الخيانة المنظمّة

جورج كرم

الخيانة المنظّمة المقبولة إجتماعياً في بلادنا، عمرها من عمر الكيان الصهيوني، فمنذ اليوم الذي وقّع فيه رجال دين في الأربعينات في لبنان إتفاقاً سرياً مع قادة الكيان الصهيوني، إلى يوم دارت الشبهات حول أحد الملوك العرب بأنه خان القضية في حرب الأيام الستة وبلّغ الصهاينة عن الهجوم فاستعدوا لمواجهته، إلى يوم حلم البعض بإقامة دولة عنصرية دينية في لبنان واستعانوا بالجيش الصهيوني لمساعدتهم في تحقيق ذاك الحلم “الزئبق“… يعاني شعبنا تداعيات مغامرات المرتهنين للأجندات الصهيونية والأميركية، اللاهثين وراء المنفعة الشخصية. الأمثلة على هذا النهج الخياني لا تعد ولا تحصى، فالكثير من القادة السياسيين ورجال الدين في لبنان مثلاً يطالبون اليوم مجاهرة بنزع سلاح المقاومة تحت ذرائع مختلفة، لكن الدافع الحقيقي وراء هذه الحملات رفع الضغط عن العدو الصهيوني الذي يئن تحت ضربات صواريخ مقاومتنا ويرتجف خوفاً من معادلات توازن الرعب ورد الصاع صاعين التي يعلنها سيد المقاومة بين الفينة والفينة. أما بعض قادة السلطة الفلسطينية فحدث ولا حرج، “فأبطال” طأطأة الرأس في أوسلو يتباهون بخنوعهم، إلى حدّ أن أحدهم يقول في مجالسه الخاصة إن ليس هناك احتلالاً “إسرائيلياً” للضفة بل بضعة حواجز “إسرائيلية” على الطرقات التي تصل القرى بعضها بالبعض الآخر، أما القرى نفسها فهي في رأيه “محررة”. امتلأ جيب المسؤول بالنقود وأصبح يملك شركة للتلفون الخليوي فنسي أو تناسى أن بلده محتل. والغريب أن بعض فئات الشعب باتت ترى مواقف كهذه مقبولة وفي بعض الأحيان تؤيدها، كأن الخيانة أصبحت خطّاً سياسياً معترفاً به. والسبب وراء ذلك أن الوسائل الإعلامية، بأغلبيتها، أيضاً تطبّع مع العدو وتروّج له بطريقة خبيثة غير مباشرة، فالإعلام الغارق في مستنقع الشيكات الخليجية ينقل تصريحات عميل وكالات الاستخبارات الأجنبية في بلادنا بالصوت والصورة في مطلع نشرة الأخبار مثلاً، بدلاً من أن يعطيها حيزاً هامشياً في منتصف النشرة من باب العلم والخبر لا أكثر.
ما زلت أذكر عندما كنت صغيراً كيف ثارت ثائرة والدي اعتراضاً على عرض قناة تلفزيونية محلية للمرة الأولى شريط أحد اجتماعات قادة العدو، وكيف تحسر يومذاك على أيام جمعية “كل مواطن خفير” التي أسسها الأديب الراحل سعيد تقي الدين لملاحقة عملاء الصهاينة في بلادنا ونشر الوعي حول خطرهم. في الماضي البعيد اقتصرت صورة الصهاينة في مخيلتي على وجه رجل أصلع أعورعلى صفحات الجرائد يغطي عينه برقعة سوداء، كما يفعل القراصنة في الأفلام السينمائية، أما اليوم فنرى الإعلام لا يتوانى عن عرض كل شاردة وواردة في كيان العدو بالصوت والصورة وعن استعمال كلمة “إسرائيل” عشرات المرات في النشرة الإخبارية، كأن كيان العدو دولة شرعية مثل باقي الدول وليس كياناً غاصباً نسعى إلى إزالته من الوجود، و لا أقصد هنا محطات التلفزيون المعروفة بعمالتها التاريخية فحسب، أو تلك الخليجية التي لا تصلح إلاّ أن تكونفوفوزيلا” آخر من “فوفوزيلاتالناتو والـ”سي آي إيه”، بل أعني أيضاً إحدى محطات التلفزيون التي كانت بجانب المقاومة في حرب تموز لكنها سرعان ما بدأت تروّج لشرعية مجلس “كرزاياتالشام وعملائه ونراها اليوم وقد بدأت في التطبيع الكامل مع العدو، عارضة صوراً للصهاينة وهم يولولون و يشتكونإزعاج” الصواريخ التي تسقط على رؤوسهم. وفي معرض الدفاع عن هذه الخطوة تقول مديرة الأخبار في المحطة إنها تصدّق “الإسرائيلي” في الشق العسكري التقني “فهو يعرف جيداً مصدر الصواريخ التي تسقط في مستوطناته” إذن أصبح العدو ذو صدقية رفيعة في الشأن العسكري التقني، بحسب مديرة قسم الأخبار! أليس هذا موقفاً تمهيدياً للمحطة كي تبدأ في الترويج لمشاريع العدو العسكرية مستقبلاً؟ من يدري؟ إن دراسة تحركات العدو ونمط تفكيره والطريقة التي يحلل بها الأمور وقراءة صحفه… واجب وطني لكل مواطن واع، لكن إبراز كيان العدو كدولة عصرية وتصوير إرهابييه مواطنين عاديين يريدون العيشبسلام” بمنأى عن أزيز الصواريخ وانفجاراتها هو من باب التطبيع المرفوض، فلتتراجع المحطة عن هذه الخطوة التطبيعية لتحفظ ما تبقى من ماء الوجه.
أما بعض المثقفين “المحسوبين علينا” فهم لا يتوانون عن إستعمال كلمةإسرائيل” و”إسرائيلي” من دون إضافة المزدوجين في كتاباتهم، معترفين بذلك ضمنياً بالكيان الصهيوني وملمحين بأنه كيان قابل للإصلاح، إذ لم يستطيعوا أبداً التخلي عن عقدة وجوب تحالفهم مع الصهاينة “الكادحين” في الكيان الغاصب وعن اعتبار الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” حليفاً لهم، فهم ما انفكوا يعتبرون قضية الكادح الذي سلب أرضنا قضية الكادح في بلادنا نفسها، متناسين طبيعة الكيان الصهيوني الاستعمارية الإرهابية وأن كل صهيوني إرهابي قبل أن يكون كادحاً.
كان محقاً زعيم النهضة السورية القومية الاجتماعية أنطون سعاده عندما أعلن لمناسبة زيارة بلفور لسورية في العشرينات ” أن بلفور كان يجب أن يلاقي في سوريا حتفه إذ لا يخيف الصهيوني شيء مثل الموت… ولو وجد في سورية رجل فدائي، يضحي بنفسه في سبيل وطنه ويقتل بلفور، لكانت تغيّرت القضية السورية من الوجهة الصهيونية تغيراً مدهشا”. مع الاحترام لكل فدائيينا الأبطال الذين لم يقصّروا أبدا في و اجباتهم النضالية حيال الغزاة والعملاء، من الواضح أن تمادي بعض السياسيين والقادة الروحيين في لبنان في الترويج للخنوع والعمالة هو نتيجة تساهل الدولة وحتى المقاومة مع العملاء وفي بعض الحالات سن القوانين لإعادتهم للعيش بيننا جواسيس مخضرمين مدربين، بعدما أمضوا عقداً من الزمن في الكيان الغاصب. لكن هذا التساهل الرسمي والتشجيع الغربي للمروجين لأجندة العدو لا يعفيانهم من يوم حساب شعبهم لهم، فالذي يهدد مثلاً بأخذ “فرّاعته” إلى ترشيش ليقطع بها كابلات شبكة إتصال المقاومة، و”غليون السلام مع العدو” في الشام الذي قدم للتوّ أوراق اعتماده للصهاينة من خلال إعلانه في مقابلته الأخيرة التي أجراها مع صحيفةوول ستريت جورنال” بأنه سينقل الشام الى معسكر المستزلمين لـ”إسرائيل” في حال استلامه الحكم، وآخرون ممن قرروا عبور الخط الأحمر في الخنوع والعمالة في أوج عصر انتصارات الأمة، فمن قلة حظهم أن الانتصار الآتي الذي ستتبخر فيه أحلامهم الرخيصة سيكون مدوّياً.

::::

المصدر: “البناء” اللبنانية

الرابط: http://www.al-binaa.com/newversion/article.php?articleId=50272