قراءة في التحولات الزلزالية الكونية وانعكاساتها العربية*

الدكتور كمال خلف الطويل

في عمر جيلْ مرّ العالم بأطوار ثلاث عكَس تسارع إيقاعها طبيعة العصر بما وسعه من ثورة في الاتصالات , وتدفق في المعلومات , وتشابك في المصالح بالسلب والإيجاب : أولها , كان خروج الاتحاد السوفيتي من سباق الحرب الباردة لخوار موارده بالقياس من أعبائه ( وكان للرسمية العربية دور فارق في إيصاله للإفلاس عبر إغراق السوق النفطية وإيصال سعر البرميل إلى 6 دولارات عام 1986 ) ، وصولاً إلى انهياره وتشظيه في فترة عامين ( نوفمبر 1989 – ديسمبر 1991 )… كانت النتيجة أن تربعت الولايات المتحدة على عرش الكون , ما بين سقوط حائط برلين وحتى عشية ضربة 11 أيلول 2001، دونما أدنى منازع .

وكان ثانيها , العقد الممتد من 11 أيلول 2001 وحتى 3 أيلول 2013 ، والذي احتفظت فيه الولايات المتحدة بهيلمان العرش , وإن من دون راحة التربع وطاووسية الترفع , وهي التي راهنت على أن استعراض القوة في أفغانستان معطوفاً على اجتياح العراق ( المضعَف ب 13 سنة من الحصار الكوني الشامل والخانق ) كفيلان باستعادة وتأمين تلك الراحة وذلك التطوس , و بردع القوي عبر ضرب الضعيف ( وتلك عادة استمرأتها الولايات المتحدة في معظم حروبها ).

كانت النتيجة أن غرَق الولايات المتحدة في أوحال غرب آسيا تكفّل باستنزاف مواردها إلى حدّ التهديد بالنضوب ، فضلاً عن انشغالها عن نهوض قوتين منافستين : روسيا والصين ، اهتبلتا فرصتيهما على أكمل وجه فوصلت الأولى إلى أن أعادت الاعتبار لقوتها العسكرية بما يجعلها ، وهي أحدى اثنتين تملكان قدرة التدمير الشامل المتبادل،  قوة كونية كبرى , لا إقليمية عظمى فحسب .. كما انتهى إليه حالها ما بين 1991 – 2001 ، وبلغت الثانية أربها بأن أضحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم ، بل والمقتربة من أن تكون الأولى – مكرر في غضون عقد ، فيما هي ساعية إلى تملّك قوة عسكرية رادعة تتميز بإبطال مفعول وسائط الهجوم المهولة بدلاً من بناء مثيلاتها ، أمرٌ يسحب من الموارد ما فوق طاقة الاحتمال.

 وما أن دلفت العشرية الثانية من الواحد والعشرين إلاّ وكانت تباشير الطور الثالث من عمر جيل هي ولوج الولايات المتحدة إلى عصر الأفول.

هنا استدرك بالقول أن تعريف الأفول يخالف ويختلف عن مدلول السقوط ، فالأول انحسار متدرج للقوة الشاملة – بين خشنة وناعمة – من مرتبة التسيّد إلى عتبة التميز.. والانحسار نوعان : المنظم والعشوائي، يهمنا هنا الأول بما هو ما بالضبط تسعى الولايات المتحدة – تبدو الآن أقرب إلى النجاح – إلى إنجازه بيدها لا بيد الآخرين، وبإيقاعها لا على نوتة الغير , وبأولوياتها لا وفق هوى الخصوم.

السقوط بالمقابل هو الانهيار الزلزالي الذي يفضي إلى الانتقال من سيدٍ إلى مشروع تابع , كما بدا لوهلة مصير روسيا في عقد التسعينيات من العشرين.

أما الأفول العشوائي فهو ما تدنت إليه بريطانيا مع حرب السويس وفي أعقاب حربين عالميتين أشعلتهما دون وغير داع.

للمرء أن يؤرخ إرهاص الأفول يوم 3 أيلول 2013 ، حين تلمست الولايات المتحدة حقيقة أن شنها الحرب على سوريا سيفضي إلى حرب واسعة النطاق لا قبل لها على تحمل أوزارها , لا في الميدان ولا في السياسة ،  فعادت أدراجها بتبصّر العارف بالبير وغطاه.

الأفول هنا هو الانتقال من القوة الأعظم إلى القوة الأقوى بين متساوييْن : هي , في المحصلة , الأعلى شأنا عبر البحار وفي الفضاءات… الأكثر تقدماً في العلوم والتقانة…العائدة إلى الاكتفاء في، بل وقدرة تصدير الطاقة… والجاذبة لأموال الغير لتدوّرها في أخضرها.

لكن ذلك شيء والقدرة على الأمر والنهي شيءٌ آخر تماماً : ذلك عصر ينقضي في هذه الأوقات… ولعل ما شاع عن قرن أمريكي كان العشرين، انطبق جزئياً على نصفه الثاني ، فيما تحوَّل توقع أمريكية تاليه إلى أثر بعد عين , لأنه ببساطة قرن أوراسي بامتياز.

ما الذي تعنيه الأوراسية هنا ؟ هي من جانب معطىً جغرافي وإن متباين في الحمولة، ومن جانب آخر معطىً جيو سياسي يتجاوز حدود الجغرافيا إلى تخوم الكون ( أوراسيا هنا هي روسيا والصين وإيران مثلاً، كما هي البرازيل والأرجنتين وجنوب إفريقياً ).

ما الذي يعرّف الأوراسي : ذاك الذي بالسلب يقاوم سعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة الكونية الشاملة، وبالإيجاب يعلي من شأن المشتركات بين مكوناته فوق تلك المفرّقات.

الأوراسية خيمة جيو استراتيجية واسعة متعدّدة الأوتاد ذات الارتفاعات المتباينة، تناظرها خيمة ناتوية مقابلة بذات المواصفات وهي كما خصمها أوسع في الجغرافيا من ضفتي الأطلسي لتمتد إلى آسيا ( اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والسعودية والفيليبين مثالاً )، وفي إفريقيا ( أثيوبيا وكينيا مثالاً ).

خارج الخيمتين تتناثر أنواع ثلاثة من الدول : أقطاب حائرون بينهما ( الهند وأندونيسيا مثالاً ) .. دول متوسطة أو صغيرة أقرب إلى أيهما ( زيمبابوي وسيريلانكا وقازاخستان وسورياأو كولومبيا ومصر وباكستان)… ودول متوسطة أو صغيرة هي في منزلة بين منزلتين , أي تخشى من عمود خيمة هنا ولا ترتاح إلى عمود خيمة هناك ( دول جنوب شرق آسيا نموذجاً ).

والحاصل أن سمةً تتصف بها مكونات الخيمتين هي سيولة انسياب أو تواصل وظيفية النفع لطرفيها على الجانبين المتقابلين : ( مثال الشراكة الروسية – الألمانية ).

كيف تجلّى التعارض بين الخيمتين ؟ في سعي الولايات المتحدة الحثيث لحصار روسيا توطئة لاختراقها , فبتحلل المنظومة الشيوعية أعادت واشنطن إنتاج الناتو ليصبح ذراع التدخل الكوني في العموم , وأداة التمدد إلى تخوم روسيا من الغرب والجنوب وما بينهما على وجه الخصوص… روسيا هي القوة الأخطر والأقدر في عرف المؤسسة… نحوها كراهية ممزوجة بالحساسية ومختلطة بالخصومة , تندخل كلها كسبيكةٍ في تلافيف العقل الجمعي الناظم للمؤسسة… لكن تشريحاً وئيداً للظاهرة يوفر تفسيراً لا ناقض له فحواه أن تلك الروسيا سبق وتحدت الغرب لعقود سبعْ , مخلفة موروث صراع مستقر في الدواخل , سيمّا وهي من تملك ترسانةً نووية مكافئة، وهي موطن الموارد بلا حدود , وصاحبة التاريخ التليد والثقافة الزاخرة , والتي تتمدد فوق قارتين، ما يكفل لها نفوذاً حاسماً في كليهما.

كان مطلوباً رأس تلك القوة التي لم تستطع محاولة الإملاق والانتهاب طيلة تسعينات العشرين إيصالها لخفض جناح الذلّ من المسكنة، بل وغذّتها بنوازع الانتقام والثأر وغسلت من أذهان مجتمعها أي غرامٍ تطارحوه مع المثَل الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة من عمر الإمبراطورية السوفيتية.

والحق أن الانهيار السوفيتي شبه الشامل لم يصل حد تخلّي روسيا عن القدرة النووية , كما فعلت أوكرانيا وكازاخستان، بل حرصت بتصميم منقطع النظير على الاحتفاظ بالترسانة النووية دون مسٍ , ليعود الفضل في ذلك أولاً وأخرا إلى المؤسسة الأمنية – العسكرية متحالفة مع الصناعات العسكرية.. أي النسخة الروسية عن المجمع العسكري – الصناعي الأمريكي.

والشاهد أن نجاة قطاعي السلاح والطاقة من براثن أباطرة الليبرالية المتأطلسة هو ما كفل , في زهاء عقدٍ , عودة الروح للروسيا.

صاحب تمدّد الناتو إلى الحواف الروسية محاولة غزو الداخل عبر سبل عدّة : رعاية وتمويل ” أنجزات ” المجتمع المدني قاطرة اختراق لنسيج الأمّة… الضغط لتمكين المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي من الانتشار , في مغالبة للمذهب الأرثوذكسي السائد رمز التمايز السلافي وصنوه…الوقيعة بين مكوني الأمّة الروسية : السلاف الأرثوذكسي والترك المسلم , عبر رعاية التمرد الشيشاني في التسعينيات والتململ القفقاسي الأصولي مذ ذاك.

لكن السبيل الأكثر راديكالية , الذي تجرّبه واشنطن منذ سنين دون كثير نجاح , هو حرمان روسيا من القدرة على توجيه ضربة نووية مضادة، أي التوفر على السيادة النووية الأمريكية … من هنا حكاية الدفاع الصاروخي والتي لم تثبت بعد في امتحان الجدوى , سيّما والمستهدف يحث الخطى نحو تأمين قدرة إبطال الصواريخ المضادة للصواريخ بمضادةٍ لها بالمقابل.

يتساءل البعض: طيب لم لا تجد واشنطن وموسكو أو واشنطن وبيجينغ لنفسيهما شراكة قيادة ؟ والجواب أن تعبير شراكةٍ غير مندرجٍ في المعجم الجيو استراتيجي الأمريكي، فحتى الشريك الأوروبي هو شريك – جونيور بالجملة , ومستتبع بالمفرق .. فما بالك ببني أوراسيا!.

لكن للأفول ضريبة متوجبة الدفع، يمكن للمرء تلمس قسماتها على النحو التالي :

1 – التخفف من أثقال الانخراط المديد والخاسر في غرب آسيا : الانسحاب من العراق ( بتأثير المقاومة العراقية : 2003-2007 ) وأفغانستان سبيلاً.

2 – الاكتفاء بنمط من الحروب – تحت المباشرة يتمثل حزمةً ثلاثية الأبعاد : الخنق الاقتصادي… الحرب النفسية… والعمليات الخفية ( الصراع مع إيران ما بين 2004 – 2013).

3 – الاشتغال على خطوط الفالق بين المستهدَفين بالترويض والاستتباع أمريكياً : توجس روسيا من أي نفوذ خارجي – حتى ولو صيني – في آسيا الوسطى… قلق روسيا من الندرة الديمغرافية في سيبيريا واحتمال استغلال الصين لها لدفع أحمال ديمغرافية ثقيلة إليها للعمل.. روسيا وتسعيرها لصادراتها من الطاقة والصين ورغبتها في أخفض الأسعار وهي المستوردة.. ثم هناك المثال الروسي – الإيراني : موسكو المتزاوجة بين حرصها على ألا تسترد واشنطن إيران تابعاً , ففي ذلك تطويق شبه كامل لحوضها القريب، وإعادة تأسيس لمنظومة قواعد عسكرية وتجسسية فيها تكفل اختراقاً معلوماتياً وأمنياً يصعب درؤه ، وموسكو – بالمقابل – التي تعارض امتلاك إيران للسلاح النووي ( لا القدرة السلمية ) لما في ذلك من فائض قوة إقليمي سبق له وأن كان طرفاً في حروب دامية أدّت إلى انتزاع القفقاس وآسيا الوسطى من فارس…هناك أيضاً الخلاف على تحاصص التشاطؤ القزويني ( وتذليله ممكن ) واحتمال التنافس على تصدير الطاقة الإيرانية ( والعراقية ) لأوروبا بما يمكّن الأخيرة من التحلل من إسار الاتكال , بثلث استهلاكها الطاقوي , على روسيا ( حلولُ تناقضٍ كهذا ليست عسيرة في حال قامت شراكة روسية – إيرانية تنسق سياسات التسعير والتصدير والإنتاج والتوصيل ).

4 – استثمار أوضاع داخلية قابلة للإشعال في دول “مارقة” تعرّضها لحروب بالوكالة , تخوضها بالنيابة كونترا خادمة أو متخادمة : المثال السوري شديد السطوع.

5 – السعي إلى ضرب خصمين لها ببعضهما البعض:  القاعدة والنظام في سوريا راهناً , وإيران والعراق سالفاً.

6 – اجتذاب أقطاب حائرين لصفّها بالغواية والترهيب في آن : منافع التحالف ضد خصم تاريخي للاثنين ( كل من الهند وفيتنام ضد الصين ).

7 – استبقاء مصدري الطاقة من تابعيها العرب في حوزة الدولرة , والتي بدونها ينقلب الحال من أفول إلى سقوط , وبل ومدوٍ.

8 – تظهير حلفاء في صدارة مواجهات محدودة : القيادة من الخاصرة ( مثال مالي الفرنسي , وقبله مثال ليبيا – متعدد الجنسيات – وقبل الاثنين مثال لبنان 2006 ..وهو الفاشل بامتياز).

9 – تفعيل خط الفالق السني – الشيعي في عالم العرب والمسلمين ليكون أخدوداً زلزالياً يعصف بمناعته وصحته وقابلياته.. والحق أن الحرب العراقية – الإيرانية كانت طلقة البدء الأولى , ليليها احتلال العراق صاعقَ تفجير على مقياس 7 ريختر , توالت بعده ارتداداته في لبنان ثم في سوريا – وعودةً إلى العراق – على أبشع منوال.

10 – تجريب اعتماد أوراق الإسلام الإخواني حاكماً في العالم العربي بحسبان أن شعبيته بدت حول مطالع الألفية وكأنها بلا منازع , وعلى خلفية أنه ليس مصدر تهديد، وهو الذي عاش عقوده الستة الأخيرة في كنف “التبعية العربية”.. وبالرغم من الانزعاج من تبنيه نهجاً مقاوماً في فلسطين منذ نهاية الثمانينيات تحت ضغط الضرورات.. وبظن أنه – تحت الرعاية التركية المخضرمة والمجربة – قادر على جملة أمور: الانخراط في الصراع المذهبي حامياً لحمى السنة.. التهدئة المضمونة والمفتوحة مع إسرائيل.. وتعبئة مسلمي الصين وروسيا ضد دولهم بحجة الاستنهاض والحقوق.

انتهى التجريب إلى فشل محقق في مصر حيث رفضت العسكرية المصرية , كما كل أطراف بنيان الدولة , شراكة الإخوان في سلطتها.. وإلى فشل أكثر دموية في سوريا وليبيا، كما إلى فشل جزئي في تونس، مما جعل واشنطن تضطر لمراجعة أوراق الاعتماد , توطئةً لسحبها بتدرج المضطر.

أفول المركز يترتب عليه تطوران في المحيط : أفوله بالتبعية , واتساع هامش حركته قياساً للمركز .. بمعنى أن أفول الولايات المتحدة يعني بالضرورة أفول إسرائيل والأوربيات – بتفاوت – والسعودية واليابان وتايوان ….أيضاً يعني أنهم – بتفاوت – يستطيعون أن ينوسوا بين قعر التململ وسقف التمرد , إن اختلفوا مع الكبير فيما يتصرف به بما يخصهم , أو خالفوه… مثال ذلك ما يصم الاّذان من زعيق سعودي وإسرائيلي سخطاً على الانفراج الأمريكي – الإيراني وتوجساً من مفاعيله.

من أهم تجليات الأفول اقتصاد القوى وترتيب الأولويات… عنى ذلك الانزياح شرقاً لأعماق أوراسيا حيث جائزة القرن، والارتحال عن غرب آسيا بتسكير خانات الاستنزاف فيها معطوفاً على تسويات إقليمية تُقرّ فيها واشنطن بما سعت طويلاً لنفيه عن خصومها , وتحتفظ معها بطلّة نافذة على حشايا ذلك الغرب.

كان غرب آسيا موطّأ واشنطن الذي ظنته كفيلاً بتيسير قفزها اللاحق نحو الشرق فوجدته سبخاً يشد الأقدام إلى أسفل ويضرب كعوب أخيلها بالحت والتعرية…. موارد طاقته الآن فارقة لكنها غير فاصلة ، بتوافر الصخريات في الشمال الأمريكي بل وغيره…وإسرائيل فيه تتراجع من رصيد إلى عبء وظيفيين , دون أن يمس ذلك من قيمتها الاعتبارية عضواً متمماً في النسيج الأمريكي الكلي.

ما يهم واشنطن من المنطقة , في العقود القادمة , هو نفوذ وازن لها في قرار الطاقة بما يكفل تقويض تأثير الصين وروسيا الحاسم عليه… وتأمين أمن إسرائيل المباشر , لا وظيفيتها أو توسعها , فلقد برهنت حرب تموز على انحسار قدرتها على الأداء… بجلاء , وأصبحت أسيرة معادلة ردع إقليمية تقعدها عن حسن الأداء في المجمل.

في غرب آسيا ملفات تحتاج إلى توضيب يسبق الارتحال , وتمتد ما بين هندوكوش وحتى بير العبد : هناك حاجة إستراتيجية موضوعية لانفراج مع إيران يعترف بها كدولة إقليمية عظمى بطلّة كونية , تقابلها حاجة إستراتيجية موضوعية لدى إيران ترفع عنها ضرّ العقوبات الخانقة وتفتح أمامها سبل تطوير قطاعها الطاقوي، بما لذلك من فائدة جمّة لمواردها وفائدة مناظرة لمطوّريه وبينهم كثرة غربية.

أشبه ما يكون الانفراج هذا بسابقه الصيني المدشن في تموز 71 بزيارة كيسنجر السرية لشواين لاي في بيجينغ , والمتوج بزيارة دينغساوبينغ لواشنطن في يناير 79، أي عبر قرابة عقد.

لم ينته الحال بالصين أن أصبحت حليفة للولايات المتحدة , ولا هي أرادت أن تكون خصماً لها ، لا بل تعاملت معها بمزيج من مسالمةٍ مصابرة وندّية مثابرة وثبات مشتد العود باضطراد.

أشبه ما يكون حال إيران في المقبل الوسيط بالصين , مع اعتبار تسارع إيقاع الحوادث مذ ذاك : لن يكون الانفراج تحالفاً أو حتى وفاقاً بل تفاهمات وظيفية متعددة البؤر ومترابطة الحلقات , وإن دون تواقت أو حتى تعاقب سريع بالضرورة.

لن تتخلى إيران عن دورها شرق المتوسط.. ففي تخلّيها تبهيت لمقامها الجيو استراتيجي بما لا يقل عن النصف , وحصرٌ لها في برزخ قزوين – الخليج , حيث آسيا الوسطى وخلفها روسيا من جانب ومحميات الجزيرة وحولها أمريكا من آخر لا تتيح مدىً حيوياً وافراً… فيما أفغانستان مربط تجاذب بينها وبين باكستان والهند , فضلاً عن روسيا.

” سوراقيا ” إذن حلفاً وامتداداً فعل ضرورة … تلك حقيقة تعكس أقانيم المشروع الإيراني الأربع : الأقنوم الدولتي , وبه إيران الدولة تسعى إلى أوسع فضاء حيوي ممكن في محيطها القريب وما بعده… الأقنوم الشيعي , وبه إيران المذهب ترمي إلى استقواء معتنقيه حيثما الاستضعاف سائد : الخليج مثالاً….الأقنوم الإسلامي , وبه إيران الاسلام  تبغي أن تتوسد حيّزاً من صدارة عالم الإسلام : هي تعلم علم اليقين أن تفرّدها بها محالْ و أن حاجتها تلواً إلى شريك سني وعربي فرض عين… من هنا قيمة سوريا الجيوستراتيجية لها… والأقنومالعالمثالثي , وبه إيران النداء تروم إلى تشبيك أواصرها مع القارات الثلاث طلباً لتجمع عالمثالثي يجعل من عالم الجنوب شريكاً موقَّراً لمن هو من عالم الشمال.

إن الانفراج الإيراني – الأمريكي , على زلزالية وقعه , ليس حدثاً من خارج المدار، بل متسق مع فشل الثورة الخضراء من جهة ومع تكسّر نظام عقوبات العامين الأخيرين على جدار التكيف الإيراني الصبور، بالرغم من وضعه الاقتصاد الإيراني في عنق زجاجة وعصر مجتمعه لأقصى حدود التكدير، وأيضاً مع فشل الولايات المتحدة في الاحتفاظ بقوة إعاقة في العراق بدلاً من انسحاب شامل نهاية عام 2011 …. وأخيراً مع انتعاش – عابر للإقليمي – لتنظيمات القاعدة , وهي الخطر المشترك عند الجميع.

لذا كله , فالانفراج سنّة القادم من سنين , وفي طياته اضطرادٌ يصب في قناة باقي عناصر “المحور” , لا تفريطَ بمصالح أي منها.

يلزم هنا تلمس مراد اللاعبيْن الرئيسيين على سطح الشطرنج الأوراسية : أملُ واشنطن هو أن الانفراج مع إيران سيفتح الباب موارباً لنفاذٍ غاوٍ إلى حشايا النخب السياسية الإيرانية , يكفل مع الوقت ” جلاسنوستاً ” يفتح القلعة من الداخل , معيضاً عن عقم محاولة فتحها من الخارج… أملها أيضاً هو في وقعية طاقوية بين إيران تصدّر للغرب وروسيا تحتاج لهيمنة كاربونية عليه.

والحال أن مناعة الجسم السياسي الإيراني على الغواية والاختراق قد تعززت بعد خضراء – 2009 ، سيّما ومرونة النظام على قدر من قابلية التمدد والرخاوة تحفظ الجميع في حلبة واحدة , حتى وإن تصارعوا بل وأدموا بعضهم البعض… أما الفتنة الطاقوية فلجمها مكفولٌ بشراكة قرار , ثم أن سلمية النووي الإيراني ( رغم التوفر – أو قربه – على قدرة التحول إلى عسكرة , كما حال اليابان والبرازيل مثلاً ) تتيح هامش أمان يدرأ قلق جار الشمال , وهو الذي أسهم في بناء ذلك المشروع.

ماذا تريد واشنطن من موسكو؟ لقد سعت لتغيير النظام بالقوة الناعمة وباءت بالفشل…. وتسعى لاختراق النخب بالأنجزة والتبشير… وتنازع موسكو على شرق أوروبا , والسلافي منه بالتحديد , وعلى الخارج القريب في آسيا الوسطى وفي القفقاس… وتتنازع معها على القطب الشمالي وكنوزه المخبوءة… وتذرّ قرن الفتنة بين ال20 مليون مسلم تركي وال 120 مليون أرثوذكسي سلافي… وتزيح بصرها عن حرب المخدرات الأفغانية , مستهدفةً الشباب الروسي بالعطب… وتريد من استبقاء قوة تدخل في أفغانستان , بعد انسحاب نهاية  2014 ، أن تكون منصة مرصد مصوب على الداخلين الروسي والصيني.

يصبّ في قناة واشنطن التناقص الديموغرافي الروسي – معطوفاً على نماء ديمغرافي مسلم – وأساساً بفعل المخدرات.

كيف تتقي موسكو وهن تلك الدواعي ؟ باستعادة الجاليات الروسية من الجمهوريات السوفيتية السابقة , وبالاتحاد مع بلاروسيا ومع أوكرانيا ( بعد ترويض نخبها بالغواية والضغط ) , وبتثمير تقانة رفيعة للطاقة السيبيرية.

ماذا تريد واشنطن من بيجينغ ؟ أن تبقى تحت تهديد وحماية الأسطول السابع على مضيق ملقا… أن تستمر على مسافة بيّنة , لجهة قدراتها العسكرية المعلوماتية منها والفضائية والبحرية , من نظيرتها الأمريكية….أن تُصَدّ عن مزيد من التخادم الوظيفي مع إفريقيا وأمريكا اللاتينية , بل وأن تُجلى عما نفذت إليه إن توفرت الاستطاعة…أن تُؤلَّب الهند الصينية والفليبين على حوضها البحري وكنوزه…أن يُتلاعَب بنسيجها الاثني تحريضاً لمسلميها الترك وتيبيتها البوذيين على الأغلبية الهانية الساحقة… وأن تُمكّن المسيحية الغربية مع الانتشار طابوراً خامساً جيوديني… ناهيك عن استيلاد دول – مصانع رخيصة , وفي البال هنا جنوب شرق آسيا وبنغلادش وغيرها.

كيف تجابه بيجينغ تلك التحديات ؟ بالتركيز على اليابسة بديلاً عن المحيطات , لجهة الوصل والاتصال والتواصل : طريق الحرير الجديد – بشعبتيه : واحدة الى البلطيق وأخرى الى المتوسط – ناقلاً للبضائع والبشر… بأنابيب الطاقة الإيرانية والروسية والوسط – آسيوية , العابرة لباكستان ومينامار… بانضوائها في خيمة إستراتيجية واسعة مع موسكو أولاً , ومع غيرها من الأوزان ثانياً… بدأبها على بناء قوة بحرية فارقة تستبدل بالحاملات بمدمراتها… بسعيها لإخراج جنوب شرق آسيا من لجة التلاعب الأمريكي بدوله في وجهها , عبر تأمين حصص مرضية لهم من درر بحري الصين الجنوبي والشرقي… وبتلطيها خلف كوريا الشمالية فزاعةَ تحذير لواشنطن أن هناك متهور ينغّص حياتها , مفتاحه عندها.

لكن اللغم الأكبر في وجه الصين هو القطب الحائر , الهند : والشاهد أن اليمين الهندي بالذات وصفة وبال على الهند أولاً وعلى محيطها ثانياً، لكنه – وحتى وسَطُ المؤتمر – لم يزل تحت رهاب ما فعلته الصين بهم خريف 62.

ما فتئت النخب الهندية تتأرجح بين مشروع تحالف مع واشنطن , يعتمدها وكيلاً إقليمياً في جنوب آسيا وصولاً إلى شرقها – متأثرة بهواها الإنجلوفيلي المتماهي – وبين تفضيلها نديةً أكبر مع الصين وقبلها روسيا , صديقة الماضي.

بعد الحديث عن جدلية العلاقة بين واشنطن وكل من موسكو وبيجينغ وطهران , بل ودلهي , وبين الواحدة منهن والأخرى يصبح باب تأثير ذلك كله على العرب غير قابل إلاّ للولوج.

أرصد هنا مجموعة من ظواهر ومؤشرات :

1 – إن الرهان على خروج توابع واشنطن من الهامش “على” المتن لا أساس له، فبمقدار أفول المركز فالتوابع آفلون , ومن ثم فلاهم بقادرين على التمرد على السيد لحاجتهم في نهاية المطاف إليه، ولا أحوالهم من صنف ما يقيهم من غائلات الزمان.

أسطع مثال على ذلك أحوال آل سعود : يخوضون معركة صفرية في “الشام” لا قبل لهم بكسبها… يصطرعون – بخفوت – على العرش وحواشيه , فيما على رأسهم بريجنيف وشيرننكو من نسلهم… يفور مجتمعهم بعوامل السخط والتمزق والإملاق … تكلّسهم لقرن وعقد بلغ حدود الهشاشة… ونهبهم للثروة كسر كل الكوابح.

إن كان للمرء من قدرة استقراء فهي أن الحَوْل عليهم قد حال .. ليس معنى ذلك السقوط , بالضرورة , بل انقضاء الحقبة والأفول لحد الكسوف.

2 – إن إسرائيل في حساب مالكها الأمريكي تحتاج إلى تخفيض رتبة من وكيلٍ حارس إلى امتدادٍ محروس… يقتضي ذلك إقفالاً – وإن غير نهائي أو تام – لصراعها مع العرب , وفي الصدارة منهم الفلسطينيون , يتخذ شكل أوسلو – 2 مكبّر في  الجغرافيا وممتد في الزمان لعمر جيلين ونيف , لتكون للدولة المؤقتة جغرافيا تقترب من ثلثي جغرافيا الضفة الكلية , ويتم ترحيل القضايا الأساسية من عودة واكتمال تحرير وقدسٍ بجد وجثوم استيطان كبير إلى حين لا مرئي، وتكون الدولة مرعيةً هاشمياً , وأوتوستراد تعامل فسيح مع الخليج.

عند واشنطن أن قوى الإعاقة معاقة .. وإلى حين، ثم أن النجاح في فلسطين معيضٌ عن قليله في سوريا , وسانحٌ في وقت يحسن انتهازه , وإلاّ فقد تفلت الفرصة دون ضمان سنوح لاحق… والحال أن حسابات واشنطن منطقية على السطح لكنها رجراجة في العمق , إذ أن ” المحور” لا يستطيع غض الطرف عن المبتغى الأمريكي دون نظيرٍ مرادٍ في الجولان.

3 – إن الملف الفلسطيني هو بالضرورة صنو لذلك السوري , فإسرائيل تلك منزرعة في ” الشام ” والصراع هو على ” الشام ” وهو الآن يدور في ” الشام ” كما عليها , ومن ثم فمن يودّ فهم ما يجري شمال ” الشام ” يحتاج أن يتفحص ما يدور في جنوبه… والكيماوي هنا ذو دلالة , بوليصةَ تأمين أمن إسرائيل البحت، فيما هي تنزل من مرتبة الوكيل إلى عتبة المحروس.

الملف السوري هذا لن يغلق إلا وانضواء سوريا في ” المحور” قد تكرّس… وانزراعها في الصرة الروسية قد تثبت… وبتسليم أمريكي : هذا لجهة الاصطفاف الإقليمي والكوني…التسليم ذاك لا يتعارض مع سماح واشنطن للرياض بجولة قتال مستعرة جديدة في الشام علها تتيح لكليهما شطيرة من معادلة الحكم الجديدة , فإن لاقت النجاح نالا ذلك الوطر , وإن بائت بالفشل فلهما عزاء المحاولة.

4 – إن الفُراق الإخواني – السعودي عابر للإقليم ومترجَم في التعارض السعودي – التركي حول المشرق العربي ومصر بالذات… وذلك كله عامل إضعاف للطرفين , وعنصر جذب لتركيا والإخوان صوب إيران.

بالمقابل فغرام الخليج مع مصر – السيسي لا يقف على ساق ثابتة , لا لشيء إلاّ لأن مصر لا تستطيع الانقياد إلى الأطراف فيما هي واحدة من المراكز .. ناهيك عن أن  ” الشام ” عندها جناح لا تستطيع التحليق دونه , ولا ترضى أن يصادره طرفيّ مهما ثخنت محفظته , حتى وإن أجبرتها الظروف على ملاطفته لمشتركٍ ظرفيٍ جامع , ولمنفعة مستدرّة من هذا المشترك … يضاف إلى ذلك أن الأفول الأمريكي يفسح المجال لمصر أن تمطط هامش مناورتها لحد الانفتاح الواسع على موسكو.. فإن تجذّر الأفول انزاح بندولها صوب موسكو أكثر , وإن لم فهي منزلة بين المنزلتين.

والحاصل أن اقتراب مصر من ” الشام ” سيتكامل أكثر مع تطبيع لعلاقتها مع إيران , معطوفاً على تناءٍ عن تركيا – الإخوان , فيما بصرها يمتد غرباً بنظرة صقر نحو ليبيا ، بما هي مصدر تهديد من جهة ومنبع فرجٍ من جهة أخرى , سيّما وعوائق الاّفل أقل قدرة على الإعاقة مما كانت عليه قبل ثلث قرن.

5 – إن السلفية الجهادية تحارب معركة عمرها في ” الشام ” بالتخادم مع مخابرات إقليمية عدّة , ولكن بأجندة مستقلة عن أي منها : تكرار مكبَّر لسالف تخادماتها مع الأمريكيين والباكستانيين والسعوديين والسوريين… وكلها انتهت بارتدادات قاتلة عليهم وفي داخل حدودهم ..والمثال السوري أسطع من ساطع : ظنت واشنطن أن فتح الحدود مع سوريا أمامهم , واصطراعهم مع الجيش السوري تلواً , كفيل بتكسيح الطرفين وانتشال سوريا من ضفة “المحور” إلى شاطئ الناتو , وبذا يكون كسبُها مضاعف.

ما جرى هو أن كلاً من الجيش – وحلفاءه – والقاعدة قد تقوّى بمعمودية النار والخبرة , فيما الكونترا التابعة لتوابع الولايات المتحدة الإقليمية تتهشم مع دخولها عامها الثالث , بل وتتكسر نصالها بإيقاع دالّ.

ولما كان خطر القاعدة في المديين الوسيط والأبعد كوني الطابع وعابر – إقليمي فتحمّل تجذّره في بلد فالقيٍ كسوريا غير وارد , ومن ثم فبالمفاضلة يكون الجيش أهون الشرين.

هزيمة القاعدة في سوريا لن تكون فارقة فحسب بل فاصلة .. بل وأن أثقال تلك الهزيمة شبه كفيلة بإيصال الإسلام السياسي ذاته إلى حدود التواضع والرضا بأن يكون شريكاً قنوعاً في اللعبة السياسية , على مثال الأحزاب الدينية الإسرائيلية , لا متسيّداً عينُه على الاستفراد.

6 – إن الخيمتين الكونيتين ليستا كتلتين صمائتين بل تجمعين مرنين في الشكل والمضمون : ليسا في صراع تناحري دائم , بل في تناقض تتخلله مساحات توافق , بعضها شامل للخيمتين , وبعضها عابر لهما ممتد بين عمودين , كلٌ من واحدة (  روسيا وألمانيا، روسيا وكوريا الجنوبية ).

والحال أن مكان العرب الأكيد هو في الخيمة الأوراسية بامتياز… هناك الشرق غير الاستعماري , وتراث التعاون القديم , واستهداف الغرب اللاتيني – الأنجلوساكسوني منذ منتصف السادس عشر، ناهيك عن تعاظم المصالح المشتركة في الطاقة والسلاح والتجارة والتقانة والأمن والثقافات.

ليس معنى ذلك بالقطع قطيعةٌ ناجزة مع الغرب بل تواصلٌ مع الأقل أذىً فيه أملاً بسريان عداوه لمعشر خيمته … وحتى حينذاك فبكلّ الحذر التاريخي اليقظ.

7 – يثور السؤال عند العرب : لماذا هذا الانفراج الإيراني – الأمريكي وما هي تأثيراته ؟ … والحاصل أن تذكرَ كونه حاجةً هو الفرْض , وأن رغائب واشنطن بعد الحاجة نوافل… توطد ” المحور” مكانةً وقدْراً أضحى أمر اليوم… انعكاس ذلك سلباً على ” التبعية العربية ” هو أمر اليوم التالي… وفي المحصلة فالخائبون كتركيا , أم الحائرون كمصر , سيجدون في ” المحور” حليفاً , إن لم يكن مكاناً.. وكله تحت الخيمة الأوراسية.

يأخذنا ذلك إلى فكرة جيوستراتيجية ثابتة عندي وهي أن ثلاثة قوائم مطلوبة كي تقوم للشرق قائمة هم العرب والترك والفرس ( عتف ).. لكن شرائط ذلك هي : مرجعية عربية مركزية , أقلها في سوراقيا عربية… تركيا لاناتوية… وإيران متخففة من رهاب القومية العربية.

” عتف “ هذه لا صلة لها بدعوة المشرقية المفتعلة , إذ واحد من ركائزها هي العروبة , وليست هي ما تفرُّ منه المشرقية وتزوَرُّ عنه.

والشاهد أن مشتركات الثلاثة ( بتوافر الشرائط ) هي من الوفرة ما يفيض عن أي مفرّق… فسلامة إيران الإقليمية يؤمّنها عراق موحد , وعراق موحد لا عاصم لوحدته إلاّ عروبته (85 % من مواطنيه عرب) , كما أن أمن إيران يكفله – في حيزٍ فارق منه – عراق مسالم بل صديق , وعراق صديق يعني إحساس كل مكوناته بالطمأنينة من الجار الكبير , كما في حاجته للارتكان إلى نأيهم عن الخصومة… تركيا لاناتوية تعني زوال التهديد الكامن لكل من سوريا والعراق , ولعل بروفة 57 وكارثة 11 – 14 ، أفدح دليل على تلك المقولة.

واللافت أن إخوان تركيا , أو القريبين من أجوائهم , هم كانوا – ومافتئوا – اللاهثين وراء الناتوية والملتزمين مسارها : مندريس كان من ضمّ بلده للناتو وحارب معركة حلف بغداد لحسابه… أوزال كان من شارك في حرب الناتو على العراق 91 , عبر اشتراكه في خنق الاقتصاد العراقي… أردوغان كان من رغب بالاشتراك في غزو العراق 2003 لولا ثورة قواعد حزبه وتمنع ضباطه العظام… وهو ذاته الذي ارتكب حماقة عمره في ” الشام ” بخلطةٍ ناتوية – نيو عثمانية بائسة… الاستثناء الوحيد كان أربكان , والذي لم يطل به المقام في الحكم إلاّ عاماً.

8 – ولنلحظ أن الأفول الأمريكي ليس بالضرورة من أحوال الدوام , سيما وعودة اعتلائه ناصية الطاقة كما كان الحال قبل عام 70 تعني تنامي قدرته على المناورة , وبعلم أن واشنطن خيرُ من لعب على أوتار تباينات خصومها , أو من تفترضهم كذلك , ومن اقتات على ضرب هذا بذاك والخروج بكسب… ولعل إيقاد جذوة الفتنة المذهبية أبلغ مثال… ناهيك عن تحريضها الهند على الصين , وأوكرانيا على روسيا وهلم جرا.

صعود أمريكا من جديد يستلزم تعرّض كل من الصين وروسيا لأعراض الدعث والوهن – كما سبق استعراض كوامنها – واستبقاء الدولار عملة العالم , ووقوع كل من الصين وروسيا وإيران في حبائل الوقيعة وإعلاؤهم التناقض الثانوي بين أحدهم والآخر على الرئيس.

9 – ولنلحظ أيضاً الأمر الأهم وهو أن الطريق الوحيد لوضع مكونات ” عتف “ في أحجامها الطبيعية , وفي تملّك حيزٍ فارق من خيمة أوراسيا , وفي حبس الناتو عن الاختراق والتمدد , وفي عصرِ إسرائيل إلى فاتيكان يهودية .. كله يشترط بالضرورة عروبة فحواها الجيوستراتيجيا لا الأيديولوجيا , إذ هي في التحليل الأخير , فعل ضرورة لا جميل إضافة… هي حاجة حياةٍ لأمّة , لا تتويج كرنفالي لصيرورة.

هنا الدور وهنا القدرة وهنا القدْر.. ذلك كله لمن تتسع همتهم لآمال أمتهم …. هي في العلا وأقدامهم على أرض الحقيقة.

*محاضرة ألقيت في الأونيسكو – بيروت – مساء الإثنين 18 / 11 / 2013، بدعوة من الإتحاد البيروتي.