج “الخصخصة” وأن الاقتصاد السوري قد حقق نموا واضحا و”فائضا” بالميزان التجاري ، كما صرحت نفس المصادر “بأنه لا يمكن مقارنة ما ساد من قبضة أمنية حديدية صلدة صماء ميزت فترة حكم الأب بما يسودها من “تراخ” عهد الابن الذي ارتبط اسمه “برخاء” في الحريات عبر السماح “بدخول” الانترنيت إلى سوريا وانتشار التلفونات المحمولة بين أيدي الناس والمصارف الخاصة والبورصة ونشاط “القطاع الخاص” وتوسعه وبيع للقطاع العام وإدخال تحسينات على المدارس وخصخصت بعض الجامعات والمدارس وتحسنت مناهج التعليم التي شارفت عهد الأب على الانهيار وأجريت بعض التحسينات الاجتماعية وزيدت الرواتب..إلخ ، وكعادة المؤسسات الرأسمالية غربية وغير غربية فهي لا تعر اهتماما لكيفية تراكم واستجلاب هذا “الفائض” ولا هذا “النمو” ولا تحرص على كيفية توزيعه اجتماعيا ، ما تحرص عليه هو أن هناك فائض وعليها بالشراكة مع طبقة كمبرادور محلية كما في جميع الدول الشبيهة بسوريا الاستيلاء عليه ولا يتم لها ذلك إلا بنشر الفساد والتفسيد.

        نعم لقد تراخت القبضة الأمنية ولكن دون أي ضمانات دستورية بل تمت خارج أطرها القانونية كان من الأجدى أن يمهد لها بإلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية التي تمثل قضية الخلاف الأولى في سورية وسببا للتشنجات السياسية بين السلطة والمعارضة وشكلت الدافع الأكبر لنزول الشباب إلى الشوارع في الأيام الأخيرة المنصرمة في المحافظات السورية المختلفة يتحدون الرصاص بصدورهم العارية.

        إن المقدمة الأولى للإصلاح في سوريا هي في إطلاق سراح المعتقلين وإنهاء العمل بالدستور القديم الذي لم يؤسس سوى للدكتاتورية ولعبادة الفرد ولحكم الحزب الواحد وتشكيل لجنة وطنية موسعة لصياغة دستور جديد على أنقاضه يطلق الحريات السياسية وينظم الحياة الحزبية وصحافة حرة ويؤسس لمرحلة يتم فيها تداول للسلطة برلمانيا ورئاسيا.

        إن الاكتفاء بوعود الإصلاح دون أن تترجم إلى تشريعات ودسترة سيبقي إمكانية تحول هذه القبضة المتراخية في أي وقت إلى سيف مسلط يستله النظام متى شاء ، حتى دون رغبة الرئيس ، وفي وجه من يشاء ممن لا يعجبه رأيه من معارضيه وغير معارضيه في ساحة يضيق هامش “الحرية” إلى حد القطرة قطرة الذي طبلت وزمرت له أجهزة إعلام النظام والمؤسسات الدولية تلك تمييزا لعهد الرئيس الشاب عن عهد أبيه.

        ثم إن المستفيد من نهج “الانفتاح” والانقلاب على “قطاع الدولة” لصالح نهج “الخصخصة” هي شريحة ضيقة من رجالات النظام أنفسهم وضباطه الأمنيين الذين اغتنوا من سوء استعمال سلطاتهم في أجهزة الدولة وشراكتهم لتجار ورجال أعمال بعد أن انخرطوا في علاقة “زواج سفاح” تحت صيغة مافوية بلطجية على الطريقة المصرية والتونسية والليبية واليمنية وغيرها من الأنظمة العربية الحاكمة مما أدى إلى أزمة اجتماعية كارثية تناولناها مرارا بالشرح المستفيض في مقالات سابقة في سياق الحديث عن الانتفاضة المصرية وغيرها في البلدان العربية الأخرى.

        نعم لقد رحب الشعب السوري بقدوم بشار الأسد إلى سدة الرئاسة وغض الطرف بل تسامح عن الخرق القانوني والعرفي الذي رافق صيغة توريثه عن أب طاغية لأنه استبشر فيه خيرا ، بل أكثر من هذا ، فقد ثار نقاش مستفيض بين تيارات وشرائح واسعة من السياسيين والمثقفين شاركت شخصيا في بعضها ارتأت أن إنجاز الإصلاح على يد رئيس “علوي” (أستعمل ذلك مجازا مع تحفظي الشديد لاستخدام عبارات من هذا القبيل) سيساهم بإزالة الاحتقان الطائفي والتوتر الاجتماعي في البلد الذي يعم البنية الاجتماعية السورية وترجع أسبابه إلى ما ساد عهد الرئيس الراحل من عنف مفرط وقمع منفلت وممارسات استبدادية وممارسات طائفية بخاصة في ظل ما جرى من صراع دامي بين النظام وإخوان المسلمين وما ارتكب كليهما من عمليات قتل طائفي متبادل.

        يبرر النظام و”مثقفوه” أن أفول “الربيع” الشامي قد جاء نتيجة الغزو الأمريكي للعراق وذلك بسبب خشية النظام من احتمال تطاير شرر الحرب إلى سوريا فيتكرر السيناريو العراقي فيها ودعم هذا التبرير توفر بعض قوى سياسية سورية (الغامدي وغيره) راحت تفرك يديها استعدادا لتسلق دبابات الحلف الأطلسي للوصول إلى سدة الحكم في سوريا بديلا للنظام إن فكرت قوى الناتو غزو سوريا تقليدا للسيناريو العراقي.

        وبالتالي فإن الكثير من صفوف النظام وخاصة قادة الأجهزة الأمنية المتضررة من إجراء أي عملية إصلاح جوهرية راحوا يفسرون أن الحرب على العراق قد أعادت خلط الأوراق والحسابات وغيرت من سلّم الأولويات لذلك انتهزت الفرصة لتعيد إحكام قبضتها مرة أخرى بعد أن كانت قد ضعفت لتقود من جديد دفة الحكم في سوريا مما استدعى إعادة تفعيل دورها بعد أن كانت قد تراخت فتم إغلاق نوادي الحوار ووضعت شبكة الانترنيت تحت الرقابة المشددة..إلخ وشنت حملة اعتقالات على نطاق ضيق بما يعني توقف عجلة “الإصلاح” المدعاة التي بشر بها الرئيس وإيصاد الأبواب في وجه الربيع الوليد القادم إلى دمشق بل اغتياله.

 

        في الحقيقة لا يمكن نفي ما تعرضت له سوريا وما زالت من ضغوط قاهرة من قبل أمريكا والغرب والكيان الصهيوني للكف عن نهج قومي وسم سياساتها الخارجية وعن دعم من يسمونهم “الإرهابيين” من المقاومة الفلسطينية واللبنانية إلى جانب الضغط للقطع مع إيران والدخول في مسيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني بشروط أمريكا و”إسرائيل” ومتطلبات أمنها وحاجاتها التي لا تستقيم إلاّ بإغفال حقوق سورية في الأرض الوطنية (الجولان) وحقها في مياهها لكي تستحق شهادة حسن سلوك للانخراط بالسوق الحرة وتوقيع اتفاقية التبادل التجاري العالمية بشروط الرأسمال الصهيوامبريالي الغربي وكما يريد ، وما على حكام سوريا من آل الأسد سوى الطاعة والالتزام بما التزمت به كل الآلات العربية الأخرى من آل الحريري………حتى آل سعود ، بل الانخراط بما تتبناه أمريكا والغرب و”إسرائيل” من حروب وأجندات تفتيتية للمنطقة العربية ، كل ذلك دون ضمانات السلامة من شعبه إذا ما انتفض عليه بسبب تبنيه لكل ما سبق ، وهذا ما فعلته أمريكا مع من سبقه في مصر وتونس ولبنان وليبيا واليمن.

إن اتهام النظام السوري باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري قد اندرج في سياق الضغوط المومأ إليها والتي أسفرت عن طرده من لبنان مرغما ، ليأتي فيما بعد “وريث دم أبيه” سعد الحريري لزيارة سوريا ويبرأ النظام من دم أبيه ويحمله إلى بعض عناصر من حزب الله في لبنان.

        لا غرو هنا من الاعتراف بأن فكرة غزو سوريا من قبل قوات الناتو قد راودت الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش وقد ناقشها مع حليفه في الحرب على العراق رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير كما صرح بنفسه في أكثر من مناسبة بأن الأمر قد نظر فيه ، ولكن الغرو الكبير أن يدعي النظام في سوريا أن إطلاق يد الأجهزة الأمنية الباطشة على المواطنين لقتلهم واستباحة أمنهم وسحلهم في الشوارع والدوس بأقدامهم على رؤوسهم وأجسادهم واستباحة كراماتهم ومعتقداتهم وأملاكهم ومنع حرياتهم في التعبير والحجر عليهم في سجون أبوابها مشرعة لكل مخالف للرأي ونشر الخوف وإطلاق الأكاذيب وإثارة النعرات الطائفية وإطلاق يد الشبيحة لتعيث فسادا وقتلا ستحمي الوطن وتجنبه أخطار المؤامرات.

        ينتاب أوساط حلفاء النظام السوري والمستفيدين من دعمه: حماس ، جهاد إسلامي ، حزب الله ، أمل ، جبهة شعبية ، وغيرها من القوى الفلسطينية واللبنانية وأحزاب وشخصيات قومية عربية أخرى تخوفا من سقوطه أو استبداله لأنه قد ساهم في تسليحها ودعمها لوجستيا وخاصة حزب الله في مواجهة العدو الصهيوني والتصدي لما تنويه المشاريع الاستعمارية الأمريكية لتصفيتهم ، وهذه في الحقيقة إحدى خصاله الحميدة ، ولأهمية ذلك تتخذ هذه القوى موقف الدفاع عنه خشية سقوطه أو انقلاب سياساته إن ضعف مما سيكون له أثر كارثي عليها ، وهذا حقها ، وما يدعم تخوفها هذا ما يتوفر لها ، ولنا بالطبع ، من معلومات عن تعاضد واحتشاد قوى الثورة المضادة من آل سعود وآل الحريري والجميل وجعجع وآل صهيون المجتمعين على عداء النظام وحزب الله وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين وما هيأت له من استنفار ودعم لعجول الفكر الهجري ولعلوج الطائفية والمذهبية عبر الحدود اللبنانية السورية لاختطاف انتفاضة الشباب السوري الحريص على عدم تكرار السيناريو الليبي والتشويش على دمه المراق. وتعلم هذه القوى المؤيدة للنظام السوري بالتأكيد خطورة استبداله بنظام تحكمه قوى ترتهن للأجندات الصهيوأمريكية ، ولذلك فهي لم تعر اهتماما كبيرا لهموم الشعب السوري ، وهذا من مثالبها ويحسب ضدها ، وبالتالي لم تشغل نفسها بمعرفة أو البحث عن طبيعة القوى المنتفضة وبالتالي طبيعة التغيير القادم بل هي اكتفت باتباع المثل الشعبي القائل: “عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة” مما يترتب على قوى الانتفاض السوري أن توضح ، لهذه القوى ولغيرها من القوى السياسية ، إلى جانب ما تصدح به حناجرها من شعارات عامة ملحة بالنسبة لها ” الشعب السوري ما بينذل” و”حرية حرية حرية” و”الله سوريا وحرية وبس” و”واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” شيئا آخر يوضح موقفها من قضايا اجتماعية وسياسية داخلية وعربية وخارجية توضح موقفها من قضية الصراع العربي-الصهيوني ومن لبنان تزيل الإبهامات التي يستخدمها النظام للتشويه بمواقفها والتسخيف بها واتهامها ب”العبثية” أو “التقليد” مستفيدة إلى جانب خبرتها الذاتية من تجارب الانتفاضات العربية الأخرى سلبا وإيجابا.

        لا يمكن نفي أن هناك من يتأبط شرا ، ليس بسوريا لوحدها بل بالوطن العربي بأسره ، وأن قوى الثورة المضادة “المندسة” حسب تعبير النظام السوري وغير المندسة من خارج سورية أو من داخل صفوف النظام الحاليين والسابقين قد شحذت هممها وأسلحتها وبلطجيتها وشبيحتها تتربص بقوى الانتفاض السوري والعربي وتريد أن تركب موجتها لتنفيذ أجنداتها في المنطقة بعد أن استعادت زمام مبادرتها واستنفرت أزلامها في المنطقة من آل الحريري وآل سعود وآل ثاني وآل صهيون…إلى آخر قائمة الآلات العربية وغير العربية ، وهيأت لهذا العجول-السلفية-الوهابية وعلوج الطائفية والقبلية والعشائرية تتربص بأي انتفاضة قامت أو جارية أو قادمة للانقضاض عليها ، فهاهي في البحرين وليبيا تشارك بقواتها العسكرية يبرر لها أصحاب الفكر الهجري واللبرالي والقومي المنحرف في المحطات الفضائية المملوكة لهم ، ولكن لا يتم التصدي لهؤلاء “المندسين” و”المتآمرين” بقتل الشباب المنتفض المطالب بالحرية والكرامة والعيش الكريم ، ولا بكم أفواه المنتقدين والمخالفين بالرأي وزجهم بالسجون.

        إن تخويف الناس وذلّهم وهدر كراماتهم لترسيخ سلطة الفرد والحزب الواحد لا تجعل منهم مواطنين قادرين ومستعدين لحماية الوطن أو تحرير أرضه بل ترذلهم وتجعل منهم عبيدا “دبيكة” ورقاصين في الشوارع يحملون صور “القائد” أو الرئيس يمالئونه ويداهنوه لاتقاء شره ، إن قتل الناس أو قهرهم أو الاستبداد بهم لا تبني وطنا ذا منعة في مواجهة الأخطار المحدقة به وفي وجه المخططات المعادية بل هي تضعف الوطن وتفتت بنيته الاجتماعية وتفل من عزيمة حماته ، الشعب ، وتطلق يد الفساد وتسمح “للمندسين” بالاندساس لتزرع الأحقاد وتنشر الخوف واليأس والإحباط وتستجلب الأعداء ، والتاريخ قال: ما من نظام في العالم نهج على هذا المنهج وكان بمنأى عن الانهيار والموت ، فخوف الناس يصل عتبة محددة ثم ينهار ، هكذا علمنا شيخنا التاريخ وهذا ما قالته الانتفاضات العربية الحاضرة ، والنظام الحكيم هو الذي يسرع من تلقاء ذاته لفهم ما يجري حوله.

        وكما أن الحاكم الوطني الصحيح هو الذي لا يتشبث بالسلطة على حساب انفراط عقد الوطن ، أيضا الثوار الحقيقيون هم الذين يصنعون ثورة لا حربا أهلية ، يطردون المستعمر من الوطن ولا يستجلبوه لنهب خيراته وقتل شعبه.

:::::

Givara1954@yahoo.de