“كنعان” تنشر كتاب “تحوُّل فنزولا إلى اشتراكية القرن الحادي والعشرين”

 تأليف غريغوري وِلْبيرت وترجمة بسام شفيق ابو غزالة.

 

بقية الفصل الخامس

 

السياسة الخارجية:

أمريكا اللاتينية، كوبا، كولمبيا، الولايات المتحدة، العالم المتعدد الأقطاب

 

بوش وتشافيز 2: تمويل المعارضة

بالرغم من تزايد التوتر بين الولايات المتحدة وفنزولا بالتدريج، لم يكن تشافيز يعبر عن سخطه على إدارة بوش كثيرا. بل إنه لم يفعل حتى العام 2004 حين هاجم تشافيز بوش لفظياً بأنه أخطر زعيم سياسي في العالم، يحاول الحفاظ على “الإمبراطورية” الأمريكية.

بالرغم من ضعف معارضة تشافيز لدى بوش حتى ذلك الحين، كانت إدارة بوش نشيطة في عملها من وراء ستار على تدمير تشافيز منذ العام 2000. أما مدى ما بلغته تلك الجهود، فلا يزال غير معروف تماماً، لكن كثرة من الوثائق ظهرت ودلّت على أنها، على مستوى التمويل على الأقل، كانت أكثر بكثير مما ظنت الناس.([i]) فبين العامين 2000 و2001، ازداد تمويل الحكومة الأمريكية لمجموعات المعارضة الفنزولية أربعة أضعاف، من 232,831 دولاراً إلى 877,535 دولاراً. ثم زادت أربعة أضعاف مرة أخرى في السنة التالية، من 877,535 دولاراً عام 2001 إلى 3.9 مليون دولار عام 2002. ثم بلغت المعونة المالية عام 2003 أقصى ذروتها بمبلغ 10 ملايين دولار – وهي زيادة بعامل الضرب 2.5 مقارنة بالسنة السابقة.([ii]) أما إجمالي ما قدمته الحكومة الأمريكية من 2002 إلى 2005، فكان 26 مليون دولار للمنظمات غير الحكومية في فنزولا،([iii]) مع ما لا يقل عن 9 ملايين دولار كانت على الطريق لسنة 2006.([iv]) وأما مقدار ما أعطي مباشرة وتحديداً لمجموعات المعارضة وأنشطتها، فغير معروف، لأن حكومة الولايات المتحدة ترفض إفشاء أسماء معظم المجموعات المستفيدة.

تضخ جميع هذه الأموال عبر “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” (NED) و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” (USAID). “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية”، التى أُسست عام 1983، هي رسميا وقف غير حكومي، تتلقى جميع أموالها من الكنغرس الأمريكي. ويُفترَضُ فيها تمويلُ مشاريع المجتمع المدني التي تساعد في تعزيز الديمقراطية في مختلف دول العالم. لكن هذه “المنحة الوطنية” لم يشتدَّ عودُها حقيقةً حتى حدثت انتخابات 1990 في نيكاراغوا، يوم منحت 10 ملايين دولار لمجموعات المعارضة في تلك البلاد لكي تهزم الساندانِستيين.([v]) وتذهب معظم أموال “المنحة الوطنية” هذه أولا إلى واحدة من أربع منظمات توزع المال بدورها على المجموعات المحلية: “المعهد الجمهوري الدولي”، الذي يديره الحزب الجمهوري، و”المعهد الديمقراطي الوطني”، الذي يديره الحزب الديمقراطي، و”مركز المشاريع الخاصة الدولي”، الذي تسيطر عليه الغرفة التجارية الأمريكية، و”المركز الأمريكي للتضامن العمالي الدولي”، الذي يديره “الاتحاد الأمريكي للعمل-مؤتمر المنظمات الصناعية”.

الممول الثاني الرئيسي هي “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، التي لم يكن يُقصد منها في الأصل تمويل أعمال منظمات المجتمع المدني السياسية، بل تمويل مشاريع التنمية التقليدية في العالم الثالث، كبناء الجسور، والمدارس، والمستشفيات. بيد أنها، بُعيد تأسيسها عام 1961، بدأت في تمويل المنظمات السياسية، وغالباً عبر “المعهد الأمريكي للتنمية العمالية الحرة” الذي يديره “الاتحاد الأمريكي للعمل-مؤتمر المنظمات الصناعية”، الذي كان يومئذٍ تحت سيطرة وكالة الاستخبار المركزية بشكل رئيسي.([vi])

أموال “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية”، المعروفة أكثر بأنها أموال “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، تتدفق ولا تزال إلى تشكيلة واسعة من مجموعات المجتمع المدني في فنزولا، بما فيها الأحزاب السياسية، كحزب “العدالة أولا”، و”اتحاد عمال فنزولا”، و”اتحاد التعليم” – وهو مجموعة معارضة تتحرك ضد سياسات الحكومة التعليمية – والعديد من مجموعات أخرى منوعة. طويلة جداً قائمة هذه المجموعات وأغلب الظنّ أن بعضها واجهة لتوزيع المال لمقاصد سياسية أكثر صراحة، لأنها غير معروفة كثيراً في فنزولا.

توزع “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” أموالها من خلال شركة تسمى “شركة البدائل التنموية”. لذلك تكون تلك الأموال مستورة عن عيون العامة. وفي المعلومات المتاحة للجمهور حول أنشطة شركة البدائل التنموية في فنزولا، نشرت الشركة في موقعها على الشبكة حول برنامجها ما يلي: “هذا المشروع يدعم المؤسسات الديمقراطية ويعمل على تخفيف التوترات الاجتماعية ويحافظ على التوازن الديمقراطي. وتدعم المنح المشاريع التي تؤكد على تخفيف النزاع، والتعليم المدني، وبناء الثقة، والحوار، والجهود المبذولة لجمع الناس حول أهداف مشتركة لمستقبل فنزولا.”([vii]) ومعظم مشاريع شركة البدائل التنموية في أمريكا اللاتينية من نوع المشاريع التنموية التقليدية، أو أنها مصممة للترويج لإصلاحات السوق. لكن مشاريع فنزولا تبدو الوحيدة التي تستهدف بوضوح المؤسسات السياسية في البلاد.

“شركة البدائل التنموية” و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” توقعان عقوداً لإنشاء “مكاتب خيارات التحول”، التي يُقصَد منها رسمياً مساعدة الدول إما لإتقان التحول إلى الديمقراطية أو للحيلولة دون ابتعادها عن الديمقراطية. ومن المثير للفضول أن موقع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على الشبكة، حيث تنشر الوكالة جميع مشاريعها حول العالم، تنشر بشكل ظاهر أيضاً أسماء جميع دول العالم تقريباً، باستثناء فنزولا، حيث تختبئ المعلومات عنها بعيدا داخل الموقع.([viii])

في البداية، كان يُفترض في “مكتب خيارات التحول” في فنزولا، الذي يعمل خارج السفارة الأمريكية، أن يكون مشروعاً لسنتين، من آب 2002 إلى آب 2004. بيد أن مشروع هذا المكتب مُدِّد في فنزولا إلى ما لا نهاية عقب الاستفتاء على عزل الرئيس في آب 2004، الذي فاز فيه تشافيز. يذكر أول عقد للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مع شركة البدائل التنموية لإنشاء مكتب مبادرات التحول أن مجموع تمويل هذا المشروع للسنتين الأُوليين كان 10 ملايين دولار. وقد خصصت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 5 ملايين دولار أخرى لمكتب مبادرات التحول في فنزولا للعام 2005.([ix]) أما سيطرة السفارة الأمريكية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على شركة البدائل التنموية ومكتب مبادرات التحول فكامل تقريبا. وحسب العقد ما بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وشركة البدائل التنموية، تُعين الوكالة المذكورة جميع الموظفين الكبار وتراقب عمل الشركة بدقة. أما ما يفعله كل من مكتب مبادرات التحول وشركة البدائل التنموية في فنزولا، فمن الصعب معرفته. وتطالب [إيفا] غولِنْغر و[جِرَمي] بِغْوُد، بموجب قانون حرية الحصول على المعلومات، بعدد لا يُحصَى من الوثائق غير المعلن عنها، لكن الحكومة الأمريكية عتمت على جميع أسماء المنظمات تقريباً (لحمايتها من الملاحقة القضائية، كما يُفترَض). أما من تلقى هذه الأموال، فلا يمكن معرفته إلا استنتاجا. مع هذا، هناك ثلاثة مشروعات بارزة: حملة إعلانات في أثناء إضراب صناعة النفط، ومنظمة “يداً بيد” (Súmate)، ووضع برنامج سياسي للمعارضة.

من بين المشاريع الأكثر ريبةً كانت الحملة عبر وسائل الإعلام التي مولتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وشركة البدائل التنموية، والتي كلفت 10 آلاف دولار تقريبا في أثناء إضراب صناعة النفط (تقول الاتفاقية 12/9/02 إلى 7/2/03، أي بعد بدء الإضراب ببضعة أيام حتى ما بعد انتهائه ببضعة أيام). يقول وصف المنحة إنها لأجل “حوار اجتماعي وتشكيل المواطن، استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية للترويج لقيم المجتمع الحديث والديمقراطي والانسلاخ عن أنماط الأبوية والشعبوية … خلق إعلانات للإذاعة والتلفزة … بالتعاون مع كارلُس فيرنَنْدِز.”([x]) في هذه الأثناء لم يكن ممكنا رؤية أية دعاية تتماشى مع هذا الوصف. لكن عددا لا يحصى من الدعايات المتلفزة كان يمكن رؤيتها تُروِّج للإضراب الوطني وتُشيطن حكومة تشافيز. لما كان كارلُس فيرنَنْدِز، رئيس غرف التجارة الاتحادية يومئذ، أحد زعماء الإضراب الرئيسيين، يمكن الافتراض بأن المال ذهب إلى إعلانات “التنسيق الديمقراطي” وليس إلى وصف المنحة المزعوم. ومن المؤكد أن 10 ملايين دولار لا يمكن أن تكفي بالنسبة لعدد الدعايات المتلفزة، إن كان على “التنسيق الديمقراطي” أن تدفعها. لكنه كان معلوماً للناس أنه لم يكن يتوجب عليها دفع ثمن البثّ المتلفز لأن محطات التلفزة الرئيسية في البلاد تبرعت ببث الإعلانات مجانا. والأصح أن المال استعمل لإنتاج هذه الإعلانات.

تمويل المنظمة غير الحكومية، “يداً بيد”، لفت الأنظار حين اكتُشف أنها تلقت 53 ألف دولار من “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” و84,840 دولارا أخرى من “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.” وقد كانت “يداً بيد” المنظمة الرئيسية وراء الجهد المبذول في شباط 2003 لتنظيم عريضة الاستفتاء الاستشارية التي طالبت باستقالة تشافيز، ووراء عريضة كانون الأول 2003 للاستفتاء على إلغاء الرئاسة، ووراء استفتاء 15 آب 2004 على إلغاء الرئاسة. وحسب وثائق المنحة، كان المفروض أن تتلقى “يداً بيد” هذه الأموال لأجل “التثقيف الانتخابي”، الذي بموجبه تنتج مواد انتخابية و”تعزز شبكتها الوطنية من المتطوعين.” وبالرغم من أنه كان واضحاً لكل من يعرف فنزولا أنها منظمة مكرَّسة لإزاحة تشافيز عن الرئاسة بالوسائل الانتخابية، حافظت المنظمة نفسها دائماً على واجهة محايدة غير منحازة. وحين أصبح معلوما للناس، في أوائل عام 2004، أن “يداً بيد” تلقت تمويلاً من الحكومة الأمريكية، قرر النائب العام التحقيق في ما إذا كانت “يداً بيد” قد انتهكت قانون فنزولا الانتخابي. وقد قُدِّم إلى القضاء مديرا هذه المنظمة، ماريا كورينا وأليخانْدرو بْلاز، من قبل المدعي الوطني لويزا أُرْتيغا دياز في أيار من تلك السنة.([xi])

على الفور، حاولت “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” رأب الصدع، فأرسلت رئيسها كارل غْرِشْمان، في 8 تشرين الثاني 2004، إلى فنزولا ليقابل الرئيس لإقناعه بإسقاط القضية ضد “يداً بيد”. لكن تشافيز لم يقابل غْرِشْمان، فاكتفى هذا الرجل بمقابلة رئيس المحكمة العليا، إفان رِنْكُن، والنائب العام، إسياس رُدْريغز. وفي اجتماعه مع رِنْكُن، هدد غْرِشْمان بأنه إن لم تُسحَب القضية ضد مديرَيْ “يداً بيد”، فسيعمل على أن يوقف البنك الدولي تمويله لبرنامج الإصلاح القضائي. وإذ رفض رِنْكُن التدخل، قطع البنك الدولي تمويل المشروع. كذلك لم يكن اجتماع غْرِشْمان بالنائب العام رُدْريغِز أفضل. فقد أصرّ رُدْريغِز على أن لدى مكتبه دليلاً على أن “يداً بيد” لم تستخدم أموالها كما زعمت، وأن هذا الاستخدام قد انتهك قانون الحملة، لأن التمويل جاء من حكومة أجنبية. وعلى الفور عقب زيارة غْرِشْمان، ظهرت رسالة مفتوحة، وقعها 70 شخصية سياسية مرموقة من أنحاء العالم، تطالب الرئيس بوقف القضية ضد “يداً بيد”. أما أغلب موقعي هذه الرسالة، فكانوا إما أعضاء في مجلس إدارة “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” أو من المستفيدين من مِنحها.([xii]) غير أن ردَّ المسؤولين الفنزوليين بأن أشاروا إلى أن مكتب النائب العام ومكتب الرئيس فرعان للحكومة مختلفان ومستقلان، وأن أي تدخل من قبل الرئيس سيكون مخالفاً للدستور.

المشروع الثالث الذي موّلته الولايات المتحدة ولفت نظر الجمهور الفنزولي كان يسمى “خطة إجماع الدولة”، وقد موّلته “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” من خلال شريك “مركز المشاريع الخاصة الدولي” في فنزولا، المسمَّى “مركز نشر المعرفة الاقتصادية”. كانت المنحة البالغة 33 ألف دولار لجمع مجموعات المعارضة معا. وحسب وصف المشروع،

” ستجتمع معاً القطاعات التجارية والعمالية، ووسائل الإعلام، والكنيسة، وغيرها من المؤسسات غير الربحية، لتناقش وتطوِّر إجماعاً عريضاً حول أجندة وطنية – هي السياسات الاقتصادية المحددة التي ينبغي لفنزولا أن تتبناها لكي تحل الأزمة العاجلة التي تواجهها البلاد الآن في المضمارين الاقتصادي والاجتماعي.”([xiii])

ضم المشروع جميع أحزاب المعارضة تقريباً، وأكبر غرفة تجارة (هي غرفة التجارة الاتحادية)، واتحاد العمال، ومنظمات وسائل الإعلام، والكنيسة، ومختلف المنظمات غير الحكومية. وبالرغم من أن المرء لا يستطيع الجزم، فمن المحتمل جداً أن منحة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية/شركة البدائل التنموية البالغة 378 مليون بوليفار (200 ألف دولار)، تحت العنوان “الدولة التي نريد” و”تطوير خطة خمس سنوات للدولة”، أسهمت أيضاً في مشروع “مركز نشر المعرفة الاقتصادية”.([xiv])

بُعيد الاستفتاء على إلغاء الرئاسة في آب 2004، كانت الخطة جاهزةً وقُدمت لوسائل الإعلام بجعجعة كبرى. أخيراً أصبح للمعارضة برنامج سياسي وما عاد ممكناً انتقادها لفقدانها إياه أو لأن الغموض يحيط بما تنوي عمله في فنزولا بعد تشافيز. مع هذا، فإن “خطة إجماع الدولة”، التي كان أسماها تشافيز ساخراً، “خطة الإجماع لأجل بوش”، بدت غامضة نوعاً ما واقترحت معالجة للاقتصاد تحدوها حوافز السوق أكثر من تلك التي كان تشافيز يتبناها. وحين كُشف عن أن الخطة طُوِّرت بتمويل من الولايات المتحدة، أنكر منظموها ذلك في البداية، ثم أخيراً وضعوها بهدوء على الرفّ.

بوش وتشافيز 3: تصعيد التوتر

كانت أخطر جوانب التدخل الأمريكي في فنزولا دعم إدارة بوش محاولة انقلاب نيسان 2002 بتمويل نشاط المعارضة. بيد أن هذه هي الجوانب التي نادراً ما تعيرها وسائل الإعلام الفنزولية والعالمية اهتماما. بل كان معظم الانتباه يركز على حرب الكلام بين البلدين والإجراء العرضي الذي يحدّ من التعاون. ولما كان تشافيز يفوق بوش والناطقين باسمه بطلاقة اللسان، خلقت وسائل الإعلام بسهولة صورة تُحمِّل تشافيز خطأ سوء العلاقات بين الدولتين، مشيحة بوجهها كليا عن أعمال إدارة بوش لتدمير تشافيز.

بعد انقلاب نيسان 2002 ببضعة أشهر، بدا أن العلاقات تتحسن ما بين فنزولا والولايات المتحدة، بالرغم من أن تشافيز ألقى بالملامة صراحة على بوش حول ما كان. وقد بدا أن اتفاقاً سريا قد جرى بين الرئيسين، وعد بوش فيه أن يترك تشافيز وشأنه، ومقابل ذلك يخفف تشافيز من لهجته المضادة للإمبريالية ويسمح للطيران العسكري الأمريكي الباحث عن المخدرات باستخدام الأجواء الفنزولية. وقد قيدت إدارة بوش نفسها بمقاربة حل للأزمة في فنزولا بدعم نشاط مركز كارتر، وبرنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة، ومنظمة الدول الأمريكية، لتيسير الحوار بين حكومة تشافيز والمعارضة. كذلك دعم بوش، في أوائل العام 2003، خلق “مجموعة أصدقاء أمين عام منظمة الدول الأمريكية”،([xv]) التي تنتمي لها كل من البرازيل، والتشيلي، والمكسيك، وإسبانيا، والبرتغال، والولايات المتحدة، التي يُفترض فيها أن تراقب وتصاحب عملية المفاوضات (وربما تمارس الضغط).

كانت إدارة بوش مشغولة تماماً في التحضير للحرب على العراق، لذلك من المحتمل جداً أنها لم تكن مهتمةً بزيادة التوتر في فنزولا، الذي قد يسبب ضغطاً إضافيا لتصعيد أسعار النفط عالميا. بعبارة أخرى، قد لا يكون بوش دعم إضراب صناعة النفط في كانون الأول 2002 وكانون الثاني 2003 لحدوثه في أثناء التحضير للحرب على العراق. كذلك كان واضحاً انزعاج رجل بوش في كاراكاس، الأمين العام سيزار غافيريا، الذي كان يترأس جهود التليين بين تشافيز والمعارضة، حين أعلنت المعارضة عن نيتها البدء في الإضراب في الأسبوع الأول من كانون الأول، في اللحظة التي كان ينتظر فيها استجابة رئيسية من حكومة تشافيز حول عرض جديد للتخفيف من الأزمة.

مع هذا، حاولت إدارة بوش، في 13 كانون الأول 2002، أن تضغط على تشافيز للدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما سيكون غير دستوري على الإطلاق في فنزولا. وقد ورد في تصريح البيت الأبيض ما يلي، “إن الولايات المتحدة مقتنعة بأن المسلك السلمي الوحيد والقابل سياسياً للتطبيق للخروج من الأزمة يتمثل في إجراء انتخابات مبكرة.”([xvi])وقد رفض الفكرة تشافيز ومؤيدوه، مشيرين إلى أنه لا يُطلق مثل هذه النصيحة إلا جاهل بالدستور الفنزولي.

بعد ذلك، وفي معظم العام 2003، كان بيت بوش الأبيض ووزارة خارجيته مشغولين بالعراق أكثر من إعارة فنزولا اهتمامهم العام. ولم يكن حتى تشرين الأول 2003 أن بدا أن حملة دعاية قد دُشِّنت عبر وسائل الإعلام الأمريكية، وصُمِّمت للطعن في مصداقية حكومة تشافيز بربطها بالإرهاب. كان ذلك حين ظهرت مقالة لجريدة يو إس نيوز آند ويرْلْد رِبورْتبعنوان “الإرهاب اقترب من الوطن”، كما ظهرت مقالات مختلفة مضادة لتشافيز في وكالة الصحافة المتحدة وافتتاحيات في وسائل الإعلام الأمريكية. لقد بدا أن الهدنة المؤقتة انتهت مرة أخرى. في الوقت ذاته، قدّم عضوا الجمعية الوطنية المؤيدان لتشافيز، نيقولاس مادورو وجوان بارِتُّو، شريط فيديو قالا إنه يُظهر عملاء لوكالة الاستخبار المركزية يعطون مساقاً تدريبياً لضباط شرطة فنزوليين. وحسب مادورو وبارِتُّو، كان الشخص الظاهر في الشريط عميلا معروفاً لوكالة الاستخبار المركزية، وكان يتكلم عن كيفية تعقب أحد الناس وعن خلق “حلقات أمنية”. أما اللحظة الأكثر كشفاً في الشريط، فكانت حين قال أحد التلاميذ، مشيراً إلى المشاكل التي قد تطرأ على الأرض، “نحن نقوم بوظيفتنا، وهو [على ما أظن] لن يتصرف كالأطفال، يا سيد ’كوري‘، وسيقف في الزاوية ويقول، ’أنا من وكالة الاستخبار المركزية، أنا من وكالة الاستخبار المركزية.‘”

على الفور ردت السفارة الأمريكة في فنزولا بالقول إن الفيديو كان حلقة تدريبية نظمتها الشركة الأمنية الأمريكية “واكِنْهَت”، التي تعطيها السفارة خدماتها الأمنية كمقاول باطني. وإذ بدا هذا معقولا، بالنظر إلى ما دار من حديث على الشريط، فقد أثار السؤال حول ما الذي تفعله، بالضبط، “واكِنْهَت” في فنزولا غير ذلك. يقول المراسل التحقيقي غْرِغ بالاست إن حكومة الولايات المتحدة قد “خصخصت” جاسوسيتها “وعملياتها السوداء” لمرتزقة وجماعات على شاكلة واكِنْهَت.([xvii]) أي أن وكالة الاستخبار المركزية نفسها هي الآن، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، مكرسة أكثر لجمع المعلومات الاستخبارية الحقيقية، بينما “تُكلِّف” شركاتٍ خاصة بالعمليات السرية لقلب الحكومات، لكي تتجنب متطلبات الكنغرس الحازمة فيما يتعلق بالتقارير ولكي تحافظ على “إنكار معقول” إذا ضُبطَ أحدُ العملاء وسط عملية ما. أما ما يكشفه شريط مادورو-بارِتُّو، فهو أن هذا بالضبط ما حدث في فنزولا.

كان في هذا الوقت، في تشرين الأول 2003، أن بدأ تشافيز خطابات هجومية جديدة ضد الولايات المتحدة، حين اتضح له أن حكومة الولايات المتحدة متورطة في نشاط سري في فنزولا أكثر مما كان معروفاً من قبل. وفي وقت مبكر من العام 2004، نُشرت وثائق قانون حرية الوصول إلى المعلومات، فغدا أوضح من ذي قبل إطلاقاً أن حكومة الولايات المتحدة متورطة تماما في الخلاص من تشافيز. في الوقت عينه، كان المجلس الانتخابي يُحصي عدد الموقعين على عريضة الاستفتاء على إلغاء الرئاسة. وفي حشد ضد التدخل الأمريكي، في 29 شباط 2004، وصف تشافيز بوش بـ”المغفَّل الساذج” لتصديقه أنه، أي تشافيز، يُمكن أن يُطاح به في 11 نيسان 2002. كذلك قرّع الإمبريالية الأمريكية قائلا، “يا سيد بوش، أنت وعصابتك تدعمون الانقلابيين هنا، الذين يدعمون الفوضى السياسية، الذين يدعمون الفوضى الاقتصادية، الذين انتهكوا سيادتنا، الذين فعلوا كل شيء للإطاحة بحكومة فنزولا الشرعية.” ثم قال، “لقد أقامت الولايات المتحدة في أمريكا إمبراطوريتها، وهاهي جميعُ الحكومات، التي تناهض الإمبريالية بطريقة أو بأخرى، تُهاجَم، وتُشيطَن، وتُسحَق….”([xviii])

قبل الخطاب المذكور ببضعة أيام، في 26 شباط، أعلن نائب الرئيس خوسيه فنْسِنْتي رانْجِل تعليق تدريب الفنزوليين العسكري كله فيما يُسمَّى “مدرسة الأمريكيات” (تسمى اليوم “معهد نصف الكرة الغربي للتعاون الأمني”). كان هذا البرنامج منذ مدة طويلة ذا سمعة سيئة بين نشطاء التضامن الأمريكيين اللاتينيين لكونه المدرسة التي يتعلم فيها ضباط أمريكا اللاتينية ممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان. وقد كان العديد من المشاركين في محاولة انقلاب نيسان 2002 ضد تشافيز من خريجي هذه المدرسة، كالجنرال إفْرين فاسْكيز فيلاسْكو. وقد أعلن رانْجِل تعليق مشاركة فنزولا بُعَيْد زيارة إلى البلاد قام بها الأب روي بورجوا، الكاهن الكاثوليكي الذي يقوم بالتحشيد ضد هذه المدرسة منذ عدة سنوات، وقد طلب من تشافيز شخصياً أن يوقف إرسال ضباطه إلى هناك.

بدا أن العلاقات الأمريكية الفنزولية تحسنت ثانيةً لمدة قصيرة في الفترة قُبيل الاستفتاء على إلغاء رئاسة تشافيز في 15 آب وبُعيدها. فقد صرح الناطقون باسم الحكومة الأمريكية أنهم سيقبلون أية نتائج تصادق عليها منظمة الدول الأمريكية ومركز كارتر. وحين أُعلنت النتائج وقبلتهما بعد ذلك بيوم منظمة الدول الأمريكية ومركز كارتر، قال الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم إريلي في 17 آب، “سوف ننضم … إلى الاعتراف بنتائج الاستفتاء الأولية وملاحظة أن الرئيس تشافيز تلقى دعم أغلبية المقترعين.”

وإذ كانت تصريحات إدارة بوش الرسمية قليلةً في هذا الوقت، بدأ العديد من افتتاحيات الصحف يشجع بوش على اتخاذ خط أصلب ضد تشافيز، خاصة عقب إعادة انتخابه. بيد أنه لم يكن إلا بعد الاستماع التوكيدي لكندُليزا رايْس كوزيرة للخارجية أن بدأ المسؤولون في إدارة بوش في اتخاذ خط صلب ضد تشافيز كـ”قوة سلبية” في أمريكا اللاتينية لأن من المفترض أنه يساهم في زعزعة استقرار جيرانه. واتباعاً لما قالته رايْس، استمرّ العديد من الناطقين يغزلون على المنوال ذاته.

زادت في تعقيد الأمور لإدارة بوش المبادرة التي أطلقتها حكومة تشافيز في منتصف عام 2005 لتزويد فقراء الولايات المتحدة بوقود التدفئة بأسعار مخفضة. وكانت وزارة الطاقة الأمريكية أرسلت لشركات النفط الرئيسية في تلك السنة تطلب منها المساعدة في انفجار كلفة وقود التدفئة. وكانت الشركة الوحيدة التي استجابت إيجابيا لهذا الطلب هي شركة سِتْغو، المملوكة كليا لشركة نفط فنزولا. وقد أعلن تشافيز عن هذا البرنامج خلال زيارة لنيويورك، حيث اجتمع بزعماء المجتمع المحلي في بْرُنْكْس. وكانت الفكرة الأساسية تخفيض عدد وسطاء تزويد وقود التدفئة، بحيث تستطيع سِتْغو أن تقدِّم هذا الوقود بخصم يبلغ 40%. وقد قال تشافيز إن في الإمكان استخدام 10% من إنتاج سِتغو النفطي لهذا الغرض. أما الأساس المنطقي لهذا البرنامج، فكان أن حكومة فنزولا، في الوقت الذي تتلقى فيه عائدات نفطية عالية، إنما تعمل بالتضامن مع فقراء العالم، أكانوا في فنزولا، أم في الكاريبي، أم في الولايات المتحدة.

بدأ هذا البرنامج في بوسطن، بمساعدة من النائب الأمريكي وليم دِلاهَنْت، حيث كان على سِتغو أن تقدِّم 12 مليون غالون من وقود التدفئة بسعر مخفض. ثم وُسِّع البرنامج لاحقاً إلى بْرُنْكْس، وكاناتِكَت، ومين، وجزيرة رود، وبنسلفانيا، وفيرمُنْت، ودِلاوير، لتقديم ما مجموعه 40 مليون غالون من وقود التدفئة للمجتمعات المحلية الفقيرة في شتاء 2005/06.

قال المنتقدون، طبعاً، إنما يحاول تشافيز أن يشتري دعم الولايات المتحدة بهذا البرنامج. أما الآخرون، وأغلبهم أمريكيون لبراليون وتقدميون، فقد أشادوا بهذا الجهد كمظهر حقيقي للتضامن. لكن الأثر الجانبي لهذا البرنامج كان في تسخيف مقولات مناوئي تشافيز في كل من فنزولا والولايات المتحدة بأنه معادٍ للولايات المتحدة.

فذلكة القول

كما ذكرنا في البداية، إن العلاقة بين فنزولا والولايات المتحدة مليئة بالتناقضات، لأن الدولتين، من ناحية، تحتاجان إحداهما للأخرى. ففنزولا تحتاج للولايات المتحدة كسوق لنفطها، والولايات المتحدة تحتاج لنفط فنزولا. على الناحية الأخرى، من الصعب على الدولتين أن تبتعدا أكثر فيما يتعلق بأجندة سياستهما الخارجية. فالولايات المتحدة تريد من فنزولا أن تستخذي لمصالحها وأن تكون بهدوء جزءاً من منطقة التجارة الحرة للأمريكيات. غير أن فنزولا هي إحدى الدول القليلة في العالم اليوم التي تعارض جذرياً هيمنة الولايات المتحدة وإمبرياليتها. وطالما تعايشت هذه المصالح المتناقضة، فلا غرو في أن تكون العلاقة بين الدولتين دائمة التوتر والتصالح، كما كان الحال عموماً منذ تولي تشافيز الرئاسة عام 1999.

ما الذي يعنيه هذا، إذاً، لهذه الدولة الأصغر والأضعف التي هي فنزولا بما لا يقاس؟ ستكون الولايات المتحدة، في ظل الرئيس بوش، طبعاً، مدفوعةً بإغراء الخلاص من إزعاج الرئيس تشافيز. أما أن يحدث غزو أمريكي مباشر لفنزولا، حسب اقتناع الكثرة من مؤيدي تشافيز بوقوعه عاجلاً أو آجلا، فغير محتمل تماماً لعدة أسباب. أولها أن الولايات المتحدة ليس لديها موارد عسكرية كافية ما دام جنودها مكبلين في العراق وأفغانستان. وقد تبدو سخيفةً لمعظم محللي السياسة الخارجية الأمريكية إثارة هذه النقطة، لكن اقتناع معظم مؤيدي تشافيز بأن الولايات المتحدة سوف تقوم بالغزو قوي جدا.([xix])

المشهد الأكثر احتمالاً لجهود الحكومة الأمريكية أنْ تستمر في تعزيز إستراتيجيتها الحالية لتدمير تشافيز بدعمها المعارضة، مالياً ولوجستيا في الميدان المحلي، ومعنوياً في الميدان الدولي. ومن المؤكد أن إدارة بوش سوف تنزع كل المثبطات في محاولتها هزيمة تشافيز عام 2006، وسيكون ذلك على الأغلب بجمعها المعارضة تحت لواء حملة ماكرة، وبنشر إشاعات مؤذية ذات علاقة بالفساد، وانتهاك حقوق الإنسان، وزعزعة استقرار جيران فنزولا. ويبدو أن هؤلاء المسؤولين عن هذه الإستراتيجية قد تعلموا كيف يواجهون تشافيز انتخابياً بشكل أفضل، لأنهم خسروا منافسات انتخابات كثيرة بين عامي 2000 و2004.

غير أن إحدى أكبر العقبات أمام الولايات المتحدة تكمن في أكبر نجاح لسياسة حكومة تشافيز الخارجية، أعني شعبية تشافيز الكبيرة في أرجاء العالم. فبالرغم من محاولات وصمه بدعم الإرهاب، وزعزعة الاستقرار، وحكم الفرد، يُعدُّ تشافيز اليوم أحد زعماء العالم الأكثر يسارية. ولعل هذا في نظر الزعماء اليساريين المنتخبين، الذين يميلون كلهم عملياً إلى أن يكونوا أكثر اعتدالا من تشافيز، أقل منه لدى حركات اليسار الجماهيرية في العالم. وحينما يُدعى تشافيز ليتكلم في الهند، أو المكسيك، أو البرازيل، أو حتى في الولايات المتحدة، فإنه يُحيَّى بجماهير متحمسة تكتظ بها الأمكنة.

سياسة خارجية طابعها اشتراكية القرن الحادي والعشرين؟

غير أن نجاح تشافيز على المدى الطويل في تحدي الولايات المتحدة والظلم الاجتماعي في العالم يعتمد على ما إذا كانت سياسة فنزولا الخارجية تُروِّج حقيقةً لمُثُله الاشتراكية. يُمكننا أن نفحّص مدى ما تفعل فنزولا ذلك في مجالي الاقتصاد ونظام الحكم. كذلك يُمكننا أن نفحص إذا ما كانت سياسة فنزولا الخارجية تروِّج للعدالة الاجتماعية اقتصاديا وسياسياً بين الدول، وإذا ما كانت تفعل ذلك داخل الدول التي لها علاقة معها.

إن موقف تشافيز الانتقادي جداً لتدخل الولايات المتحدة وترويجها للبرالية الجديدة يساهم قطعاً في تعزيز العدالة الاجتماعية، لأن تشافيز ينجح في لفت نظر العالم إلى الظلم الاجتماعي في كل مكان بطريقة لا تفعلها على الصعيد الدولي إلا قلة من زعماء العالم (باستثناء فيدل كاسترو). كذلك، يقوم تشافيز بأكثر من محض انتقاد الولايات المتحدة على العديد من المنابر الدولية، بل إنه يُنظِّم الائتلافات الدولية بفعالية، كتلك الداعمة لدعوة فنزولا إلى مقعد من مقعدي التناوب كل سنتين في مجلس الأمن عام 2006، كما يسعى إلى تقوية المجموعة-15 والمجموعة-77، وحركة عدم الانحياز. سياسياً، يمكن لهذه الجهود أن تساهم في إضعاف قوة الولايات المتحدة السياسية على الصعيد الدولي.

إن جهود فنزولا لبناء أميركا لاتينيةٍ موحدة، من خلال “سوق الجنوب المشتركة” (ميركوسور) حاليا، وعالَمٍ ثالثٍ أقوى اقتصادياً، عبر التحالفات الاقتصادية الثنائية مع الصين، والهند، وإيران، والعديد من الدول الأخرى، لا جَرَمَ تُساهم في عدالة اقتصادية اجتماعية أكبر. وكما يقول برنامج سياسة تشافيز الخارجية (مذكور أعلاه)، ستكون بلدان العالم الثالث عموماً في حال أسوأ إذا كانت تجارتها مع العالم الأول من موقف الضعف. فبينما قد يستفيد الطرفان من مثل هذه التجارة، فإن معظم الفائدة تذهب باتجاه الأقوى اقتصاديا. وهكذا من المنطق لدول العالم الثالث أن تتحد اقتصادياً أولاً، بحيث تكون في وضع أفضل للتفاوض مع العالم الأول بعد ذلك على شروط تجارية أفضل. ولعل أوبك هي أنجح مثال في العالم على ما قادت إلية الوحدة من فوائد أعظم للمتحدين.

بيد أن الوضع المتعلق بالعدالة الاجتماعية داخل الدول، كنتيجةٍ لسياسة فنزولا الخارجية، أقل وضوحاً بكثير. أولاً، يبدو أن تشافيز ووزراء خارجيته حتى الآن لم يعيروا إلا قليل اهتمام أو لا شيء منه على الإطلاق للظروف السياسية والاقتصادية داخل الدول التي يتعاملون معها.([xx]) مثل ذلك أن فنزولا تقيم روابط اقتصادية وسياسية مع الكثير من الدول التي تشجب معظمُ منظمات حقوق الإنسان انتهاكَها المزمن لحقوق الإنسان. من تلك الدول، مثلا، بيلاروسيا، وإيران، وسوريا، والصين، وزمبابوي، وروسيا، من بين دول أخرى – وقد أقامت فنزولا حديثاً روابط حميمة معها كلها. ويمكن فهم احتمال ارتياب تشافيز من اتهام تلك الدول بالإساءة إلى حقوق الإنسان، بالنظر إلى إلصاق اتهامات مشوهة بانتهاك حقوق الإنسان بفنزولا. مع هذا، يجب أن يكون هناك قليل شك حول خطورة الاتهامات ضد هذه الدول بسبب سوء سمعتها.([xxi]) ولا يصنع تشافيز خيراً مع شعوب هذه الدول حين يمتدح زعماءها جهاراً ويقوي مراكزهم، بينما هم أنفسهم يدوسون على حقوق شعوبهم. ذلك أن تشافيز، في دعمه هؤلاء الزعماء، إنما يزيد من مصاعب نشطاء هذه الدول في كفاحهم لأجل العدالة الاجتماعية.

هكذا يجد تشافيز نفسه في وضع متناقض قليلاً، حيث يبدو الكفاح في سبيل العدالة الاجتماعية بين الدول يتناقض مع الكفاح في سبيل العدالة الاجتماعية داخل الدول القمعية. في الجانب الآخر، تحتاج كل من فنزولا والصين وروسيا بعضُها إلى بعضها الآخر لكي تتصدى للهيمنة السياسية والاقتصادية الأمريكية. وفي جانب آخر، لا روسيا ولا الصين ولا معظم الدول الأخرى المذكورة أعلاه يمكن بأية وسيلة أن تُعدَّ أن لها حكومةً تعمل في سبيل العدالة الاجتماعية ضمن حدودها. أي أن سياسة فنزولا الخارجية ينبغي أن تشمل فعلاً موازناً حساساً بين هذين الهدفين المهمين؛ لكنْ يبدو أن تشافيز، لسوء الحظ، يتجاهل أوضاع العدالة الاجتماعية في الدول التي يبني معها علاقات حميمة.


[i] إنه بفضل جهود جيرمي بِغْوُد وإيفا غولنغر في طلبهما ونشرهما وثائق لا تحصى لوكالات كثيرة للحكومة الأمريكية أن عرفنا بعض مجالات العمليات الأمريكية في فنزولا على الأقل. وقد طلبت هذه الوثائق استناداً إلى قانون حرية المعرفة، ولا يزال جارياً تحقيق هذه الوثائق. وقد نُشر معظم هذه الوثائق على الموقع (www.venezuelafoia.info).

[ii] هذه الأرقام هي مجموع أموال قدمتها “المنحة الوطنية لأجل الديمقراطية” و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”، م.ن.، ص. 83.

[iii] “المساعدات الأمريكية تثير شكوك فنزولا،” وكالة الصحافة المتحدة، 27 آب 2006.

[iv] اتصال شخصي مع إيفا غولنغر، التي تبحث في موضوع السرقات الأحدث في فنزولا.

[v] روبنسن. (1992).

[vi] فيليب أجي، داخل الشركة: يوميات وكالة الاستخبار المركزية (Philip Agee: Inside the Company: CIA Diary). 1975.

[viii] راجع: (www.usaid.com).

[ix] غولنغر (1975)، ص. 245. حسب موقع “مكتب مبادرات التحول”، قد أنفق برنامجه لفنزولا حتى الآن 6 ملايين دولار على مشاريع هذا المكتب. وحسب غولنغر، كان على مكتب مبادرات التحول أن ينفق 7 ملايين دولار على المشاريع، وهو ما قد يعني أن مليون دولار لم توزع بعد، وأن ثلاثة ملايين ستستخدم من قبل مكتب مبادرات التحول وشركة البدائل التنموية مباشرة ككلفة تشغيل وليست للمشاريع.

[xi] في الشهر ذاته، فشلت محاولة اختطاف أُرتيغا دياز. وفي شباط 2006، قبل انتهاء المحاكمة، وصمها أحد القضاة بالفاسدة لأن القاضي المكلف بها لم يسمح بانعقاد محكمة محلفين لأربعة من زعماء “يداً بيد”. وقد قال النائب العام رُدْريغِز إنه سيعيد المحاكمة. وفي منتصف عام 2006، بدأت الجمعية الوطنية تحقيقها الخاص حول ما كُشف عن “يداً بيد”، وأعلنت أن سجلاتها المصرفية تؤكد تلقيها 300 ألف دولار من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية في الولايات المتحدة. لكن المسؤولين في إدارة بوش أنكروا هذا الزعم.

[xii] غولنغر (2005). ص. 163.

[xiii] م.ن.، ص. 193.

[xiv] نُشرت على: (http://www.venezuelafoia.info/usaid.html) تحت المشروع (G-3822-101-043). أما اسم المنظمة التي استفادت من هذا المشروع فعُتِّم عليه.

[xv] هذه المجموعة كثيرا ما سُميت خطأً وأوِّلت على أنها مجموعة أصدقاء فنزولا.

[xvi] اقتُبست في غولِنْغر (2005). ص. 139.

[xvii] بالاسْت، غْرِغ. أفضل ديمقراطية يمكن شراؤها بالمال (Palast, Greg: The Best Democracy Money Can Buy). منشورات بلوم. 2004.

[xviii] “تشافيز يتحدى بوش”، صحيفة إل أونيفيرسال (“Chávez reta a Bush,” El Universal). 29 شباط 2004.

[xix] حقيقة أن البحرية الأمريكية كانت تجري مناورات حربية أمام ساحل جزيرة كوراساو في الكاريبي يثير الريبة في أن الولايات المتحدة تحضر لغزو.

[xx] كثيراً ما ينتقد تشافيز قضايا العدالة الاجتماعية داخل الولايات المتحدة. كذلك يُظهر برنامج فنزولا المتعلق بوقود التدفئة في الولايات المتحدة تضامناً عملياً مع الفقراء الأمريكيين.

[xxi] مقارنة بسيطة لتقرير منظمة العفو الدولية للعام 2006 حول سجل حقوق الإنسان في بيلاروسيا، وإيران، وسوريا، والصين، وزمبابوي، وروسيا، مثلاً، مع تقريرها عن فنزولا ينبغي أن يزيل أية فكرة تشير إلى أن سجل فنزولا في حقوق الإنسان يمكن مقارنته بأية وسيلة مع هذه الدول المذكورة.