“كنعان” تتابع نشر كتاب “مديح البياض في الخطاب الفلسطيني الممنوع” لمؤلفه محمد الأسعد

 

 

ملامح من الصراع الفكري

لو قُيض لأحد المهتمين بصناعة المعاجم مباشرة مهمة محدّدة، هي التقاط ألفاظ ومصطلحات الحياة اليومية بين الناس، ومقارنة ما التقطه بمخزون المعاجم القديمة، أو التي ترجع إلى قرن مضى على الأقل، لفاجأته ظاهرة غريبة، هي تغيّر مدلولات الألفاظ واختراع ألفاظ جديدة بمدلولات جديدة.

ولو افترضنا أن هذا المهتم من المؤمنين بالتطور، وأنه أخذ الظاهرة كمسلمة طبيعية، وبدأ بوضع معجمه الجديد، والبحث عن مدلول كل لفظ تغيّر أو استجدّ هنا أو هناك.. ماالذي نتوقعه؟

نتوقع أن يصاب بالإرتباك والحيرة، ذلك لأنه سيجد بين يديه ألفاظاً عربية أو معرّبة، ولكنه لن يجد في السياق الإجتماعي ـ التاريخي مدلولا لها، بل سيجد أن سياقات أخرى تمنحها مدلولاتها. ولو استقصى وبحث عن أصول هذه الدلالات، فسيجد نفسه قارئاً مواضباً للمنشورات الغربية عن الشؤون العربية.

مثلا، لو بحث صاحبنا عن مدلول تعبير “الشرق الأوسط”، لن يستطيع أن يجد له مرجعاً عربياً، وسيقوده بحثه إلى محفوظات وزارة الخارجية الأمريكية التي تتحدث عن مكان منسوب لها ولأهدافها. ولو بحث صاحبنا عن مدلول كلمة “السلام” الراهنة، لن يستطيع ان يجد لها مرجعاً عربياً، وسيقوده بحثه إلى بيانات الكنيست الإسرائيلي ومفاهيمها لسلام خاص يعني الحفاظ على الواقع الاستعماري الذي تكرس في العام 1948 على أرض فلسطين.

ويمكن قول الأمر نفسه عن مختلف الألفاظ الشائعة، مثل “المعتدل” و “المتطرف”، أو “المثقف” و”المتعصب”، فكل هذا السيل من الألفاظ العربية، المعربة أو المترجمة، ليس له من دلالة في الحقيقة العربية، وإنما هو ذو دلالة مستعارة، كما هي مستعارة جملة البضائع والمصنوعات التي نتداولها.

إذا تركنا جانباً احتساب الألفاظ مفردة مفردة، وتركنا صاحبنا المعجمي يقرأ الصياغات التي ترد فيها هذه الألفاظ، في الصحف وعلى ألسنة الناس، سنجد شيئاً عجيباً. فجغرافية منطقة مسماة “الشرق الأوسط”، لاتنسب بالطبع إلى من يعيشون في هذه الجغرافية، بل تنسب إلى مجموعة بشرية تعيش في أقصى الغرب. والسياق اللفظي الذي ترد فيه كلمة “السلام”، يعني سلام وأمن واطمئنان المشروع الاستعماري الصهيوني. أما “المعتدل” فهو لفظ متغيّر ورجراج، ولكن ما يحكم تغيره ورجرجته هو منظور الآخر الغربي، فكل ما وافق هواه ومصلحته كان “معتدلا”، وكل ماكان ضداً لهذا الهوى والمصلحة كان “متطرفاً”.

من نحن إذن؟

ألفاظنا ومصطلحاتنا لاتحدّدنا، ولا تقول ما نعنيه أو يعنينا، بل ما يعني “آخر” دائماً. فهو قوله الذي يعنيه حين يقول، وليس قولنا. وأي تحليل لغوي ـ إجتماعي او إجتماعي ـ سياسي، لايستطيع الهرب من هذه النتائج.

نحن لانواجه هنا مهمة معجمية أو ظاهرة تطور لفظي أو تثاقفاً كما يرى البعض، بل نواجه تشكّلاً ثقافياً آخذا بالنمو تحت ألسنتنا نفسها مهما بالغنا في الحذر. ألم استخدم مصطلحاً مصطنعاً قبل قليل، مصطلح “إسرائيلي”؟ لو أردتُ أن أكون موضوعياً لوجب أن أضع هامشاً يشير إلى الصفة المصطنعة لهذا اللفظ بوصفه لفظاً أيديولوجياً، أي لفظاً لايصف ولا يعكس حقيقة الواقع الاستعماري القائم على تجميع عدد من أفراد قوميات مختلفة في فلسطين، بل يعكس ويصف هدفاً تضليليا. ولكن من الذي يجهد نفسه لملاحقة كل لفظ أو مصطلح بهامش؟ ثم ما الذي ينتج عن ملاحقة ألفاظنا بالتفسيرات؟ ألا يعني هذا هشاشة وخواء اللغة التي نستخدمها؟

إن مجرد إحساسنا بالحاجة إلى تحديد كل لفظ نكتبه أو ننطق به، يعني أننا كأفراد ولغة في أزمة حقيقية. وأننا لم نتجاوز مرحلة الإختلاط إلى مرحلة المواضعات، أي مرحلة المتّحد اللغوي الذي نسبح فيه واثقين أنه ماء وليس مادة سامة.

ربما كان الإختلاط هو ما سيلاحظه صاحبنا المعجمي إن أصر على منظوره اللغوي، وربما كان غموض الدلالات هو ما سيجتذب بحثه إن أصرّ على الإكتفاء بوصف لغة الصحافة والإعلام والناس، ولكنه قد يصل إلى أن “القضية” في جوهرها هي إنشاء “ثقافة” آخذة في التبلور عبر مئات المنافذ إذا رفد تحليله بمنظور سياسي ـ إجتماعي.

هي “ثقافة” حقاً، بمعنى أنها مجموعة أنماط التعبير اللغوي والسلوكي. وهي “ثقافة” حقاً، بمعنى أن هذه الأنماط تنطق عن رؤيا محدّدة ذات إتجاه واحد إلى قضايا الذات والآخر. ولكن من الذي يهيمن على عملية تشكيل هذه “الثقافة”؟ من الذي يسمّي؟ من الذي يهب المنظور؟ هو ليس نحن بالتأكيد. وهذه حقيقة نصطدم بها في كل اتجاه وفي كل موضوع، ومهما كان الاسم، سواء كان اسم أكثر الأشياء خشونة أو أشدها لطفاً وسمواً. سنجد أن فعل التسمية لم يعد من مهماتنا. ولكن هذا الفعل في المقابل من أخطر المهمات. فأنت لايمكنك احتياز موضوع أو شيء إلا إذا نجحت في إعطائه هوية، ولايعطي الهوية إلا القادر، صاحب القدرة المعرفية والعملية.

هكذا ، وفي هذا السياق من العجز عن التسمية، تتجوف الألفاظ، ولا تعني ما كانت تعنيه، ولاتدل على ما كانت تدل عليه. قد تحتفظ بالمعنى، كأن يقال أن لفظ “الجماعة” يعني اجتماع عدد من الأفراد على أمر من الأمور، ولكن هذا اللفظ يفقد المدلول حين ننظر حولنا فنجد أن ما يشير إليه اللفظ ليس “جماعة” بل “تجمّعاً”، وهو مدلول ينطبق أيضاً على كومة الحجارة أو الرمل.

المهم في هذا السياق، أن ما يكاد يختفي هو القناعة بأننا يمكن أن نقوم بمهمة إنسانية، أو أننا نتمتع بقدرة خلاقة على امتلاك أنفسنا كواقع تاريخي حيّ. ذلك لأن فعل التسمية الذي يقع علينا وعلى أشيائنا من الخارج، يحدّد لنا نوعنا ومكاننا في هذا العالم، ويحدد زمننا بالنسبة لزمن غيرنا، ويحدد معنى هذا السياق؛ الماضي والحاضر والمستقبل.

لانعرف كيف يمكن أن يكون الوعي او ما سيكون عليه حين تتحكم فيه هذه التسمية الناطقة عن “آخر” ومصالحه ووجوده. قد نسميه “استلاباً” او “اغتراباً”، ولكن هذه الأسماء لاتصف حقيقة ما يحدث، ولاتقترح وسائل مواجهة هذا الشذوذ.

إن ما يحدث حقاً هو صناعة “اللاوعي بهذا الاستلاب” وتكريسه. ولهذه الصناعة طرائقها المتعددة، ولها مستوياتها المتعددة. فهي ليست مجرد زج الفاظ جديدة في اللغة المستخدمة، ولاطرحاً لوجهات نظر مختلفة، بل هو أبعد من ذلك. إنه سلب القدرة على رؤية التمايز والإختلاف، وسلب القدرة على الرؤية الشخصية، وتغذية قدرة الناطق بالعربية على رؤية المثال أو النموذج بوصفه “الآخر”، الآخر الذي يضع ثقافتنا ووعينا في الإطار المناسب له. نحن مرحلة كانت في ماضيه، أما الحاضر فهو “حاضره” الذي يدعونا للمشاركة فيه، ولخوض صراعاته نفسها، ومعالجة معضلاته نفسها. وهكذا لانجد بين أيدينا جسدنا نفسه، بل جسد الآخر. وهي الوضعية التي تتطابق تطابقا تاماً مع غياب “ألفاظنا” ولغونا بألفاظ الآخر.

هكذا تتشكل ثقافة زائفة بلا تاريخية، وهكذا يتشكل وعي زائف بلا كرامة. ويقوم هذا النوع من التشكلات على تبني منطق الآخر الغربي في نظره إلى نفسه وإلينا.

طموح أمثال هذه التشكلات هو أن تكون هذا الغير بلا توسط. وهي لن تكون. فهذا الغرب ليس مغرماً حقيقة بصناعة أشباهٍ له ونظائر كما تثبت حركة الاستعمار الراهنة والقديمة، بل هو مغرم بصناعة المسوخ، اولئك المغتربين عن ثقافة تحقق نفسها في نطاق آخر، في نطاق استعادة فعل التسمية، ثقافة تنطلق من مفهوم أن التشكل الثقافي هو واقع الشعوب في تطورها، وليس مجرد تحفة فولكلورية.

بهذا يمكن أن نسند الدعوة إلى اكتشاف ثقافة التغاير، ليس عن ثقافة الآخر الغربي، وإنما عن المسخ الكامن في واقعنا نفسه. فلماذا لاتكون لنا طريقتنا في معاينة التاريخ؟ طريقتنا في النمو على طريقتنا الخاصة؟ ولماذ لايكون لماضينا وحاضرنا سياقه الخاص؟ ولماذا، في النهاية، باسم العقلانية والموضوعية والعلمية، وهي من منتجات ثقافة الغرب، يجب ان تكون ثقافتنا إما فولكلوراً أو لغواً بمصطلحات الآخر؟

هذا التفتح ليس بعيداً عن الوقائع والتطورات الراهنة. فحين يحوّل الإنسان العربي نفسه إلى قذيفة متفجرة كما يحدث في جنوب لبنان يجب أن يتوفر قدرٌ من المراجعة النزيهة. هذا الفعل لايجد مستنده في ثقافة المهرجانات، ولا في خطب الحماسة، ولا في النصوص الشائعة. إنه يجد مستنده في عناصر ثقافة سرّية على صعيد المكبوت والمهمش والغريب، وهي أرضية لاتستطيع الكشف عنها لغة البيانات الرسمية، ولا الحقول التي حُرثت تماماً بأفعال التسمية الغربية منذ بضعة قرون.

هنا يمكن أن يُسلط الضوء حيث المسرح الحقيقي لهذا الصراع الفكري، وليس هناك في قاعات المحاضرات والرسائل الجامعية. وهذا هو المسرح الذي يعيه الغربُ تمام الوعي حين كان يثير عجب ودهشة أجدادنا وهم يرونه ينبش عن الجذور، جذورنا، ويبحث عن كل ماهو راقد في قاع البنية الفكرية. وما زال الطالب العربي والباحث مأخوذين وهما يريان هذا الكم الهائل من التفاصيل العربية التي غاص فيها علماء الغرب، من دون ان يدركا أنهما لايشهدان جهداً عابثاً لأناس عاطلين عن العمل، بل جهداً جاداً لقراءة الأرشيف السرّي لهذا الوطن ومنابع براكينه.

هل نستغرب الآن إذا عرفنا ان حصيلة التعجب والدهشة قد تطورت إلى الإحباط، ثم إلى الإمتنان من قبل العربي الذي لم يعد قادراً على قراءة جسده إلا بأبجدية لاتينية؟

إنه امتنان المغلوبين الذين يتحدثون عن “الشرق الأوسط” وكأنه شرق أوسطهم، وعن “السلام” وكأنه سلامهم، وعن “العدالة” وكأنها عدالتهم، وعن “التقدم” وكأنه تقدمهم، وعن “العالم المعاصر” وكأنه عالمهم.

ولكن المغلوبين ليسوا كل شيء في هذه الساحة. هناك عدد كبير من “الأميين” الذين لايفهمون التطور بهذه الاتجاه، أو الذين لايفهمون اللغة “العربية” في آخر طبعاتها الشائعة. هؤلاء هم الذين يبتكرون الآن لغة الجسد، القذيفة، ويستعيدون جدارة تسمية قراهم وبيوتهم وأهلهم وتاريخهم.

وهؤلاء، وهذا هو المهم، لم يخرجوا من أكداس الكتب السائرة، ولا من قصائد الشعراء، ولا من أساطير المثقفين، ولكنهم خرجوا من أحداث زمنهم. وهم ليسوا مسؤولين عن هذا المصير السيء الذي يقاد إليه ركام الكلام، ولا عن معاجم المصانع الرديئة. المسؤول عن كل هذا هم أصحاب اللغو الذي تطيح به القذيفة، وتصيبه بالخرس صرخة طفل حية. فأي نوع هي هذه الثقافة التي لايثق بها أصحابها أنفسهم، فنجدهم من أوائل الندابين على جثة الكلمة، والداعين إلى كسر الأقلام؟

إنها الثقافة التي نمت على السطح بمدلولات سياق آخر، فاختلطت عليها الأمور، وتشاغل عنها الناس إلا في ألفاظ المناسبات والمجاملات.

                                                                             14/2/1985