انسحاب من اجل البقاء !

جمال محمد تقي

سينسحبون،

سينسحبون،

مجبرون لا مخيرون،

سينسحبون.

لكنهم باقون

بمخلفاتهم

باقون بروحهم الشريرة التي تخيم على كل شيء،

حتى على الهواء الذي يتنفسه العراقيون..

سينسحبون !

لايختلف اثنان في العراق على ان الامريكان يريدون تواصلا لبقائهم العسكري فيه حتى لو ناقض هذا التواصل اي وعود سابقة او اتفاقات مبرمة او برامج انتخابية للاستهلاك الداخلي الامريكي، او خطابات لترطيب خواطر العراقيين الذين يجدون في خروج الامريكان من بلادهم عنونا لاسترداد السيادة الوطنية وبداية حقيقية لعودة الاستقرار اليه، ومن نافلة القول ان الفضل في هذا الاجماع العراقي يعود للامريكان انفسهم، فكل احاديث المسؤولين الامريكان الذين زاروا العراق خلال الستة الاشهر الاخيرة كانت تصب بهذا الاتجاه، ناهيك عن احاديث ومداولات كبار الدبلوماسيين والعسكريين الامريكيين العاملين داخل العراق، وكل التصعيدات والتلعثمات والتوترات التي يشهدها العراق على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومنذ اعادة تشكيل حكومة المالكي الثانية المتشكلة من تسويات مركبة بين اطراف المعادلة التحاصصية المتوافقة على الانتخابات المفصلة على مقاساتها، وحتى الان، تصب بنفس الاتجاه ايضا، فعدم حسم اي قضية عالقة من القضايا الملحة وتركها لجر وعر القائمين عليها هو اسلوب امريكي مكرر يخدم توجههم القاضي بالبقاء، بحجة ضمان عدم انزلاق الوضع برمته نحو الهاوية.

ان عدم الجدية بتسليح وتدريب الجيش العراقي، والاستثمار في تفخيخ العلاقة بين بغداد واربيل، وتعمد حالة التراخي امام تزايد النفوذ الايراني لجعل تدخلها مدعاة لاثارة الذعر الطائفي بين ابناء الشعب ومن ثم التلاعب الموسمي بالاوضاع الامنية سلبا وايجابا، ورفع اليد عن وعود اعادة الاعمار، والتنصل الناعم من موضوع رفع العراق من تحت طائلة البند السابع، وعدم المبالاة للتصرفات الاستفزازية للكويت وكأنها لاتصب في عرقلة عودة الاستقرار للمنطقة، رغم ان مثل هذه التصرفات كانت السبب المباشر لاندلاع حرب الخليج الثانية والتي ارادتها امريكا فزاعة لتواجدها الاحتلالي، في حين كان الامريكان انفسهم يشدودون من تهديداتهم لسوريا مثلا بحجة تأثير مواقفها السلبية على استقرار الوضع العراقي، انهم يغضون الطرف عن تدخلات الكويت وتركيا وايران، ولغاية بنفس يعقوب، غرضها الاساسي احداث مزيدا من التعقيدات واتخاذها ذرائعا لاطالة عمر البقاء الامريكي في العراق.

السفارة الامريكية في قلب بغداد هي قاعدة امريكية ثابتة، وهي اكبر سفارة امريكية في العالم، يعمل فيها ما يقارب من 10 الاف عسكري ومدني، فيها قاعدة جوية صغيرة وفيها مركز استخباري متقدم وقوات خاصة، اما القنصليات الامريكية الخمسة المنتشرة في شمال ووسط وجنوب العراق فهي الاخرى قواعد ثابتة لكنها بحجم اصغر من قاعدة بغداد، واضافة لهذه القواعد التي يخلط فيها العمل الدبلوماسي بالاستخباري والعسكري، هناك قواعد عسكرية صرفة تتخصص بالسيطرة على الاجواء العراقية وعلى كل الانشطة الرادارية، واخرى متخصصة بعمليات الكوماندوز، واخرى بالاسناد، واغلب هذه القواعد العسكرية موزعة حاليا قرب مطارات المحافظات التي تتواجد فيها القنصليات الامريكية، اضافة الى المعسكرات ذات المعدات الثقيلة وهي اربعة معسكرات رئيسية موزعة على بغداد والبصرة والموصل وصلاح الدين، وفرعية موزعة على الناصرية والكوت والحلة وكركوك واربيل، ان الانسحاب القادم لا يشمل كل هذه القواعد ولا كل القوات البالغ عددها حاليا حوالي 50 الف عسكري، انما سيعيد توزيع وتنظيم ودمج بعض القواعد مع بعضها وسيتم الاستغناء عن بعضها الاخر وخاصة الذي لا حاجة نوعية له، وتحديدا بعد عملية اعادة الانتشار الجديدة التي ستجري بالتزامن مع تخفيض اعداد القوات الامريكية المتواجدة الى حوالي النصف، حتى نهاية العام الجاري. ان اهم قاعدة امريكية لا يشملها قرار الانسحاب من العراق، هي قاعدة، عدم ترك العراق وباي حال من الاحوال يفلت من القبضة الامريكية مجددا، حتى لو كلف الامر عودة كل الجنود المنسحبين منذ عام 2003 وحتى نهاية 2011.

لقد بنى الامريكان في العراق قواعدا من نوع اخر، وحفروا خنادقا لا يتعسكر بها المتعسكرون، انما ليتهافت اليها الطائفيون والمناطقيون والعنصريون من الاتباع، حتى يشكلوا بمجموعهم مصدات فاعلة لمنع رياح الوطنية العراقية من اقتلاع النبت الشيطاني الذي زرعه المحتل، والذي سيثمر ان ترعرع وتغذى، انقلابا غائرا في المنظومة القيمية للوطنية العراقية، لتحل محلها قيم المكونات المتغالبة، والتي ستكون الحلقة المركزية المعتمدة في المشروع الاحتلالي لما بعد اعادة الانتشار او حتى لما بعد الانسحاب العسكري الكلي، لان فصفصة المجتمع العراقي الى مكونات غير متجانسة يجعلها تندفع لمصير التصادم الذي يتوسل استدعاء الحماية من الخارج، هو المحصلة الاكثر خطورة في كل تداعيات عملية الاحتلال برمتها.

كان الامريكان قد وضعوا بيض مشروعهم في كل الترتيبات التي استعدوا بها لساعة الغزو والاحتلال، فكانت تعاملاتهم مع من كانوا يسمون انفسهم بالمعارضة العراقية تتم على اسس المحاصصات المكوناتية ـ شيعة وسنة واكراد ـ حتى انهم كانوا يغذون توجه قادة الجيب الامن في شمال العراق لاقامة قاعدة انعزالية اولى متميزة بمكونها الكردي، بانتظار تبلور ملامح التيار المتنفذ للمكون الثاني، وهكذا وقفوا ضد اية محاولة وطنية جادة لاقامة جبهة وطنية عراقية موحدة تعتبر شمال العراق منطلقها لمناطحة نظام الحكم في بغداد من اجل اجباره على التغيير، لانهم كانوا لا يريدونه تغييرا وطنيا وانما ارادوه تغييرا احتلاليا يؤدي بالنتيجة الى تشظي العراق كقوة اقليمية واضعافه تماما بامتصاص كل نقاط مناعته وعندما تم الغزو والاحتلال تفقس ذلك البيض وخرج منه ما خرج حتى الان، دستور مفخخ وفدرلة واقاليم جاهزة للانفصال، خصصة للنفط والغاز على اسس مكوناتية، خردلة القطاع العام، تغريب الطبقة الوسطى والانتجلستيا العراقية داخل وخارج العراق، هذه الطبقة الاصقة والتي امتازت بارتباطها الوطني العابر لحدود المكونات، اجتثاث خبرة الدولة في العراق لمصلحة خبرة عراق ماقبل الدولة الحديثة، كل هذا في اجواء سونامية من اللصوصية والفساد والافساد، لم يشهد لها تاريخ العراق وتاريخ دول العالم مثيلا، بحيث يمكن ان يفقد بلد ما مئات المليارات من الدولارات خلال فترة تقل عن عشرة سنوات ومن دون ان تتحرك شعرة واحدة من الحاكم الفعلي للبلاد !

نعم ونتيجة للازمة المالية الخانقة التي يمر بها الاقتصاد الامريكي سيتم تخفيف نفقات التواجد الاحتلالي الرسمي في العراق لدرجة كبيرة من خلال ترشيق العدد المتبقي الى دون النصف وتحميل الميزانية العراقية جزءا من التكاليف تحت عناوين مختلفة، وستستحلب الميزانية العراقية امريكيا من خلال تركيز عطاءات مناقصات التسليح على شركات امريكية محترفة، ومن خلال سد فراغ القوات المنسحبة بمنتسبي شركات الحماية الخاصة الامريكية والتي لا تؤدي خدماتها للحكومة العراقية الا بمقابل مالي ضخم.

القواعد الامريكية التي لا يشملها الانسحاب من العراق كثيرة وهي لا ترحل الا بسقوط المشروع الامريكي المهندس كقاعدة انطلاق للشرق الاوسط الكبير، وهذا السقوط لا يأتي مجانا اوميكانيكيا وانما هو محصلة لمشروع المقاومة الذي مايزال في طوره الاول.