ليس العنتريات: الرد بالمقاطعة والاقتصاد السياسي لحرب المسافات الطويلة،

 عادل سمارة

 

يثير الاستغراب تعاطي العرب والمسلمين مع هذا الاعتداء ذي المستوى الدنيىء أخلاقياً وحرياتياً. تعاطٍ اقتصر على الشجب والتظاهر وشتم أمريكا، والاحتجاج الشعبي وربما الرسمي من بعض الدول العربية والإسلامية، أو بكلمة انحصر في الصراخ والاستصراخ. هناك الكثير من الكتابات والشعارات ومعظمها إن لم اقل جميعها لم تتطرق إلى المستوى الاقتصادي لمواجهة هذا الحدث بل هذه السلسلة من الإهانات للعرب ثم للمسلمين وأخيراً للرسول نفسه. فليس هذا الفيلم أولها، وإن لم يتغير بالصد والرد المبرمجين فلن يكون آخرها.

من اللافت أن قطر وعلى عجلٍ من أمرها رصدت 450 مليون دولار لتمويل فيلم أو أفلام ضد هذا الفيلم المشين. وقفزة قطرية كهذه تثير الشكوك أكثر من الاطمئنان، وتزيد وجوب التدقيق في ما قيل بأن قطر منذ ثلاث سنوات كانت وراء هذا الفيلم.

وبانتظار ويكيليكس لكشف هذا، يكون السؤال: اليس في الإسلام ما يدافع به عن نفسه أمام هذه الترهات دون إنفاق هذه المبالغ والتي سوف تكسبها شركات راسمالية غربية في نهاية النهايات؟ ألا توجد مجالات لإنفاق المليارات لتنمية بل حتى لسد جوع مئات ملايين العرب والمسلمين وغيرهم؟ اليس هذا توظيف امتصاصي للمال بدل أن يتم استثماره في مشاريع المواجهة الأبعد من المدى اللحظي، اي الصراخ.

كم موقع إنتاج سلعي بديل يمكن استثمار هذا المبلغ فيها لوقف استيراد منتجات نفس البلد الذي ينتج أفلام الكراهية هذه؟ أو منتجات فرنسية حيث اخذت فرنسا بقيادة حزبها الاشتراكي راية الهجوم من الولايات المتحدة.

وحسب ما كتب جستون رايموندو[1]، فإن نيقولا باسيل نيقولا القبطي مصري الأصل والمشارك الرئيسي في هذا الفيلم هو شخص اعتقل سابقا وأدين في تزويرات مصرفية وأنه وصف نفسه للصحافة الأميركية بأنه أميركي إسرائيلي، يعمل في كاليفورنيا في العقارات، ولكن ملفه يقول انه تاجر بالمخدرات وانه مول الفيلم من تبرعات من اكثر من 100 مانح يهودي.

ومع ذلك قد لا يفيد كثيراً تأكيد من وراء هذه الفعلة، لأن المطلوب والمهم هو ما العمل بما هو خارج الصراخ والعنتريات؟

يمكن للمرء تفهم غضبة الشارع وتدفقه العفوي، وهي ليست الغضبة الأولى. إنما لماذا يتم الاكتفاء بالتهييج والأيمان الغلاظ؟ لماذا لا يتم تحليل هذا لتحويله من قوة الغضب إلى قوة التعبئة والتفكير والتخطيط للمدى الطويل. هناك جذر استثماري وانتهازي وراء الاكتفاء بالتهييج أو جذر يخفي رهبة من راس المال أو عبادة له وهو شريك في تغذية حالة الفوران التي لا تنتهي إلى شيء مثمر، إلى فشة خلق ولكن بحجم ملاييني!. أما حالات حرق المباني والمصالح فتقود في النهاية إلى دفع ثمن الواردات إلى الغرب مرتين، مرة حين بنائها ومرة حين إعادة بنائها وبكلفة أعلى لمواكبة التحديث العمراني والتجاري، وذلك من الثروة الوطنية!

ليس هذا الفيلم يتيماً وليس بلا أب وأسلاف بل ضمن مسلسل طويل عمره بالقرون. وهي قرون مقرونة بالاستعمار والاستغلال والنهب هو عدوان بدأ بولادة السوق العالمي وسقوط غرناطة والقسطنطينية ومعركة مرج دابق، عدوان مديد يفترض ردا مبرمجا وهادئا وطويل النفس. فلماذا ينحصر الرد بالفوران. وفي أرقى أحواله باللجوء إلى هيئة الأمم لاستصدار قوانين وتحريمات؟ أو اللجوء إلى جامعة الدول العربية كي تعترض. لم يبق سوى اللجوء إلى مجلس الأمن وهناك سوف يكون الفيتو الثلاثي. لماذا اللجوء إلى مؤسسات كان قد خلقها من يقفون وراء هذه الجريمة!

وإذا لم يتم التوجه لخطة عملية في الماضي، فهذا لا يبرر الاستمرار على خطى “السلف غير الصالح” في مواجهة الاختراق متعدد الوجوه للثقافة والأرض والمجتمع، اي بفورة انفعال ثم يعود كل لشأنه.

إن الدرس المستفاد من الفوران الشعبي ومن مواقف القيادات والمثقفين المعترضين على الفيلم المشين هو وجود رهبة هائلة من المساس براس المال. وهذا يعني ان الشركات هي المقدس الحقيقي. وأن عمر هذا التقديس من عمر الراسمالية من مرحلتها الميركنتيلية إلى المعولمة. وهذا التقديس محفوف برهبة في الذات القيادية لدى المثقفين والقادة الذين على موقف معاد أو متخلف من التنمية ومن الاقتصاد السياسي.

ما زال هؤلاء بعقل راس المال التجاري وليس الإنتاجي. والتاجر يحمل في خلفيته رهبة من المنتج وقرار خضوع واحترام له، ليس لأن المنتج هو مصدر ما يسوقه التاجر وحسب بل لأن التاجر يشعر بالدونية من حيث الكفاءة تجاه المنتج. من هنا، فالأمم المستورِدة تفتقر إلى الأمن القومي عبر الافتقار إلى الأمن الإنتاجي والغذائي وهذا يفتح على قبول المستعمِر إلى درجة تصل استدعائه مجدداً بعد الاستقلال.

بهذا القول أحاول فهم وتحليل لماذا تحاشى من تعاطفوا مع النبي الدعوة للمقاطعة ووقف التطبيع مع هذا الغرب الذي يشن هجمات متواصلة بصلف. وبمواصلة استيراد منتجاته فإننا نقدم له ما يمكنه من مواصلة استغلالنا ويبرر له وجوب واستسهال احتقارنا.

هل يكمن وراء هذا الخنوع عقل لا إنتاجي، لا تنموي؟ هل تكمن ورائه مصالح لمثقفين وقادة وأحزاب وأنظمة في الابتعاد عن الإنتاج واعتماد الاستيراد؟ هل نحن أمام قوى كمبرادورية ناعمة مغطاة بالدين ولكنها مرتبطة مصلحياً بالشركات الغربية التي تنتج لنا كل ما نأكل ونلبس ونشرب؟

وحتى لو كان الأمر هكذا، اي لو كنا لا نريد الإنتاج، أو لا نستطيع الإنتاج، فهناك بدائل من السلع من أمم لا تحتقرنا، بل تطلب صداقتنا! فأين يكمن السر إذن؟ لماذا للغرب كل هذه السطوة؟ ولدى قياداتنا ومثقفين كل هذه الدونية؟

أليس من المنطقي ربط هذا التهرب من رفع شعار المقاطعة ومناهضة التطبيع مع شركات الدول التي مارست وتمارس إهانة الأمة العربية والمسلمين منذ عقود، ربط هذا التهرب بما تقوم به معظم الأنظمة العربية من تفكيك لمؤسسة المقاطعة العربية للشركات المتعاطية مع الكيان الصهيوني.

ألا يدرك المثقف والحزبي العربي والإسلامي أن ظاهرة الإمبريالية هي في الأساس اقتصادية مرتبطة بالاعتداء على اسواق المستعمرات وعلى ثرواتها؟ هل حقا لا يعرف العرب أن نفطهم واسواقهم هي السبب الأساس لوجود الغرب الاستعماري في الوطن العربي؟ ألا يدركون أن الغرب الاستعماري يمول حروبه عبر تاريخ من الاختراقات العسكرية والثقافية وفي النهاية الاقتصادية؟ فلماذا المجاهرة بالخطابات والشحن اللغوي دون المساس بالاقتصاد؟

ليست النفط والأسواق كلمات مجردة او مجرد اشياء، هي في التحليل الأخير شركات ووراء الشركات طبقات لها مصالح. فماذا تفعل شركة سجائر مالبورو مثلا إذا قرر مثلا 100 مليون شخص مقاطعة منتجاتها. لو افترضنا علبة في اليوم لكل مدخن وكل علبة ب 4 دولارات: اي 400 مليون دولار خسارة عن توقف ليوم واحد. وهذه سلعة من عشرات آلاف السلع. هذا أحد اشكال الاختراق والحضور الغربي الراسمالي في الوطن العربي بل في العالم.

المعادلة دون مواربة هي إما أن تُتِج وإما أن تُغزى بل ان تستدعي الغزو. وكل من يرفض فهم هذا فهو في حالة من التواطؤ المصلحي او الثقافي أو التواطؤ بالتخلف والجهل أو حتى أعمق من هذا كله.

الا يفهم المستهلك العربي القاعدة الاقتصادية الراسمالية التي تقول: “حرية المستهلك في الاختيار”؟ فطالما أنكم مستوردون، فعلى الأقل عاقبوا الغرب بعدم الشراء منه.

هي بضعة ايام تمكنت فيها الإمبريالية من امتصاص الأزمة وبدء الهجوم المضاد، فالولايات المتحدة لم تعتذر، بل تلقت تطمينات من النظام المصري ليس بالحفاظ على مصالحها، وهذا أمر طبيعي، بل باستقبال العسكر الأميركي للإشراف على تدمير الأنفاق إلى غزة، وتمشيط الوجود العسكري المصري في سيناء وهذه امور كان يتورع نظام مبارك عن التبرع الفوري والسهل بها. هل هي عقلانية إسلامية؟. أما فرنسا، فتلقت التطمينات على كل مصالحها، وبدأت بالهجوم الذي يبرر للإعلام الفرنسي متابعة ما قام به الأميركي.

أما على المستوى الشعبي في الغرب، موطن المجتمع المدني، فلم نر بالطبع نقداً لهذا الفيلم ولا بالطبع نقداً للأسر الحاكمة في الخليج والتي تحكم باسم الإسلام. ويبدو أن هذا هو الإسلام الذي يريده الغرب وليس الإسلام العربي.

لا يفيد كثيرا أن نعرف من وراء هذه الجريمة: هل هي الصهيونية أم النخبة الإعلامية في الغرب الرأسمالي أم قطر. فجميع هؤلاء وغيرهم يمارسون العدوان. ما يفيد هو تعبئة ومتابعة لحرب مقاطعة منتجات الغرب حرب أنفاس طويلة ومسافات طويلة، وهي من ألفها إلى يائها مشروع تنمية بالحماية الشعبية. وهذا يفتح على الدرس الأساس، بأن: لن يقف جذرياً ضد هذه الهجمة سوى قوى عروبية اشتراكية معركتها مع التبعية وراس المال والكمبرادور. فأن تكون من المقاومة ومن الممانعة، فهذا ليس شرطاً أن تكون ضد راس المال.

Pepsi, Osama bin Laden photo and AQ flag all in one, only in Egypt.

pic.twitter.com/DXhhAkI0