قراءة مختلفة لإستحقاق أيلول


السياسي والمثقف: من الحياة مقاومة إلى مفاوضات

العامل الحاسم: الخطاب، نمط الإنتاج أم التمويل؟

(الجزء الثالث)

عادل سمارة

مناخات مهدت لأيلول

يكمن جانب هام من المشكلة المعقدة والجارية في المحتل 1967 في تيار التفاوض في تجاوز قيم ومرتكزات المقاومة كتجسيدات مادية: الاعتماد على الذات على صعيدي الاقتصاد الكلي والجزئي وصولاً إلى الأفراد وهو ما يتضح في ثقافة الابتعاد عن العمل المنتج في ريف لم يعد زراعياً ومدينة ليست صناعية، وتكريس للجوء إلى العمل الوظيفي والخدماتي، اي البحث عن الدخل النقدي دون إنتاج. وعليه، فزيادة الاعتماد على التمويل الأجنبي هي تفرعات للمشكلة الأم اي تلاشي قيمة الاعتماد على الذات حيث غدا التموُّل ثقافة وخطاباً. هل كان هذا صدفة؟ كلا. فالتبعية سياسة وخطة لعلم قائم بذاته. لنُشِر إلى قضية متعلقة وذات وجهين:

الأول: قطع تطور فلسطين التاريخية منذ عام 1948 قطعاً تدميريا بمعنى تدمير الجغرافيا والديمغرافيا والاقتصاد والبنية الطبقية والبنية السياسية، نعم تدمير متواصل حتى اللحظة سواء في المحتل 1948 أو 1967 وليس مجرد تطهير عرقي كما يكتب إيلان بابيه[1] بدقة منقوصة.

والثاني: أمام هذا التدمير الكياني لفلسطين، لم نشهد تبلور خطاب تنموي في المحتل 1967، وهو موضوعنا هنا لا من حيث الاطلاع على الحوارات التنموية العالمية وخاصة الحوار الهندي والأميركي اللاتيني كما لم نشهد إنتاج خطاب تنموي من فلسطينيين إلا بقدر ضئيل. وهذا راجع لعوامل:

· الأول: غياب الموقع المكاني ( لفلسطينيي الشتات) لإجراء إما خطاب مستقى أو خطاب مُنتج محليا.

· والثاني: أن م.ت.ف والتي كانت دولة مفترضة كانت تمارس الكفاح المسلح ومن ثم الإعلامي ولم تكن مهتمة باي تفكير تنموي، ولأن فكر قياداتها ومثقفيها (المستفيدين من الوظيفة الثورية لينتجو الجملة الثورية) بمن فيهم الاقتصاديين، كان فكراً ماخوذاً بالفكر الراسمالي الغربي اللبرالي ومن ثم النيولبرالي الذي كان يوهم أو يتوهم بإقامة تايوان وسنغافورة في الأرض المحتلة 1967. وربما بسبب هذه العقلية التبعوية جيىء بالمنظمة إلى هنا والاحتلال ما زال قابضاً على كل شيء! ما معنى قبولها بذلك وقبول الاحتلال بها؟ من الذي تغير طبقاً لإملاءات الآخر؟

· والثالث: لأن هذه القيادة حينما جُلبت لتقود الأرض المحتلة أتت بفكرها نفسه وبجهازها البيروقراطي نفسه وهو ما نراه في سلطة الحكم الذاتي

· والرابع: لأن الشريك والمنافس الجديد لسلطة المنظمة كانت حركة حماس التي تعتنق الفكر الراسمالي بالفطرة والتراث.

هذا يبين أن هناك خطة للتبعية جرى رسمها وتطبيقها وإيصالها إلى درجة العجز عن الفكاك منها. وهي إن كانت من رسم الأجنبي ومثقفي منظمة التحرير العضويين (سواء في الثقافة أو السياسة أو حتى نظم الأشعار), فإن أدوات تنفيذها او جهاز ذلك كانت بنية منظمة التحرير أو ما اسمي ذات وقت “دولة الفاكهاني”.

بقرطة وتمويل م. ت.ف

لعل الأخطر من البقرطة ليس تجليها وحضورها بما هما نتيجة لها. بل العبرة في قراءة مناخ وسيرورة نشوئها وصولاً إلى تحولها إلى قيمة مسكوتاً عنها ومقبولة أو حتى يتم التنافس عليها. اي حين تصبح نمط حياة وحكم. وهي بطبيعتها مقرونة بالفساد أو مولِّدة له. تكسب البرجوازية البيروقراطية كل من قُوَّتها وقوْتها من خارج العمل الإنتاجي للمجتمع. آلية كسبها هي القوة والسلطة. لذا، فمن شروط بقائها هو القمع الذي قد يقود إلى قطع دينامية وحيوية المجتمع سياسياً وثقافياً، تهميش العقل والسياسة أو تجويف القوى السياسية وعيا ومواقفاً لتغدو مجرد هياكل، وصولا إلى التمكن من تجريف الثروة والفساد. ومن هنا فهي عدوة لكل من الطبقات المنتجة والجماهير الثورية الشابة. قد يجادل البعض: ومتى كانت السلطة، اي سلطة، تشتغل بيدها؟ ومتى كانت تحكم بغير السيطرة والهيمنة واحدتهما أو كلتيهما؟ وهذا صحيح ومن هنا تناقضها مع الطبقات المنتجة.

وإذا كانت البرجوازية البيروقراطية في الوطن العربي، وهي شريك في الحكم إلى جانب الكمبرادور، وربما مندغمتين معاً، واعتمدتا على الريع كما هو في بلدان النفط، أو على الفساد والطفيلية وسلخ الفائض الضريبي، فإن جلب جهاز منظمة التحرير البيروقراطي من الخارج إلى الأرض المحتلة قد جلب معه آليات حياته في الخارج وخاصة الاعتماد التمويلي الكبير على جهات معينة وليس على بنية إنتاجية او ريع محليين، وهذه حالة أسوا من نظيراتها العربيات وأكثر هشاشة. وإذا كانت موارد تمويل المنظمة وهي في الخارج متعددة بحيث أعطتها فرصة أو هامش مناورة معين، فإن حال تمويل الحكم الذاتي في الأرض المحتلة لا يوفر ظروف مناورة تُذكر.

تعددت مصادر التمويل المعروف لمنظمة التحرير وهي في الخارج فهي:

· تمويل من الأنظمة العربية التابعة والكمبرادورية على ارضية تنافسها على التحكم بالمنظمة وتخريبها، وخاصة التمويل الخليجي وعلى راسه السعودي.

· تمويل من الأنظمة العربية ذات التوجهات القومية مثل سوريا وليبيا والعراق دون أن تعدم هذه الأنظمة الرغبة في السيطرة على المنظمة ايضاً.

· تمويل من الفلسطينيين العاملين في الخليج كضرائب على الدخل.

· تمويل من تبرعات فلسطينيي الشتات لدوافع وطنية بحتة.

لقد ساعد هذا التمويل على خلق وتقوية الجهاز البيروقراطي لمنظمة التحرير وهو ما تطور عبر تراكم فوائض مالية ليست ناتجة عن عملية إنتاجية، مما خلق شريحة راسمالية بيروقراطية التي قادت هذه المنظمة وانتهت في الضفة والقطاع بعد اتفاق أوسلو.

سواء علمت مسبقاً أم استنتجت بحكم الممارسة، فإن هذه البرجوازية البيروقراطية وجدت نفسها في سدة حكم معينة. فهي من جهة بيدها سلطة ما على أجهزة وإدارات. وهذا يتطلب “استقراراً وهدوءاً”. ولكن اين؟ في منطقة تقع تحت استعمار استيطاني أي تحكمها علاقة تناقض تناحري مع هذا العدو؟ أي حتمية المقاومة!

منذ أن أُتي بالمنظمة لتصبح الحكم الذاتي، جرت، بمخطط مقصود، عملية التوظيف الموسع بأضعاف ما تحتاجه كل مؤسسة او إدارة حكومية. وهذا شكل من اعتماد المواطن على السلطة مأخوذ بالطبع من تراث الأنظمة العربية ذات الأجهزة البيروقراطية المنتفخة قصداً لأن المواطن المعتمد على السلطة هو الأبعد عن الرفض والأقرب إلى السلطة ليس إخلاصاً وحسب بل لأن زوالها فيه انقطاع دخله لا سيما في مجتمعات غير صناعية ولا متطورة زراعيا مما يراكم فيها بطالة مقنَّعة. وربما يثير هذا نقاشاً حول وضع وموقف الطبقة الوسطى وتحديدا جزئها الموظف حكومياً. وهذه في المحتل 1967 تخدم تماسك هذه السلطة أكثر مما هي قوة تحريض وتغيير. بكلمة اخرى، لم يبدُ أن لها حراكاً سياسياً يمكن الارتكاز عليه. فهي بدءاً من قيادات القوى السياسية وصولا إلى متوسطي وكبار موظفي السلطة وإلى الاتحادات المهنية، تشكل حالة من الرضى الذي يحقق في الدول الراسمالية الغربية ما يسمى الاستقرار. وإذا ربطنا هذا مع وجود بطالة عالية في الأرض المحتلة تحديداً (سواء لضعف وإضعاف قطاعات الإنتاج بالمصادرة وغياب اي توجه تنموي)، فإن الموظف لا بد أن يشعر أن العاطل عن العمل منافس له، وعليه منعه من ذلك، سواء بالولاء للسلطة أو بالقيام بدوره القمعي إذا كان في الأجهزة الأمنية.

لقد أتت سلطة الحكم الذاتي ببنية هي: شريحة راسمالية بيروقراطية من حيث المبنى الإداري ومن حيث حيازة تراكم من مصادر غير إنتاجية وبنية مثقفين عضويين لها بالمعنيين السياسي والمعيشي، وجهاز بيروقراطي حملته معها من بيروت وتونس. كما جندت عشرات الآلاف من فلسطينيي المحتل 1967 لتضخيم الجهاز نفسه من قمته إلى قاعه. وتم استقطاب هؤلاء من معين البطالة وممن عملوا في اقتصاد الاحتلال وممن عملوا في مؤسسات الحكم العسكري الصهيوني المباشر.

لم يتم هذا التجنيد والتضخيم للجهاز البيروقراطي دون معرفة من الممولين، وربما بقرار منهم. قد يساعدنا في تثبيت هذا التوقع حقيقة أن اتفاق باريس الاقتصادي كان قد نص على تشغيل 100 ألف فلسطيني في اقتصاد الاحتلال. ورغم أن هذا القرار مناقض لأية سياسة تنموية بمعنى تخارج قوة العمل بدل تشغيلها محلياً، إلا أن الاحتلال لم يتقيد بهذا القرار مما اضاف لسوق العمل أعداداً جديدة من الباحثين عن عمل. وهنا كان نطاق الاستيعاب هي الوظائف الحكومية ووظائف مؤسسات الأنجزة والمؤسسات التمويلية الأجنبية، وليس القطاع الخاص كما كانت تكرر وتدعو المؤسسات المالية الدولية.

باعتماد أعداد كبيرة من قوة العمل على مصادر غير إنتاجية من جهة، ولكونها ليست مصادر تمويل ريعي محلي، اصبح هؤلاء الموظفين رهن رضى الممولين عنهم، وهذا يلعب دورا هاما في تحوير وإزاحة قيم معينة وإحلال غيرها قد تصل إلى نقيض ما كانوا تربو عليه وعاشوه.

لقد اتضح هدف التمويل بلا مواربة إثر نتائج انتخابات مجلس الحكم الذاتي الثانية. فحينما جاءت النتيجة معاكسة لما يريده الممولون تم وقف التمويل عن حكومة حماس. وإذا وضعنا بالاعتبار أن التمويل معولم فإن قطع التمويل كان انقلاباً معولماً. وعلى السياسة نفسها، وإن بصيغ أقل أو اكثر فجاجة كان تمويل المنظمات غير الحكومية وخاصة من الولايات المتحدة الأميركية.

المهم في الأمر ان هذه الضغوط والتبعية التمويلية هي التي اتضحت أهدافها وبالطبع نتائجها في تمرير خطاب “تجفيف منابع الإرهاب” الذي هو بلا مواربة رفض إهاني للكفاح المسلح. كيف لا نتحدث إذن عن تغيير القيم حين يغدو بوسع الولايات المتحدة فرض هذا الشرط وقبول فلسطينيين به وبالطبع رضى سلطة الحكم الذاتي ومنظمة التحرير عن فرضه بفوقية أميركية جلفة في البلد؟

سياسة البنك والصندوق

لم تُكتب ورقة في التنمية الحقيقية في العالم إلا وحاولت المباعدة بينها وبين سياسات المصرف والصندوق الدوليين بما فيها أوراق ومؤلفات مفكري تنمية قبل أن يرتدوا لصالح اللبرالية مثل كاردوسو المرتد علانية: “إنس كل ما كنت كتبته”[2]. كُتبت هذه الكتابات لاقتصادات بلدان نامية (مستقلة على الأقل بالمفهوم الدارج). لكن اقتصاديي سلطة الحكم الذاتي ومراكز الأبحاث فيه وواضعي سياساته الاقتصادية، اعتمدوا وصفات الصندوق والمصرف الدوليين طبعا إلى جانب اقتصاد السوق بالمفهوم الجديد للبرالية. قلما وجدنا أدبيات، في نطاق السلطة وتوابعها وحتى الأكاديميين من انتقد أو حذَّر من سياسات هذه المؤسسات المالية الدولية وخاصة لأن البلد ليس مستقلاً!

تساوقاً مع التوجه ذاته، كانت السياسة الرديفة للتضخم الوظيفي اكثر خبثاً بمعنى أن التحويلات المالية إلى سلطة الحكم الذاتي وهي بمقادير كبيرة ومتعددة ربما زادت على 18 مليار دولار، خُصصت كما اشرنا للتوظيف وليس لمواقع الإنتاج وخلق شواغر العمل. فسلطة الحكم الذاتي معنية بقطاع حكومي وليس قطاعاً عاماً لأنها سلطة بدأت منذ ولادتها مضمخة بوصفات المصرف الدولي في الخصخصة وإلغاء القطاع العام، وزيادة الضرائب[3] وعدم التضبيط…الخ.

اصدر صندوق النقد الدولي في 18 ايلول 2011، تقريراً ورد فيه: ” أن مديوينة سلطة الحكم الذاتي بلغت 2 مليار دولار” أي أن الدين المترتب على كل مواطن هو قرابة 70 دولاراً. واضاف التقرير: “أن النمو في مناطق الحكم الذاتي بلغ 8% للفترة 2008-2010″. وفي تفسيره، اي الصندوق، للخروج من الأزمة التي دخلتها مناطق الحكم الذاتي هذا العام 2011 ينصح بأن تقلل إسرائيل من تقييداتها على هذا الاقتصاد وبمواصلة الخصخصة ورفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاماً، وبنجاعة تحصيل الضرائب وزيادة مساعدات المانحين”. والصندوق كما هو المصرف الدولي لا يذكر كلمة الاحتلال بل “حكومة إسرائيل”، وهذا خطاب مقصود به تكريس “شرعية” الاحتلال. لكن الأهم أن هذه المقترحات لا تتعاطى مع المطلوب والمتطلبات. المطلوب إنهاء الاحتلال والمتطلبات هي تنمية تشغيلية محددة بخلق شواغر عمل دائم. هذا ناهيك عن اللغة المخفية في الحديث عن بلد نموها الاقتصادي، حتى لو لفترة محددة قصداً، هو 8 بالمئة مع أن مواردها مثابة مساعدات من الخارج! أي نمو بدون إنتاج محلي! بكلمة، فإن سياسات ووصفات الصندوق والمصرف الدوليين هي باتجاه تركيز إيديولوجيا السوق وقانون القيمة والتبعية، وإلقاء العبء الضريبي على الأكثرية الشعبية وتبرير سيطرة الاحتلال، فكيف لا تقود هذه للمفاوضات؟

أمركة نمط الحياة في غير أمريكا!

ما معنى توفير سيولة مالية في ايدي الناس لا سيما وأنها ليست دخلا من فائض إنتاج محلي؟ لعل المعنى الفعلي والمباشر لهذه الحالة هي الاستهلاك. بل الاستهلاك غير المتوازن، بمعنى أن من يعيش من دخل إنتاجي هو اشد حرصا وأكثر دقة في الإنفاق لأنه جزء من العملية الاقتصادية الفعلية بمعنى الدخل والاستهلاك والادخار من أجل الاستثمار…الخ لنقل دقة وحرص صاحب المشروع على استمرار مشروعه. أما من يعيش على سيولة مالية شهرية مضمونة فهو أكثر قابلية للإنفاق طالما هو مستند على السلطة ناهيك عن أن هذا يحوله إلى استهلاكي لا يمكنه التقشف حين توقف الدخل الممنوح، وحينها لا بد ان يساوم على القيم.

لهذا وجدنا ذلك الاستهلاك الترفي في الأرض المحتلة متمظهراً في السيارات الجديدة الفارهة وشراء الشقق وتجارة الأراضي…الخ إنه انخراط المواطنين في اقتصاد السوق ولكن فوق بالونات من الهواء. فهم محمولون على فقاعات مالية ليست من عوائد الإنتاج. وعليه، فإن استمرار تدفق هذه الأموال مرهون بمعادلة تدفقها كمعادلة سياسية بمعنى أن هذه الأموال هي ريع مالي لمواقف سياسية. في سياق بحثنا هذا، هي ريع لاستبدال القيم الوطنية الكفاحية بقيم الاستهلاك والسوق وتمرير التسوية السياسية في طبعة سلام راس المال، وترسيخ قيم المفاوضات.

توضح هذا السياسة التي يتبعها رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال في الحكم الذاتي والتي شجعت الموظفين على الاقتراض من المصارف سواء لشراء سيارات او شراء شقق أو إضافات على الأبنية، وهو الأمر الذي تجلى في قيام المصارف بمطاردة الناس لأخذ القروض!، ألأمر الذي لم يكن في السنوات السابقة من حياة الحكم الذاتي. وهو نمط ربط المواطن بأكثر قيود مالية ممكنة لكثرة ما عليه من دفعات، وقلقه على العقار أو السلع المعمرة التي اقترض من أجلها بأن تأخذها المصارف، لكي يعيش حياة اشبه بحياة المواطن الأميركي، ولكن طبعاً بدون أميركا البلد المتقدم والمنتج من جهة والذي يتحكم بدفوقات من مختلف بلدان العالم وإن كانت بعد على شكل أضخم مديونية في العالم والتاريخ! وهكذا، حينما يتم تكبيل المواطن بالقروض ودفعاتها وإلا فإنه سيفقد مصدر معيشته أو أملاكه، فإنه في أحيان عديدة سوف يضحي بالقيم، وإن كان غير راغب في ذلك! هذا إضافة إلى ما هو أخطر، اي تطبيق سياسة الباب المفتوح بالاتجاهين:

· اتجاه الاستيراد من اي مصدر، طبعا بموافقة الكيان[4]، مما حاصر قطاعات الإنتاج المحلي سواء بإهمال الأرض أو توقف المشاريع التصنيعية الأمر الذي حول الكثير منهم إلى شركات تعاقد من الباطن مع راس المال الصهيوني، أو تحولوا إلى كمبرادور أعفى نفسه من تبني سياسة إنتاجية.

· واتجاه تصدير الفوائض المالية المحلية إلى المصارف في الخارج مما قطع عملية الاستثمار التي ليست بعافية من حيث المبدأ.

أي قطاع خاص؟

هل للقطاع الخاص دور ريادي في اقتصاد المحتل 1967؟ أم هو بطبيعته التابعة يتمتع بقدرة عالية على التكيُّف مع اقتصاد الكيان؟

لا بأس، فلندع الفترة ما بين 1967 و 1987، جانباً، بمعنى أن هذا القطاع تكيف مع اقتصاد الكيان في غياب أمرين هامين على الأقل:

الأول: غياب سياسة تنموية لمنظمة التحرير تجاه المحتل 1967.

والثاني: غياب الوعي الشعبي بالمقاطعة.

ولكن، تجربة الانتفاضة الأولى كشفت ضعف القابليتين الوطنية والاستحداثية الراسمالية لهذا القطاع وبالطبع زادت من كشف الفقر التنموي لقيادة منظمة التحرير. فرغم أن الانتفاضة هذه وفرت لهذا القطاع فرصة سوق انحصارية حيث قاطع المواطنون منتجات العدو وحتى الشغل في قطاعات اقتصاده، إلا أن هذا القطاع الخاص ابقى على تبعيته لاقتصاد الاحتلال سواء بالتعاقد من الباطن أو بعدم الاستثمار اي بالاكتفاء بجلب منتجات الاحتلال وإعادة تغليفها محليا. وعليه، فحينما جُلبت سلطة الحكم الذاتي بموجب اتفاق أوسلو 1993، أعلنت أنه باسم السلام وبسبب حلوله لا داعٍ للمقاطعة، وهذا منح هذا القطاع فرصة تجديد تجليس نفسه في بنية اقتصاد الاحتلال.

من اللافت أنه منذ بداية الحكم الذاتي والمؤسسات الدولية والدول الغربية تركز على “الدور الريادي للقطاع الخاص” هذا القطاع المحظي ولا سيما بموجب السياسات النيولبرالية. ولكن السؤال اي قطاع خاص؟ ما علاقته بالعملية الإنتاجية؟ ما موقعه فيها، فالقطاع الخاص مفهوم واسع وفضفاض يبدأ من شريحة ذات توجه قومي إنتاجي مستقل وغير تابع وتنتهي بالمافيا والكمبرادور والطفيليين والفاسدين والقومسيونجية وحتى الأزلام.

لقد تمت مواصلة عملية تكييف وتكيُّف القطاع الخاص ضمن قنوات تزيحه عن العملية الإنتاجية كي يتكيف مع الدور الكمبرادوري، وهذا ما عزز دور الكمبرادور كوكيل لمنتجات الاحتلال او للمستوردات من الخارج. وفي أفضل انشطته فإن هذا القطاع قد توجه إلى المضاربات بالأرض والعقارات مما رفع اسعارها إلى مستويات فلكية وخاصة نظراً لمعدلات التزايد السكاني العالية وقيام الاحتلال بتضييق الرقعة المسموح للبناء عليها في مسطحات المدن والقرى سواء بالأوامر العسكرية أو بالطرق الالتفافية.

إن قراءة لاتفاق باريس الاقتصادي تبين أن اقتصاد سلطة الحكم الذاتي قد بقي اسير الاقتصاد الصهيوني سواء من حيث حرية الاستيراد والتصدير (كما اشرنا) بمعنى أن الذي يقرر المستوردات ومقاديرها هي سلطة الاحتلال، أو من حيث سيطرة الاحتلال على العملية التجارية مع الخارج. ولعل الطريف في الأمر بل المُفارق أن أكثر من طالب بتعديل أو إلغاء اتفاق باريس كان السيد أحمد قريع وهو نفسه الذي وقع هذا الاتفاق، كما انه يعلم أن لا الإلغاء ولا التعديل ممكنين إلا بحاجة وقرار سلطات الاحتلال. نحن إذن أمام سلطة تابعة ليست مقودة بتوجه إنتاجي ولا تشجعه إلى جانب راسمالية ليست ذات توجه إنتاجي كذلك، وإنما خدماتي وكمبرادوري ومتعاقد من الباطن يحفزها على ذلك المصرف الدولي. في التحليل الأخير، فإننا أمام موقف طبقي من توليد مصالح طبقية. فإذا ما قرأناه على ضوء دعم المؤسسات المالية والمانحين والسلطة لهذا القطاع فنحن أمام تحالف راسمالي متناغم مصلحياً ومتحالف سياسياً باتجاه التفاوض والتسوية.

لا تكمن أهمية الراتب في عدد موظفي سلطة أوسلو-ستان وحسب رغم أنهم يمثلون/يعيلون قرابة ثلث أهل الأرض المحتلة 1967. فالأمر الأهم أن هؤلاء يحركون السوق وإلى جانبهم، وإن بنسبة أقل موظفي الأنجزة والمؤسسات الأجنبية وخاصة الثقافية منها والتي معظمها لدول غربية حليفة دائمة للكيان الصهيوني. قد لا يُعجب كثيرون هذا التقوُّل الاقتصادي وخاصة من يُنافحون عن: أولوية الثقافي والسياسي والنفسي…الخ. ولكن في نهاية المطاف لا يمكن للاقتصاد إلا أن يحسم. ومن هنا خطورة التمويل وإيديولوجيا السوق.


[1] يحظى إيلان بابيه بتقدير عال من فلسطينيين، وخاصة مثقفي التخارج اللبرالي الذين يكمن في داخلهم الإعجاب باليهودي لأنه يهودي، وفي هذا ركوع خطابي. ليس هذا تقليلاً من مساهمة الرجل بالطبع. في المستوى الثقافي هناك انبهار بقول بابيه: “إن الحركة الصهيونية حركة قومية في التاريخ، لأنها انما وجدت لتخلق شعبا واحدا فاذا بها تخلق شعبين”. الحركة الصهيونية صنعت ما يسمى “قومية” يهودية، ولم تخلق الحركة والهوية الفلسطينية بل خلقت صراعا تناحريا أفرز مقاومة، وهذا طبيعي. فالأساس هو الوجود الموضوعي للفلسطيني السابق على الصراع. ولو خُلقت الحركة والهوية الفلسطينية على الشاكلة التي تريدها الصهيونية لما كانت هناك مقاومة. إن زعم بابيه هنا منطو على تسويقه المخفي، خطابه المخفي لتسويق الرواية الصهيونية بأن هذا الاستيطان وخلق ما يسمى القومية اليهودية قد خلق ذلك الشيىء ما المسمى فلسطيني! ومرة أخرى الفلسطينية موجود كعربي ايضاً ولكن ما خلقه الفلسطيني لمواجهة الصهيونية هو المقاومة، وهذا أمر طبيعي. ولا مجال لمناقشة الاستشراق في نفس السياق.

[2] See Michale Chossudovsky, The Globalization of Poverty and the new World Order, 2003: p. 197.

[3] تقوم حكومة تسيير الأعمال باقتطاع ضرائب على مكافآت معلمي جامعة بير زيت.

[4] يتحدد الاستيراد والتصدير في المناطق المحتلة بقرار الكيان الصهيوني، هذا رغم ما يُقال من بعض الفلسطينيين بعكس ذلك ورغم عقد سلطة الحكم الذاتي اتفاقات تجارية مع بلدان كثيرة، فمختلف هذه الاتفاقات محكومة في النهاية بقيول الاحتلال.