في نحت المصطلح وتحرير المعنى: الأنجزة (المنظمات غير الحكومية)،

 عادل سمارة.

 

تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابتاً لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!

اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.

 

“كنعان”

* * *

(12)

الأنجزة (المنظمات غير الحكومية)

ليس هذا المصطلح في الفلسفة ولا الأدب او الاجتماع ولا الاقتصاد الإنتاجي، بل هو مصطلح سياساتي، اي في السياسة العملية وليس التخطيطية النظرية. ولعل ما يجب البدء منه حين تناول هذا المصطلح، وإن جاء في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي الذي هدف إنقاذ الإنسانية وبين المعسكر الراسمالي الذي قام على البربرية وهزم الاشتراكي إلى حين من الدهر، ورغم ان المقصود به إخفاء الوجه القبيح للراسمالية في حقبتي الإمبريالية والعولمة، إلا ان الخطر فيه انه مصطلح يخفي عكس معناه المعلن، مما يخدمه، اي هذا الإخفاء، في كونه سياسة سيئة وعدوانية وإحباطية وامتصاصية وفاشلة بقصد.

بدأت هذه المنظمات بتسمية “منظمات طوعية” ثم تحولت إلى منظمات غير حكومية. وهي إفراز دائرة رسمية في بلدان ما تسمى “المانحة” وكالة التنمية لما وراء البحار(ODA) Over Seas Development Agency. وتركزت ادبياتها على مزاعم التنمية وحقوق المراة والمهمشين واجتثاث الفقر والدمقرطة والمجتمع المدني…الخ. على ان كل هذه الشعارات لم تُخف ان هذه المنظمات هي في نهاية امرها حكومية جداً اي مرتبطة بسياسات حكوماتها. فالغرب الرأسمالي ليس اكثر من مشروع للتراكم أيَّاً كان الأسلوب والموقف والظرف، وهو حين يقدم مساعدات ما، يكون قد أجرى لها دراسات جدوى اقتصادية وثقافية وسياسية واستراتيجية بعيدة المدى للتأكد بان جدواها عالية وغير قابلة للتأثر بادنى نسبة من الحساسية السالبة.

لكن هذا ليس سوى الشق الأول، وإن كان الأساسي من مشروع الأنجزة. فالشق الآخر هو أهل مكان إجراء هذه السياسة أي تجنيد محليين لحمل مشروع الأنجزة لاختراق بلدانهم. فاختراق طروادة يشترط وجود حصان طروادة، اما الخطورة فهي في وصول هذا الاختراق إلى مرحلة وجود وتوفر إسطبل طروادة. بعض هؤلاء يعرف وبعضهم لا يعرف خطورة هذه المنظمات.

من المهم الإشارة أن هذه المنظمات غير حكومية تجاه حكومات بلدان المحيط التي تعمل فيها بمعنى أنها حكومية في البلد الأم حيث تنفذ سياسات تلك الحكومات في بلدان المحيط بينما لا تجرؤ حكومات المحيط على التحكم بهذه المنظمات الأجنبية وحتى بتوابعها المحلية، ومن هنا جوهر لا حكوميتها. ولكنها حالة من “اللاحكومية” في منتهى الخطورة. ف اللاحكومية لا تعني هنا الاستقلالية ولا تتعلق بالحرية والديمقراطية بل تتعلق بتحرر هذه المنظمات من رقابة الدولة المحلية التي يُفترض انها ترعى مصالح شعبها. وهذا يكشف عن انتقاص علني لسيادة دولة التلقي في المحيط.

لقد ظل ولا يزال هناك من يجادل بأن هذه المنظمات تقوم بأدوار مفيدة وبانها ليست مرتبطة بالمانحين وبأن نقدنا مبالغ فيه…الخ إلى أن حصل المثال التالي حيث اضطر نظام مبارك في مصر (مناورة لإرضاء الراي العام) لاعتقال رئيس مركز إبن خلدون، سعد الدين إبراهيم، ثم أُجبر على الإفراج عنه على يد الولايات المتحدة! وانتهى الجدل لدى كل ذي عقل، حينما أُذلَّت حكومة “الثورة” وبرلمان قوى الدين السياسي للإفراج عن 19 جاسوس امريكي من الأنجزة وتكريمهم بالسفر بطائرة خاصة إلى بلدهم!

لا شك أن كثيرين لا يحبون هذه المكاشفة، ولا شك ان اكثر منهم ممن يقولون كيف نعيش، وماذا نفعل؟ وفي هذا معنىً. ولكن، من يقرأ واقع هذه الظاهرة ليس لديه مكتب تشغيل، كما ان على كل ممن يعملون في هذه المنظمات أن يجيب على سؤالين:

الأول: هل بوسعه/ها التخلص من وحش الاستهلاكية الكامن في بطنه وليس في عقله؟ لأن هؤلاء أصبحوا فئة ذات دخل عالٍ نسميها فئة الدخل من العائدات غير المنظورة بما هي من عمل خدماتي لا إنتاجي وهي خدمات تتحول في اوقات ومن اشخاص ما إلى تقديم خدمات إخبارية تنحط إلى مستوى التجسس، وذلك منوط بقوة المرء من الداخل وجاهزيته لترك العمل حين يصل الأمر إلى هنا.

والثاني: هل يقوم هذا المشغَّل بالترويج لهذه المنظمات في علاقاته الاجتماعية، ام يفتح صدره للناس المقربين على الأقل بالقول: اماكن وسخة ولكن مضطرون.

ومن بين اخطر منظمات الأنجزة تلك التي تخصصت في اختيار مثقفي اليسار وخصيهم/ن ليتحولوا إلى يسار الراسمالية في حقبة العولمة. وكذلك المنظمات النسوية التي تشرح للنساء في المحيط وخاصة في فلسطين، بأن النضال القومي ليس شأن المراة لأن الرجل هو الذي يرث كل شيىء!. وكأن المرأة حين تنعزل حتى عن العمل الوطني تصبح اقوىاجتماعيا وسياسياص وثقافياً!

لقد أثبتت السنوات الأخيرة وخاصة العامين الأخيرين من الحراك والتحريك او الثورة المضادة والثورة في الوطن العربي ان للاختراق مداخل وانواعاً وبان الأنجزة هي اختراق معلن وهو أمر خبيث يعني للبعض ان علانيته تعني برائته!

بقي ان نختم بأن منظمات الأنجزة لم تفعل التنمية، وبان المراكز الثقافية الغربية تجند مخروقين/ات وبأن سفارات الغرب الراسمالي مؤسسات تىمير إلى درجة إسقاط دول، وعليه، اما آن لوعينا ان يترجل! فيقاطع هذه جميعاً طالما الحكام عبيداً لها.