“كنعان” تنشر كتاب “إعترافات قاتل إقتصادي”

 تأليف جون بيركنز وترجمة بسام ابو غزالة.

 

الفصل الرابع عشر

وُلوجُ حقبةٍ جديدةٍ شِرِّيرةٍ

من التاريخ الاقتصاديّ

باعتباري كبيرَ الاقتصاديين، لم يقتصرْ عملي على رئاسة دائرة في شركة مين وعلى مسؤوليتي عن الدراسات التي كنا نحملها حول العالم، بل كان متوقعاً مني أيضاً أنْ أكون قادراً على الكلام عن الاتجاهات والنظريات الاقتصادية الجارية. وبداياتُ سبعينات القرن العشرين كانت زمنََ تحوّل كبيرٍ في الاقتصاد العالمي.

خلال ستينات القرن العشرين أنشأت مجموعةٌ من الدول المنتجة للنفط اتحادا يجمعها أطلقت عليه اسم “منظمة الدول المصدِّرة للنفط” (أُوبك)، كردٍّ على قوة شركات مصافي النفط. كانت إيران أيضاً ذات يدٍ طولى. وبالرغم من أنّ الشاه يدين في وضعه وربما في حياته لتدخل الولايات المتحدة السريِّ أيامَ الصراع مع مصدَّق – أو ربما بسبب هذه الحقيقة – فقد كان يعلمُ يقيناً أن الطاولة يُمكن أن تنقلب عليه في أي وقت. وكان رؤساءُ الدول الأخرى الغنية بالنفط يُشاركونه في هذا اليقين وفي ما يرافقه من هاجس الريبة. كذلك كانوا يعلمون أن شركات النفط العالمية الكبرى، المعروفة باسم “الأخوات السبع”، كانت تتعاون للمحافظة على أسعار متدنيةٍ للنفط – وما يتبع ذلك من عائداتٍ متدنيةٍ للدول المنتجة – كوسيلةٍ لجني مكاسبهم النازلةِ عليهم. وهكذا قامت أُوبك بدافع الدفاع.

بلغ الأمرُ ذروتَه في وقت مبكر من سبعينات القرن العشرين حين أركعت أوبك عمالقة الصناعة. وفي سلسلة من الأعمال المُنسقة، التي انتهت بحظر تصدير النفط الذي عكسته طوابير الانتظار الطويلة أمام محطات البنزين الأمريكية، هدد الوضعُ بإحداث كارثة اقتصادية تنافس الركود الاقتصاديّ الأكبر [عام 1929]. لقد كانت صدمةً في الصميم لاقتصاد العالم المتطور، وذاتَ حجم لم يستطعْ البدءَ في فهمه إلا القلةُ من الناس.

جاءت أزمة النفط هذه في أسوأ وقتٍ بالنسبة إلى الولايات المتحدة. فقد كانت هذه الدولةُ مرتبكةً ومفعمةً بالخوف والشك بالنفس، وتتلوّى من أثر حربٍ مُذلَّةٍ في فيتنام، ورئيسُها على شفا الاستقالة. لم تقتصرْ مشاكلُ نِكسُنْ على جنوب شرق آسيا وفضيحة ووترغيت. فقد ظهر على المسرح في حقبة تُعتَبَرُ، بالنظر إليها لاحقاً، عَتَبَةً إلى عصر جديد في الاقتصاد والسياسة العالميين. وفي تلك الأيام بدا أن “الأولاد الصغار”، ومنهم دول أوبك،  كانوا المسيطرين.

كنتُ مشدوها بالأحداث العالمية. صحيحٌ أنّ قوتَ يومي كان من لدن سلطة الشركات، بيد أنّ جانبا مختبئاً في نفسي كان يستمتع برؤية أسيادي يوضعون في مكانهم المناسب. أظنه كان يُخفف قليلاً من شعوري بالذنب. كنتُ أرى طيفَ طومس بين يقف على جانب الطريق ليحيي أوبك.

ما من أحدٍ منا كان يُدركُ الأثرَ الكاملَ للحظر يوم وقوعه. صحيحٌ أنه كانت لدينا نظرياتنا؛ لكننا لم نستطع فهمَ ما أصبح واضحاً منذ ذلك الحين. ففي النظر إلى الخلف نعلم أنّ معدلات النموّ الاقتصاديِّ بعد أزمة النفط كانت حوالي نصف ما كان سائداً في خمسينات وستينات القرن العشرين، وأنها حدثت أمام ضغطٍ تضخميٍّ أكبر بكثير. أما النموُّ الذي حدث فكان ذا هيكل مختلف، ولم يخلقْ عددَ الوظائف نفسَه؛ لذلك تضخمت البطالة. وزيادة على كل هذا، تلقى النظامُ النقديُّ العالميُّ ضربةً أيضا، إذ انهارت جوهرياً شبكة معدلات صرف العملة الثابتة التي كانت سائدةً منذ الحرب العالمية الثانية.

في ذلك الوقت، كنتُ كثيراً ما أجتمع ببعض الأصدقاء لبحث هذه الأمور على الغداء أو على كأس من الجعة بعد العمل. كان بعضُهم يعمل تحت إدارتي – كان الموظفون الذي أرأسُهم، من رجالٍ ونساءٍ معظمُهم من الشباب، على درجة عالية من الفطنةِ، ومتحررين في تفكيرهم، بالقياس التقليدي على الأقل. وكان بعضُهم الآخرُ مدراءَ يُشاركون في قدح الفكر في بوسطن، أو أساتذةً في الجامعات المحلية، بينما كان أحدُهم مساعداً لأحد أعضاء الكنغرس في الولاية. كانت اجتماعاتنا غيرَ رسمية، بعضُها من مُشاركَيْنِ اثنين، وبعضُها من اثني عشر مشاركا. وكانت الجلساتُ دائماً حيويةً صاخبة.

أشعر بالحرج حين أستعيدُ النظر في تلك المناقشات بسبب شعور الاستعلاء الذي كان غالباً ما يُلازمني. فقد كنتُ أعرفُ ما لم يكن في مقدوري الإفصاحُ عنه. كان أصدقائي يتباهَوْن أحيانا بمؤهلاتهم – مثل علاقاتهم في بيكُن هِل أو في واشنطن، أو بأستاذيتهم وشهادات الدكتوراه التي يحملونها – وكنتُ أُعلِّقُ بصفتي كبير الاقتصاديين في شركة استشاراتٍ كبرى يُسافر حول العالم على الدرجة الأولى. على أني لم أستطع أن أطرح للبحث اجتماعاتي الخاصة برجال في مستوى توريجُس، أو ما أعرفه من طرق التلاعب التي كنا نتَّبعُها مع الدول في كلِّ قارّةٍ من قارّات العالم. كان هذا مصدراً للغطرسة وللإحباط معا في داخلي.

حين كنا نتحدث عن قوة الأولاد الصغار، كنتُ مجبَراً على ممارسة قدر كبير من التحفظ. كنتُ أعلمُ أنْ ما من أحدٍ منهم يعرفُ أنّ سلطة الشركات وعصابتَها من القتلة الاقتصاديين والواويّات المنتظرة في الخلف لا يُمكنُ أنْ يسمحوا للأولاد الصغار أن يُسيطروا. لم يكنْ لديّ من مَثَلٍ إلا مَثَلَيْ آرْبِنْز ومُصدّق – والأحدث منهما ما قامت به وكالةُ الاستخبار المركزية عام 1973 للإطاحة برئيس تشيلي المنتَخَبِ ديمقراطياً، سلفادور ألِندي. والواقع أنني كنتُ أعلمُ أن القبضة الخانقة للإمبراطورية العالمية كانت تتزايدُ قوّةً، بالرغم من وجود أوبك – أو، حسب ما ظننتُ يومها ولم يتأكّدْ ظني إلا لاحقاً، بمساعدة أوبك.

كانت مناقشاتُنا تتركّزُ غالباً على وجوه التشابه بين بدايات سبعينات القرن العشرين وثلاثيناته. فقد مثَّلَ الأخيرُ حداً فاصلاً في الاقتصاد العالمي وفي طريقة دراسته وتحليله وفهمه. وقد فتح ذلك العقدُ البابَ للاقتصاد الكِنزي وللفكرة القائلة إن على الحكومة أن تقوم بدور أساسيٍّ في إدارة الأسواق وتقديم الخدمات، كالصحة، والتعويض عن البطالة، وغيرها من أشكال الرفاه الاجتماعي. كنا نبتعد عن الافتراضات القديمة القائلة إن الأسواق تنظم نفسها بنفسها وإن تدخل الدولة يجب أن يكون في الحد الأدنى.

أنتج الركودُ الكبيرُ “الصفقة الجديدة” والسياساتِ التي حثت على التنظيم الاقتصادي، وعلى المعالجة المالية الحكومية، وعلى التطبيق الواسع للسياسة المالية. أضفْ إلى ذلك أن الركود والحرب العالمية الثانية أدّيا إلى إيجاد منظمات كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والاتفاقية العامة للتسعير والتجارة (الغات). وكان عقدُ ستينات القرن العشرين عقدا محوريا في هذه الفترة الزمنية وفي الانتقال من الاقتصاد التقليدي الجديد إلى الاقتصاد الكِنزي. وقد حدث ذلك في أثناء رئاسة كَنَدي وجونسُن، ولعلّ رجلاً واحداً، هو روبرت مكنمارا، كان صاحب التأثير الأهم.

كان مكنمارا زائرا دائما لمجموعتنا النقاشية، بدون حضوره الجسدي طبعا. كنا نعلم عن صعوده السريع إلى الشهرة، من مدير للتخطيط والتحليل المالي في شركة فورد للسيارات عام 1949، إلى رئيس لشركة فورد عام 1960، حيث كان أول رئيس للشركة من خارج أسرة فورد. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، عينه كَنَدي وزيراً للدفاع.

أصبح مكنمارا مدافعاً قوياً عن النظرية الكِنزية في الحكم. وقد استخدم النماذج الرياضية والوسائل الإحصائية في تقرير مستويات الفرق العسكرية، وتخصيص الأموال، والمخططات الأخرى في فيتنام. أما دفاعُه عن “القيادة المقدامة”، فقد غدت سمةً مميَّزةً لا تقتصرُ على المدراء الحكوميين وحدهم، بل تشملُ المدراء التنفيذيين لدى الشركات. لقد وضعت هذه الفكرةُ أسس اجتهادٍ فلسفيٍّ جديد لتعليم الإدارة في أعظم مدارس إدارة الأعمال في البلاد. وفي نهاية المطاف أنتجت سلالةً جديدةً من المدراء العامين الذين كانوا الروادَ الأوائل في الاندفاع صوب الإمبراطورية العالمية.[i]

وإذ كنا نجلسُ حول المائدة نناقشُ أحداثَ العالم، كان يسحرنا دور مكنمارا كرئيس للبنك الدولي، وهي وظيفةٌ قَبِلَها بُعيْد ترك منصبِه كوزير للدفاع. وقد ركّز معظمُ أصدقائي على حقيقة أنه كان نموذجاً لما عُرفَ شعبيا بالمُجمَّع الصناعي العسكري. كان يشغل المنصب الأعلى في شركة كبرى، ثم في مجلس الوزراء، والآن في أقوى مصرفٍ في العالم. كان مثلُ هذا الخرق الظاهر لتباعد السلطات يُرعب الكثرة منهم؛ ولعلي كنتُ الوحيدَ الذي لم يُفاجأ مطلقاً.

أرى اليوم أنّ أعظم ما قدّمه روبرت مكنمارا للتاريخ وأشدّه شراً أنه قاد البنكَ الدوليَّ ليُصبح أداةً للإمبراطورية العالمية على مستوىً لم يُشهدْ من قبلُ قط، واضعاً بذلك سابقة. أما قدرتُه على جَسر الفجوات بين المكوِّنات الأولية لسلطة الشركات، فقد أدّاها خلفاؤه بدقة. من ذلك، مثلا، أن جورج شُلتْز كان وزيراً للمالية ورئيساً لمجلس السياسة الاقتصادية تحت إدارة نِكسُن، وخدم كرئيس لشركة بِكْتِل، ثم أصبح وزيرا للخارجية في عهد ريغَن. أما كاسبر واينبيرغر، فكان نائباً للرئيس ومستشاراً عاما لشركة بِكتِل، ثم أصبح وزيراً للدفاع في عهد ريغَن. وكان رِتشارد هِلمْز مدير وكالة الاستخبار المركزية في عهد جونسُن، ثم أصبح سفيراً في إيران في عهد نِكسُن. وخدم رِتشارد تشيني وزيراً للدفاع تحت إدارة جورج بوش الأب، ورئيساً لشركة هَلِيبيرتُن، ثم نائباً للرئيس جورج بوش الابن. حتى رئيسُ الولايات المتحدة، جورج بوش الأب، قد بدأ كمؤسس لشركة زَباتا للنفط، وخدم سفيراً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة في عهدي نِكسُن وفورد، ثم أصبح مديراً لوكالة الاستخبار المركزية في عهد فورد.

وإذ أستذكر الماضي، تُدهشني براءةُ تلك الأيام. في مناحيَ كثيرةٍٍ، كنا لا نزال مأخوذين بالوسائل القديمة لبناء الإمبراطورية. وقد أرانا كيرمت روزفلت طريقةً أفضل حين أطاح بديمقراطيٍّ إيرانيٍّ وأحلَّ محِلَّه ملكاً مستبدا. أما نحن القتلةَ الاقتصاديين، فقد كنا نُحقق الكثرة من أهدافنا في أماكن كإندونيسيا والإكوادور. ومع ذلك كانت فيتنام مثلاً مُذهلاً في قدرتنا على الانزلاق بسهولةٍ إلى الأشكال القديمة.

يقتضي الأمرُ عضوا قياديا في أوبك، أعني العربية السعودية، لتغييره.