البابا” في لبنان.. رسالة للمسيحيين والمسلمين

، ليلى نقولا الرحباني

في خضم الاستعداد لزيارة البابا للبنان، ومع هدوء الجبهات الداخلية بانتظار تمرير هذا الاستحقاق الرعوي ذي الطابع السياسي الهام، تبرز إلى الواجهة قضية محورية قد لا تكون معلنة في زيارة البابا، لكنها بالتأكيد من صميم أهداف الزيارة، وتتجلى في قضية وجود المسيحيين المشرقيين، وتهجيرهم من الشرق.

 وفي دراسة تاريخية للحراك المسيحي الغربي في المشرق، نجد أنه مع بدايات القرن التاسع عشر، ومع ضعف السلطنة العثمانية، وبدء حملات نابليون، أعطى الأوروبيون المسيحيين المشرقيين دوراً في حماية المصالح الغربية في المنطقة، مقابل تأمين الحماية لهم، خصوصاً في ظل نظام ملل يحرمهم أبسط الحقوق الأساسية، ويميّز بينهم وبين المسلمين.

 ونتيجة هذه المقايضة، توجّه جزء من المسيحيين المشرقيين نحو الغرب، باعتباره الضامن لوجودهم، لاسيما مع احتدام الصراع حول السلطة في الداخل، والذي أخذ في كثير من الأحيان طابعاً دينياً، فكان احتكاك ونزاعات بينهم وبين الطوائف الأخرى، امتدت منذ عام 1840 حتى الحرب الأهلية، التي انتهت بتراجع مسيحي كبير في الدور والسلطة والحكم، انعكست نتائجه في اتفاق الطائف عام  1989، وأدّى الى تهميش مسيحي كامل في السلطة والإدارات العامة، أضيفت إليها محاولة احتواء ممثليهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

 وفي خضم كل هذا التراجع، وفي ظل ما استجد بعد “الثورات العربية”، يجد المسيحيون أنفسهم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما:

الأول: الاستمرار في التطلع نحو الغرب الطامح إلى تهجيرهم من المشرق، والذي يعدّ الخطط لإقامة “شرق أوسط جديد”، بتقسيمات جديدة تشبه إلى حد كبير ما حصل إبان بدايات القرن العشرين وسقوط الإمبراطورية العثمانية، حين تقاسم الأوروبيون تركة “الرجل المريض”.

 قد يكون المشهد في المنطقة اليوم، مشابهاً لما حصل في تلك الفترة التاريخية، إذ يتهافت الغرب على تقاسم تركة الديكتاتوريات المنهارة، ليجدد أحلامه القديمة بتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية متناحرة، ويطمح إلى تهجير كامل للمسيحيين من المنطقة، والدليل ما أعدّته الدول الأوروبية – خصوصاً الاسكندنافية منها – من مخيمات لجوء للمسيحيين، لاسيما مع بدء الحراك في سورية.

 المطلع على التقارير الغربية يعلم أن الحديث يجري عن تقسيم كامل للمنطقة، وقد يكون أهمها – بالنسبة إلى المسيحيين – الحديث عن تقسيم سورية، حيث تُقسم سورية إلى أربع دويلات: دويلة علوية على امتداد الشاطئ السوري، ودويلة سنية في حلب، ودويلة سنية أخرى حول دمشق، ودويلة الدروز في الجولان ولبنان.

 أما مصير مسيحيي سورية، ومعهم مسيحيي المشرق بشكل عام، فهو الهجرة الدائمة إلى أوروبا وكندا، كما حصل مع المسيحيين العراقيين في ظل “الديمقراطية الأميركية”، ومن بقي منهم يختار العيش في ظل نظام “أهل ذمة” جديد، يتطلب حماية من السلطة الحاكمة، باعتبارهم “جالية مسيحية” في إحدى الدويلات المذكورة أعلاه.

الثاني: مقاومة ما يخطط للمنطقة، ورفض التقوقع والانعزال، وعدم السير في تلك المشاريع المشبوهة، والعمل على إقرار مبدأ المواطنية في دول تحتضنهم مع إخوانهم المسلمين، ويعيشون فيها بمساواة تامة في الحقوق والواجبات، حيث لا يكون لأحد تفضيل على أحد إلا بمقدار مؤهلاته الذاتية، وقدرته على العطاء للجماعة، مع رفض التهميش والإلغاء لأحد، أو الاستعانة بالخارج لفرض موازين قوى جديدة تسلّط فئة على أخرى.

 إن دعاة السير في هذا الخيار من المسيحيين ينطلقون من حقيقة واقعية مفادها أن مصير ووجود المسيحيين يحكمه انتماؤهم للشرق، وهم أهل هذا الشرق وليسوا ضيوفاً أو بقايا جالية صليبية فيه. كما يدرك هؤلاء أن الغرب، والأميركيين خصوصاً، لن يتخلوا عن أمن “إسرائيل”، ولا عن تفضيلهم لمصالحها، لذا قام الأميركيون بسحب “الوكالة بحماية المصالح” من المسيحيين، والتي كان الأوروبيون قد منحوها لهم في القرن التاسع عشر، ولعل الطبيعي والمنطقي أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية؛ الساعية دوماً وأبداً نحو مصالحها، بالتحالف مع الحركات الإسلامية المتطرفة، كالسلفيين في الخليج، و”الإسلاميين الجدد” في مصر، باعتبار أن هذا التحالف هو الأقدر على تحقيق مصالحها وحماية نفوذها من التحالف مع فئات من الطوائف باتت تصنَّف في خانة الأقليات.

انطلاقاً من كل هذه المعطيات، نجد أن زيارة البابا لا يمكن إلا أن تكون لإعطاء دفع للمسيحيين للسير في الخيار الثاني، وهو التشبث بأرضهم وهويتهم، والانفتاح على محيطهم العربي، ورفض التقوقع والانعزال اللذين يريد البعض أن يدفعهم إليهما، ويؤكد هذا الاعتقاد السياسة التي انتهجتها بكركي مع وصول البطريرك الراعي بعنوان شراكة ومحبة، والتي كانت بتوجيه مباشر من الفاتيكان، وبمباركة منه.

 إذاً، رسالة الحبر الأعظم من لبنان ليست للمسيحيين المشرقيين فقط، بل لمسلميه أيضاً، لمنع تهجير المسيحيين من المشرق، فالقوى الكبرى لن تدع المسلمين يحكمون أنفسهم بعد اجتثاث المسيحيين، بل سيتم استكمال المخطط بتقسيم المنطقة وفرزها على أساس مذهبي، وبإذكاء نار الفتنة بين المسلمين أنفسهم، وعندها لات ساعة مندم، فقد “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”.