الأنجزة الجزء الاول: مناخ استدخال الاستعمار والهزيمة والتموُّل عادل سمارة ـ فلسطين المحتلة

ملاحظة: في ندوة لمناقشة كتاب د. خليل نخلة (فلسطين وطن للبيع) قال أحد مدرءا منظمات الأنجزة في الضفة الغربية المحتلة إن منظمته تتصرف ب 100 مليون دولار وأنها معتمدة على نفسها، وطلب أن يقوم خليل أو أنا بتقييمها. هذه المقالة والتالية متعلقة بهذا الأمر.

(1) مناخ استدخال الاستعمار والهزيمة والتموُّل

أثناء انتظار دوري في المصرف العربي برام الله في فترة دعاية البعض لانتخابات الحكم الذاتي الثانية، كان يتحدث على فضائية محلية رجل أنجزة كبير عن إنجازات منظمته. وفوجئت وأنا اسمع تهامس شخصين عاديين خلف مقعدي بصفَّيْن يقولان: “سيبك، قابض”! أدهشني ذلك الوعي الفطري، ولكن احزنتني تلك السلبية المفرطة في البلد. فما قيمة الوعي دون تفعيله. لا تختلف سلبية هذين عن مثقف يوظف قلمه للكتابة مدفوعة الثمن، بغض النظر عن كونها كتابة لتسويق ما تسمى “الديمقراطية الغربية”، أو إعلامي يُفتي في التنمية ويزعم بأن “التنمية” غير ممكنة دون المال الأجنبي أو مثقف يقول: “… لا أؤمن بما أفعل حيث أرفع مقام دولة معادية أو شخص ذكر أو أنثى لا يستحق، ولكن قل لي من الذي لا يقبض!” أو حديث شفوي جذري لأكاديمية/ي بينما تتعيش من كتابة تقارير اكاديمية لدولة معادية.

قبل شهر كانت السفيرة الأميركية آن باترسون بالقاهرة من الصلف بمكان حيث: “… أعلنت أن بلادها دفعت 40 مليون دولار لتعزيز الديمقراطية في مصر منذ ثورة 25 يناير وأن 600 منظمة غير حكومية (انجزة) في مصر تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية لدعم المجتمع المدني.[1]

لم تكن إثارة هذه السيدة للمال الأجنبي، مال الأنجزة هذه المرة، اللحظة الوحيدة الموجبة للجدل الطويل في مصر وبعض الوطن العربي. فكل مال أجنبي مثير للجدل والقلق وحتى الخوف. كما أنه من السذاجة بمكان الاعتقاد أن هذه السيدة صرحت بكل الحقيقة. هي تحدثت عن قناة مالية، وربما عن جزء منها، فما يحصل هو وجود قنوات سرية أكثر ومن مصادر أكثر عربية وغربية لكنها تُدار من إدارة واحدة في الولايات المتحدة هي نفسها الإدارة التي تدير حركة المال العالمي[2].

ولا نزعم أن هذا الذي قلنا جديداً أو لم يسمع به سوى الراسخون في علم الاقتصاد السياسي. ما يهمنا في هذا الصدد هو قراءة المناخ الاجتماعي الثقافي الذي جعل التواصل مع الأجنبي أمراً عادياً حين يقوم به اي مواطن. ونخص هنا التواصل المالي الذي يقوم على سيد ومسود، دافع ومدفوع له، “يد عليا ويد سفلى”. قد تبدو هذه اللغة واضحة جارحة، لكنني أتمنى على أحد اياً كان أن يقدم لغة أكثر تعبيراً عن الحالة[3].

المهم لماذا يتم الدفع وليس من يقبض!

قد يكون جهاز القياس هنا هو ثقافة الدول المسماة مانحة. هي دول رأسمالية بالمعنى الثقافي والإنتاجي والعلاقاتي. الإنسان في هذه التشكيلات الرأسمالية مجسداً في التحليل الأخير في موقعه من راس المال. فرأس المال علاقة اجتماعية تقوم على علاقات عمل وإنتاج، علاقات ملكية وعمل مأجور، اي عمل مأجور ودافع أجرة لهذا العمل. ولا يتم العمل المأجور ولا يستمر إذا لم يحصل صاحب الشغل على ما يفوق الأجر الذي يدفعه وحتى إذا لم يحصل على مضاعَفات لما يدفع وصولا إلى السراب اي الربح اللانهائي.

يقوم راس المال إذن على الاستثمار، وأحياناً يسمونه “خطئاً” التشغيل. فالاستثمار، وهو الأدق، هو قرار باستخدام المال عبر استئجار البشر للحصول على الربح اللامحدود. بينما يحمل التشغيل معنى إسداء المديح لمن يستأجر العمل المأجور وكأنه فعل ذلك ليخلق مواقع عمل للمأجورين! فالاستثمار معادلة واضحة الهدف هو استخدام مبلغ مجسد في استخدام البشر للحصول على أعلى مما دُفع. وفي أحيان كثيرة يكون الهدف الحقيقي للاستثمار مخفياً، وهو علاقة سيطرة وإخضاع بلا مواربة.

تفتح علاقة السيطرة والإخضاع هذه على أمر أخطر وهو تعدُّد أنواع وأنماط السيطرة من جهة، ووصولها عبر العلاقة المخفية إلى ما هو أخطر من الربح المقصود، او كما يسميه ماركس تحقيق فائض القيمة المحوَّل أو المترجم في النهاية إلى الربح، اي النقود، والتي هي الآن نقودا إلكترونية تجوب العالم على شكل تريليونات بدل أن تُنقل على ظهور البعارين (جمع بعير) العربية في السعودية مثلاً.

فالأخطر من الاستثمار الذي يحقق ربحاً مالياً مباشراً، أو ربحا لا يقوم على علاقات استغلال في العمل المُمدَّى (من مادة) كالعمل في مصنع….الخ هو ذلك الاستثمار ذو الطابع بل الجوهر غير المباشر. مثلاً: الكيان الصهيوني هو استثمار استراتيجي للمركز الرأسمالي الغربي في مختلف مراحل دوره الخارجي اي (الاستعمار فالإمبريالية فالعولمة). يبدو الكيان وكأنه عبء اقتصادي مالي تحديداً على المركز. هذا إذا نظرنا إلى مقدار هذه المساعدات فهي من الولايات المتحدة وألمانيا وحدهما 135 مليار دولار حتى قبل عامين)، بينما هو يعيد لا مباشرة تحويلات هائلة للمركز تفوق بما لا يُقاس ما يُستثمر في خلقه وحمايته وذلك عبر دور الكيان في الوطن العربي سواء في شل الثورات وتثبيت انظمة ورعاية شبكات العملاء وشن الحروب…الخ يكفي أن السعودية سوف تشتري هذا العام صفقة اسلحة أميركية ب 60-70 مليار دولار.

إن تمويل منظمات الأنجزة هو استثمار استراتيجي، فهي مثابة نواقل لثقافة المركز الراسمالي وخطابه لحقن المجتمع المحلي بها وذلك عبر تركيز ونشر التطبيع والذي تجلى ويتجلى في جعل العلاقة والموقف من الكيان الصهيوني عادياً، وهو ما نراه في وجود مؤسسات تطبيعية ثقافية وجامعية ومسرحية وفنية عامة، وحتى تنظيم منح في جامعات الغرب لطلبة وطالبات يقومون بأبحاث “أكاديمية” تخدم مخابرات تلك الدول. أليست مضار هذه التوجهات علينا أضعاف الأموال المحولة لمنظمات الأنجزة المرتبطة بهذا الغرب؟ اليس استيراد السلعة الفكرية الثقافية سلعة الخطاب أكثر ضررا من شراء سلعة معمرة كالسيارة؟ تعيش السيارة افتراضيا عشر سنوات، أما الفكر الذي يخترقنا فيعيش أجيالاً. يكفي التمثيل هنا على تشومسكي الذي يتغزل به المثقفون العرب بينما هو يرفض حتى دولة مشتركة بين الفلسطينيين واليهود لأنه يرى في ذلك ظلماً لليهود[4]!

إذن من ضمن الاستثمار الاستراتيجي هناك الاستثمار الثقافي في منظمات الأنجزة التي تتأسس وتعيش على المنح الراسمالية الغربية، المنح التي لا ترجو سوى وجه الله! هل يكفي ما قلناه أعلاه بأن هذا الغرب لا يعرف وجه الله ولا يعرف سوى الاستثمار؟ إذا صحت هذه القاعدة، فراس المال ليس مشروعاً إنسانياً بثقافة خيرية. اللبن والعسل هي في جنة الله، وليست على الأرض.

قلب الواقع لقلب الخطاب ثم الاستدخالات الثلاثة

عودٌ إلى مناخ التمويل والقبض وما صيَّره إلى وضع عادي رغم ما يحمله من احتمالات اختراق الطرف المتلقي بل وابعد من ذلك. وهذه على اية حال تتجلى اليوم في الوطن العربي، ومرة أخرى ليس ما قالته سفيرة البيت البيض هو الدال الوحيد!

ما جعل التواصل مع الأجنبي والتموُّل منه سواء قيام أفراد بذلك او حركات سياسية أو منظمات أنجزة، هي أمور عديدة نشير بإيجاز هنا إلى ثلاثة منها، هي استدخال الهزيمة واستدخال الاستعمار ومن ثم استدخال التموُّلْ. ولكن، لا تحصل هذه الاستدخالات وتؤتي أُكُلها، وهو من زقوم (لغة القرآن الكريم) إذا لم تقم اساساً على قلب الواقع المادي الاجتماعي الاقتصادي العياني الموجود.

إن قلب الواقع المادي الاجتماعي العياني الموجود في الأرض المحتلة هو حالة نموذجية. فهي اساساً تحت استعمار استيطاني، يقوم عبر علاقة القهر والسيطرة وليس الهيمنة، وإن كان يحاول الهيمنة عبر التاثير الثقافي ولو على المدى الطويل. ألم يكتب بعض السوسيولوجيين الفلسطينيين أنه احتلال ديمقراطي؟ ألم يعلن كثيرون تقاسم الوطن معه ومنحه المحتل 1948 والحلم بدولة ديمقراطية ثنائية القومية معه، ألم يدخل البعض عضوية الكنيست مقسمين يمين الولاء للدولة اليهودية؟

عبر هذه السيطرة نهب الاحتلال ما نهب من أراضي الضفة والقطاع، وقوض مواقع الإنتاج التصنيعية البسيطة، وسهَّل في مرحلة استغلال العمالة المحلية للعمل في قطاعات اقتصاده. وبالمقابل، لم تكن هناك حركة مقاومة محلية ببعد تنموي إنتاجي، ولا حتى ببعد ثقافي يدعم توجهاً تنموياً. إن أحد الوجوه الأساسية لقلب الواقع المادي هو ذلك العزوف الهائل عن استغلال الأرض، العزوف عن العمل المنتج بحثاً عن عمل مكتبي!. هذا رغم أن نسبة البطالة عالية ولا سيما في الأرياف حيث بطالة نسائية عالية إلى جانب عدم قيام المرأة باستغلال حديقة المنزل، هذا إذا كان الرجل يعمل!

تجدر الإشارة هنا الى أن أحد اسباب إهمال الأرض هو سياسة الإغراق بالمنتج الأجنبي سواء الصهيوني أو الخارجي الآخر وقدرته على خنق المنتج المحلي وهذا يفترض أمرين:

· الوعي المحلي بالاستهلاك أو الاستهلاك الواعي بمعنى عدم التطبيع مع المنتج الصهيوني والأجنبي. وهذا لم يحصل بل يحصل عكسه عبر تعوُّد المستهلك من الطبقات الشعبية على تقليد الطبقات الأكثر ثراء في حالة من التقليد المدفوع بجشع استهلاكي أعلى، تشبُّهات الفقير بمن هو أغنى في اعتقاد بأن ذلك يعني الارتفاع الطبقي.

· عدم قيام السلطة على الأقل بعد 1993 بوضع سياسات تضبيط الواقع الاقتصادي عبر تشجيع قطاعات الإنتاج لسد أكبر قدر ممكن من الاحتياجات المحلية. وهذا كذلك لم يحصل حيث اعتمدت السلطة سياسة الباب المفتوح حتى في الحدود التي يسمح لها بها الاحتلال، وهو الباب الذي أرساه المصرف الدولي الذي هو مؤسسة مالية عالمية تنفذ سياسات الغرب الراسمالي التي تخدم الكيان اساساً، علاوة على أن وصفات المصرف والصندوق الدوليين هي دائماً لتشجيع الدول الفقيرة على الاستيراد من الغنية ما يخنق صناعاتها الجنينية وزراعتها التقليدية.

ودون الخوض في التفاصيل هنا، فإن ما وصل إليه حال الأرض المحتلة هو تغيير أو قلب الواقع المادي الإنتاجي العياني كما اشرنا، وهو القلب الذي بُني عليه تغيير الثقافة ومن ثم الخطاب مما برَّر تماماً مختلف الاستدخالات أعلاه.

ليس شأننا هنا ضبط إيقاع هذه الاستدخالات بمعنى ايها بدأ أولاً، أو هل بدأت بشكل متوازٍ متزامن. وقد يجوز لنا القول أن الاستدخال المالي هو وليد خطاب وثقافة منظمة التحرير الفلسطينية. هناك تراث لمنظمة التحرير من القبض من حيث أتى مما خلق مناخاً خطيراً مفاده أن القبض وتلقي الأموال هو أمر عادي وطبيعي. وهذا يعيد إلى الأذهان تجربة شعبنا مع منظمة الأونروا التي نعتبر قيامها بمساعدة اللاجئين واجب على الأمم المتحدة. لكن من الخطورة بمكان سحب هذا على ذاك. فحق شعبنا في مساعدة من الأمم التي خلقت الكيان وغضت الطرف عن بقائه حتى خارج نطاق التقسيم الذي وضعته هذه الأمم دون أن تطبقه، هو حق لا جدال فيه. بينما الاعتياد على تلقي التمويل بشكل مفتوح وفوضوي هو بيع للمواقف بدءاً بالفرد وحتى النظام.

قادت فوضى تلقي الأموال إلى إفساد المواطن الفرد نفسه، وإلى تزايد أعداد “الشُطَّار” في البحث عن مصادر التمويل التي اتخذت اشكال شراء الذمم والرشى. فالدول المانحة كانت ولا تزال في معرض البحث عن آليات لاختراق المجتمع الفلسطيني لتثبيت التطبيع على وجود الكيان ومن ثم مع الكيان. ومن هنا تلاقت محاولات ومن ثم مصالح الشطار مع المستعمِر. فتولدت عن ذلك منظمات الأنجزة. لا بل استشرى عددها ووضعها. وإذا وضعنا هذا إلى جانب وجود سلطة الحكم الذاتي المعتمدة على الأجنبي ماليا والتي توظف أعدادا تزيد على مئتي الف طبقاً لبعض التقديرات، ووجود كثير من المؤسسات الأجنبية السياسية والثقافية الغربية كالمجلس الثقافي البريطاني والفرنسي والألماني وغيرها، والقنصليات وادوارها في التقاط الشطار لاستخدامهم بغض النظر عن التسمية، فقد تكون المهنة مراسل صحفي. إذا وضعنا هذه المصفوفة إلى جانب بعضها بعضاً ندرك أن الغالبية الساحقة من المواطنين قد اصبحوا كما لو أنهم على أل Payroll جدول الرواتب التمويلي، ربما مجتمع على بيي رول!!! فهل يجوز لنا بعد هذا الزعم بوجود استدخال التمويل؟

يفتح استدخال التمويل على استدخال الاستعمار، وفي حالتنا الاحتلال، وهو ما يتضح على نطاق واسع في التطبيع مع الكيان. يتجلى هذا الاستدخال/التطبيع في سياسات هائلة مفادها وضع المواطن في مناخ أن ما هو فيه، أن يومه الحالي هو الوضع الطبيعي. وعلى راس هذه السياسات المشاغَلة بأن البلد قد انتقل من مرحلة تحرير الوطن المغتصب إلى مرحلة بناء الدولة. وبناء الدولة المزعوم هذا يفترض أو يستحضر خلق مناخات تعززه مثل وجود الشرطة وقمعها للمواطن وإهانته على أهون الأسباب ووجود أجهزة أمن ومخابرات للتحقيق مع المواطنين بهدف فرض الهيبة. (مثلا، تسود مفردة: سحبته الأجهزة). واستخلاق حالة من الطمأنينة الاجتماعية عبر الإنفاق الضخم على من يقوموا ببرامج الرقص ومختلف الفنون كمدراء أو فرق، وخاصة استجلاب فرق أجنبية وفرق عربية تطبيعية، ولعل احتضان وتكريم الصهيوني القاتل بالموسيقى برينباوم نموذجاً، بينما يقوم من يستدعونه للتغطية على ما فعلوا بالتبرع لبعض الفرق التقدمية ببعض المال. أليس هذا أمراً مربكاً!! إن إشاعة مظاهر السيارات الفخمة بقيادة نساء ورجال من طبقة أغنياء التسوية/المرحلة، أو شباب يطلقون مكبرات الأغاني ومشاغلة الناس باحتفالات بذخ الأعراس، وحتى وجود أماكن دعارة (أنظر ورقة اليونيفيم عام 2008) هي نماذج تندرج في التهالك لتصوير الحياة كأنها عادية أو الحياة العادية تحت هذا الاحتلال!. ومن جانب السلطة فقد أُشغل الناس في دعاية أوسع: أكبر سدر كنافة وسدر مسخن…ومؤخراً ينشغلون في “سدر” استحقاق ايلول الذي سوف يتسع للدولة المقبلة…الخ. كل هذه تطبيع للمجتمع بأن هذا هو الوضع الطبيعي. وربما أخطر نتائج هذا أن البلد غدت مرهونة للمصارف، بين مدين بقرض لسيارة فاخرة أو بيت أو…غير ذلك.

ما هو هذا الوضع الطبيعي؟ إنه اعتبار وجود الاحتلال ومن ثم الكيان الصهيوني امراً عاديا وطبيعياً. وعليه، يكون ما حصل وأد للهم الوطني والكفاح ضد الاحتلال، وحتى وأد للخطاب المقاوم ولثقافة المقاومة. وربما أوضحت الأشهر الماضية هذا الأمر عبر تفرغ معظم كتاب الأنجزة واليمين والجناح التحريفي للشيوعي وبالطبع اللبراليين للهجوم على النظام السوري كما لو كان هؤلاء قد حرروا وطنهم بحرب الغوار واصبح النظام السوري خاصرة قمعية إلى جوارهم. أو كأن عالم اليوم يوتوبيا ولم يبق قمعياً سوى نظام دمشق؟ وقيام مجموعة من رموز اليمين واللبرالية والمؤسسة الدينية ورجال الكمبرادور والأنجزة بالطبع بالإشادة بموقف ملك السعودية المضاد للنظام السوري، اي اصطفاف هؤلاء إلى جانب الوهابية والمحافظية الجديدة، هل هذا أمر بريء؟ أم هو مشاغلة عن الهم الوطني. وإذا وضعنا بالاعتبار التعوُّد الثقافي تحديداً على القبض على القطعة، فلماذا لا يكون وراء هذا الحماس مدفوعات مالية للكثيرين/ات؟ وهل النظام السوري قمعي؟ نعم هو يقول ذلك، ولكن ما مبرر أن يصبح شغلنا الاشغل؟

إن الانحياز إلى الديمقراطية، حتى اية ديمقراطية يكون أصيلاً إذا نبت في مناخ ديمقرطي! سواء كان ديمقراطية الإنتاج، ديمقراطية الاعتماد على الذات، ديمقراطيات انتخابات حرة…الخ بينما ما حصل في الأرض المحتلة هي انتخابات تحت حراب الاحتلال الاستيطاني؟ فهل هو عقل سوي الذي يفاخر بهذه الانتخابات؟ وهل حصلت هذه الكارثة سوى هنا وفي العراق؟ إن هذا العقل الذليل هو الذي يتعامى عن خطورة ضياع الوطن السوري كما العراقي والفلسطيني وفي الوقت نفسه يشعر بأنه عماد النضال من اجل الديمقراطية؟

ينتج عن الاستدخالين أعلاه: استدخال التمويل واستدخال الاستعمار، الاستدخال الثالث استدخال الهزيمة الذي هو الحالة المعمَّمة التي ينتهي إليها الفرد او الحزب أو النظام مرتاحاً مقتنعاً بما قسم الغرب له فيشعر بأن كل شيء عادي، الحياة عادية، التاريخ وراء الظهر، اللاجئون ينعمون في مخيم نهر البارد وعين الحلوة واليرموك، الإسرائيلي جار متقدم حبذا لو نلحق به!. أما المثقف فيكتب بوضوح معاتباً الغرب لماذا لا يستعجل احتلال سوريا، ولماذا يفكر في الهروب من العراق ولماذا لا يلقي قنبلة نووية صغيرة على الجنوب اللبناني، ولماذا يتغزَّل في حرق بطيىء لليبيا؟

إن التطلع لتخنيع العرب هو الدرجة الثانية من استدخال الهزيمة. فهناك مسافة بين استدخال الهزيمة بمعنى الشعور والاقتناع الممتلىء بأن الهزيمة هي المصير ونمط الحياة، بدل الحياة مقاومة، وبين الإصرار على تصدير هذه الهزيمة إلى قوى المقاومة. يشعر هؤلاء أن حزب الله عبئاً على الوعي وعلى الضمير، وكذلك المقاومة في غزة. إن نظرة بسيطة إلى هذا تبين أنه تعبير واضح وجلي عن ما تريده الولايات المتحدة. ترى كيف تتقاطع هذه النظرات؟ هل هي صدفة أم عشقاً أم مالاً.

تقسيم عمل وأدوار

ما قمنا به حتى الآن هو حفر حول ساق الشجرة لا جذورها. فالتمويل واستدخال التموُّل هي نتاج حالة عالمية أوسع بكثير من حالتنا الفلسطينية وحتى العربية. تعود هي إلى حقبة ما يسمى ما بعد الاستعمار بالمفهوم السياسي وليس الأدبي والثقافي وإن كان الأدبي والثقافي مبنيين على وهم ما يسمى ما بعد الاستعمار، اي الاستقلال. ولمسألة الاستعمار وما بعده، إن كان هناك حقا ما بعده. لهذه المسألة مضمون طبقي واضح وهام وخطير. فهزيمة الاستعمار في أية بقعة من العالم هي من جهد وتضحيات الطبقات الشعبية، بينما استلام السلطة (بعده) هو للبرجوازية الكمبرادورية، اي لنقيض الكفاح الشعبي، وهذا ما يعزز قولنا أن الاستعمار لم يأت له ما بعده بعدُ.

المهم! أن ما اسميناه الموجة القومية الثانية، اي انتصار كثير من المستعمرات على الاستعمار، قد جاءت كحالة من التعافي المغشوش في معظم الحالات. فكانت استقلالات سياسية وحسب. اي صعود برجوازية تابعة لسدة الحكم على المبنى الاجتماعي السياسي للتراكم هو نفسه الذي كان والاستعمار في عزِّ حضوره. ولعل إحدى تجليات ما كان قبل “الاستقلال” هو تقديم الدولة الاستعمارية مساعدات مالية للدولة الحديثة. وهي مساعدات كرست ما أسمي الاستعمار الجديد الذي هو مواصلة للقديم في أفضل وجوهه. والأهم أنه كرس التبعية التي كانت قائمة.

أما التحول المرتبط بموضوعنا فيمكن تلخيصه كما يلي: بعد أن كرس الاستعمار أنظمة تابعة له بالضرورة، انظمة تقودها طبقات غدت مصالحها بوضوح مرتبطة بالأجنبي ومعادية لمصلحة شعوبها، اي بعد أن حسم الاستعمار مسألة ارتباط وولاء طبقة الكمبرادور والفساد والطفيلية، وبعد أن دثر التراث الثوري والتحرري، وبعد أن هُزم المناضلون الحقيقيون أمام الكمبرادور والتبادل اللامتكافىء وإغراق الصناعات الوليدة في المحيط، وبعد أن عجز ثوريوا التحرير عن نقل خطابهم ونضالاتهم إلى الجيل الجديد الذي اعتاد الحياة الاستهلاكية (طبعاً بمعيار استهلاكية مجتمعات المحيط)، بعد أن حسم الاستعمار هذه الحالة انتقل في موجة هجوم اجتماعي جديدة أوسع، انتقل لاختراق ما هو أوسع وابعد من النخب الحاكمة.

ضمن هذا الانتقال كان قرار الاستعمار اقتطاع جزء من مساعداته للأنظمة التابعة سواء المساعدات الأمنية أو العسكرية او مساعدات توسيع السوق من أجل الاستيراد…الخ، ليخصص مبالغ كبيرة من هذه المساعدات لما أسماه المنظمات غير الحكومية منظمات الأنجزة، والتي من المستساغ التأريخ لانطلاقها مع مناخ الحرب الباردة. ولعل ما سهَّل عليه ذلك هو استدخال التموُّل من قبل أنظمة المحيط التي تدرك أن قيام صلات مباشرة بين أفراد وقيادات وحتى أحزاب مع الأجنبي هو فتك بالسيادة الرسمية لها، ولا نقول السيادة الوطنية لأن الأخيرة غائبة ولو نسبيا، ما سهل ذلك هو حاجة الأنظمة للمساعدات، وبالتالي عجزها عن الرفض.

وقد تم تغليف هذه العلاقة المباشرة بين “الزاني” اي الاستعمار، وعاشقه/عاشقته من وفي مخدع زوجها/زوجتها، تم تغليف هذا بطرح مفهوم جديد للسيادة مغاير للمفهوم الوطني السابق بمعنى أن العالم قرية واحدة والتواصل مفتوح عالمياً بلا حدود.

ولكن، كيف للدولة في المحيط أن تسدد عجزها المالي ومديونيتها دون مساعدات بعد أن صارت الأنجزة وتمفصلاتها شريكا للدولة بل ذات حصة أكبر في بعض الحالات؟ تم حل هذه المشكلة بمشكلة أكثر خطورة وذلك بتطبيق وصفات المصرف والصندوق الدوليين بإملاء أنظمة المركز، اي بفرض سياسات التصحيح الهيكلي، وبيع القطاع العام لتضع الحكومة يدها على أثمان شركاته، وتقليص دعم السلع الأساسية وتحرير التعليم من دور الدولة وتخفيض نفقاتها عليه وعلى الصحة وفوق هذا فرض ضرائب جديدة وعالية…الخ. بالمناسبة فإن حكومة د. سلام فياض مثالية في هذا المستوى!

باختصار إذن، قام المركز بتقسيم عمل بل ادوار بين الطبقة الحاكمة وبين نخب متغربنة لبرالية او شيوعية مرتدة أومناضلة متقاعدة (زهقت الفقر اليساري) وأخذ المركز بإدارة أدوار هذين الفريقين إدارة من السهولة بمكان، فليس اسهل من تحريك وتوجيه التابع والمرتبط.

مثلما حصل في العديد من بلدان العالم الثالث، فقد امتصت الأنجزة كثرة من مناضلي اليسار وحولتهم إلى جزء من نخبة العائدات غير المنظورة. وإذا ما اضفنا إلى هؤلاء اللبراليين المحليين بما هم متخارجين ومتغربنين، نكون أمام حالة جديدة جوهرها ودورها تشكيل وترويج خطاب مضمونه المخفي استدخال الهزيمة والاستعمار والتموُّل والتطبيع، حتى لو لم يعلنوا عن ذلك. ولهذا التطبيع تجلياته على الواقع المجتمعي بحياته اليومية.

يشتمل ذلك على تلقي الأموال من حيث أتى، أي تكرار تجربة منظمة التحرير، واعتبار هذه الأموال أموالاً خاصة مع أن اسمها في البداية : “مساعدات للشعب الفلسطيني”. وعقد لقاءات مع اجانب هم مبعوثي دول، ومشاركة دول هؤلاء الأجانب في حفلاتها ومناسباتها الرسمية كما لو كانت هذه الدول صديقة اسرية لهؤلاء أو صديقة سياسية للشعب الفلسطيني والأمة العربية. لذلك، نجد يوم الاستقلال الأميركي 4 تموز مناسبة ليجتمع هؤلاء بالسادة الأميركيين في احتفالات صداقة يقوم فيها الفلسطيني من يسار ويمين، طالما وصل إلى هناك بتسويق تزلفه للأميركي (كما قال لي دبلوماسي سابق لدولة صديقة).: “…بصراحة شعرت بالخزي والقرف”. ولعل النموذج الأبرز لاستدخال التموُّل هو حالة منظمات الأنجزة. هذا التي سألني مدير إحداها بالقول: نحن منظمة معتمدة على نفسها وليس على التمويل، فما تقييمكم لنا؟ وعليه، كانت هذه المقالة مقدمة لحديث في التقييم.

يمكننا الزعم بأن هذه الأسئلة هي التي، إذا قرر هذا المدير من الأنجزة أو ذاك الإجابة عليها، يمكنه الوصول إلى تقييم لوضعه ودوره دون الحاجة للخبراء.


[1] محمد سيف الدولة، Seif_eldawla@hotmail.com

[2] حين يصرح ناطق باسم البيت الأبيض أن بلاده أوقفت دعمها المالي للمعارضة السورية عام 2005 ثم استانفت ذلك عام 2009 فكيف لنا أن نعتبر هذا مصدرا موثوقاً. من يصدق أن دولة تصرح بكامل عدائها لدولة أخرى! لو كان هذا صدقاً، لكانت اللألاق هي فقط في السلك الدبلوماسي وهو السلك الأشد لؤماً من أجهزة المخابرات مهما غطى نفسه بالهندام الرسمي والابتسامة الذئبية.

[3] كتبت لي سيدة ذهبت باتجاه الأنجزة والأكاديميا والتطبيع وكتابة تقارير في ثوب بحث أكاديمي لدول معادية حين نصحتها برفض ذلك: “أنت لا تريد أن ترى وطنياً غيرك”! لست وحدي وأكره ان أكون وطنياً وحدي!

[4] إن ناحوم تشومسكي مفكر متميز ولكنه صهيوني متميز. أنظر بصدد موقفه من الكيان، كتاب عادل سمارة: التطبيع يسري في دمك، منشورات دار أبعاد بيروت 2010 ودار المشرق العامل للدراسات الثقافية والتنموية رام الله 2011، ص ص 44-48.