مصر والمساعدات والسياسة الخارجية غير المتضحة،

 عبداللطيف مهنا

 

أكد لنا لنا تاريخ الصراع العربي الصهيوني على جملةٍ من حقائقة الجلية التي لم يعد من لبسٍ حولها. واحدة منها كون السياسة الأميركية المتعلقة بهذا الصراع، ومن الفها الى يائها، هى صهيونية بامتياز. هنا قد يستحضر البعض المصالح الأميركية في المنطقة والإشارة إلى منطق يقول بأن مثل هذه السياسة قد لاتتفق معها بل وضارة بها. الأمريكان، أو أغلبهم، لايتفقون مع هذا الرأي، أولاً، لأنه، حتى الآن، ليس ثمة تهديداتٍ جديةٍ لهذه المصالح من شأنها أن تقلقهم، وثانياً، لأن الكيان الصهيوني يعد عندهم جزءاً لا يتجزأ من هذه المصالح، بل جانب أصيل من جوانب إستثماراتها. هذا يعني أن وجود هذا الكيان واستمراريته وقوته وعدوانيته مسألة تندرج في سياق الإستراتيجية الأميركية في هذا الجزء من العالم ولا تخرج عنها، ويعني أن العلاقة بين هذا المركز الأميركي وثكنته المتقدمة هذه هى من طبيعة عضوية، حيث نرى أن إلتزام كافة الإدارات الأميركية المتعاقبة، على إختلاف مسمياتها جمهورية أم ديموقراطية، ومن كافة الأوجه السياسية والمادية، بالكيان الصهيوني يعد مسألةً داخليةً أميركية لا نقاش حولها، ماخلا المعتاد من المزايدات لصالح هذا الإلتزام، كالذي نشهده دورياً في بازارات المواسم الإنتخابية.

هذه الحقيقة على وضوحها يصر الأمريكان وصهاينتهم قولاً وعملاً على تذكيرنا بها صباح مساء، رغم أنها تعد الأوضح في الوعي الجمعي الشعبي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، والذي راكمت مخزونه الفائض عقود مريرة اتسمت بمحطاتٍ عدوانيةٍ أميركيةٍ بشعةٍ، يضاف إليها مستمر التبني الأميركي للعدوانية الصهيونية المستمرة ورعايتها… فلسطين، العراق، لبنان، أفغانستان، الباكستان، الصومال، والسودان… لذا لم يكن تفجُّر ردة الفعل الشعبية ألأخيرة على الإساءة الأميركية لنبي الأمة ورسولها الأعظم يقتصر على مثل هذا الحدث المقيت المستفز بعينه فحسب، وإنما لكونه كان بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس الممتلىء حتى الثمالة، وكانت أقرب إلى التعبير التلقائي الكاشف عن مدى قبح الصورة الأميركية في الوجدانين الشعبيين العربي والإسلامي.

ما تقدم لم يكن يوماً من الأيام بخافٍ على النخب الحاكمة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وبغض النظر عن طبيعتها ومواقعها واصطفافاتها أومدى تبعيتها، ومنها أولئك الحاكمين الجدد في مرحلة مابعد الحراك الشعبي العربي، ومع هذا، كادوا إن يبدوا جميعاً، المحدث منهم والمزمن، شبه متساوين في أن يظلوا ابعد ما يكونون عن ما اعتمل ويعتمل في وجدان شعوبهم لجهة مواقفهم من معنى هذه الإسائة الأميركية المشينة، المواقف التي إتسمت بالهزال، أو الصمت، أوالإرتباك، وما لايستطيعون إخفائه من الحرج.

الأمريكان لايمزحون فيما يتعلق بمصالحهم ولا يلقون بالاً إلا لما يتهددها فعلاً، كما لا يخفون معاييرهم الصهيونية لسياساتهم في المنطقة، ولا يحترمون إلا من يتصدى لها. ولنأخذ مثالاً على ضوء الإساءة الأميركية الأخيرة وردود الأفعال عليها، وليكن العلاقة الأميركية مع مصر. أولاً، لأهمية مصر وموقعها ومكانتها ودورها المفترضين في أمتها وجوارها الإسلامي والأفريقي، وثانياً، بالنظر إلى العلاقة غير المتضحة بين مصر مابعد 25 يناير والولايات المتحدة وكيانها الصهيوني في فلسطين المحتلة، أو غير المختلفة حتى الآن عنها في عهد مبارك.

لم يعجب الأمريكان الموقف الرسمي المصري، ومعالجته للمظاهرات التي حاصرت سفارتهم في القاهرة، والتي حمتها وأدت الى إستشهاد متظاهرين وجرح العشرات، ووصفوا هذه المعالجة بالرد “المتراخي”. حذَّر أوباما مصر بعبارةٍ تكشف عن مغزاها : إن مصر”ليست حليفاً ولا عدواً”. وأستلت واشنطن سيف المساعدات وشهرته في وجه القاهرة وضائقتها الإقتصادية، ولنأخذ مثلين :

الأول، ما نقلته “واشنطن بوست” عن مسؤولين أميركيين من أن التظاهرات ضد سفارتهم في القاهرة قد “أدت إلى وقف مفاوضات تزويد مصر بمساعداتٍ إقتصاديةٍ أميركيةٍ مهمةٍ”، عددوها : خفض مليار دولارمن الدين، وتسريع مساعدات أخرى بالملايين، وربطوا عودة هذه المفاوضات بحصول الإنتخابات. وعطفاً على هذا، تأتي الإشارة منا إلى ما عبَّرت عنه مصادر الكونغرس معقبةً على الحدث بقولها : “إن مسار الأحداث في الأسبوعين المقبلين سيحدد مصير المساعدات الأميركية في المدى البعيد”.

الثاني، تقرير لمعهد “هريتاج” يؤكد فيه بدايةً أن المساعدات الخارجية لدول منطقتنا تحديداً هي “أداة للنهوض بالمصالح القومية الأميركية لا برنامجاًعالمياً للمساعدات الإجتماعية”، وعليه، يوصي التقريربمراجعة لفعالية هذا السلاح على ضوء الأحداث الأخيرة والرد رسمياً عليها، ومن ذلك، إشتراط الكونغرس لمواصلة هذه المساعدات إلتزام مصر بما يلي: تأمين الحماية الكاملة للمواطنين الأميركيين وممتلكاتهم،والإحترام الكامل لمعاهدة “كامب ديفد”، ووقف نشر القوات في سيناء دون موافقة صهيونية مسبقة، والتعاون في محاربة “القاعدة” و” المنظمات الإرهابية”، والبدء في تطبيق سياسات حقوق مواطنيها… إلى أن يشترط التقرير على الرئيس المصري ” التصرف كحليف للحصول على المال الأميركي، إذ لا يحصل على المساعدات إلا من يستحقها” !!!