الرأسمالية الأميركية ومحو الآخر[1]

 

 

د. مسعد عربيد

 

ليس القصد من هذا الفصل العودة الى التاريخ، أو الحنين الرومانسي الى الماضي ولا التباكي على دماء الهنود الأصلانيين التي سفكها الأوروبيون البيض من اجل الإستيلاء على أميركا الشمالية، على جسامة هذه الضحايا. بل ان الغرض هو تعرية تزييف الأوروبي ـ الأميركي الأبيض للتاريخ والرد على إدعاءاته الكاذبة وتفنيد المقولات التي حذق في إختلاقها وتكرراها وتلقينها للأجيال الناشئة من ابنائه وخداع العالم بها. وعليه، فلن نعمد هنا الى سرد ما حدث، وهو معروف للجميع، بل سنبحث في الأسباب والدوافع والقوى المحركة لتلك التطورات التاريخية.

لقد إخترت أكثر الحقبات دموية في التاريخ الأميركي والتي تشمل البدايات المبكرة لنشأة المستوطنة الأميركية وجذور الرأسمالية الأميركية التي إقتضت بالضرورة إبادة السكان الأصلانيين للتدليل على ان محو الآخر، بما في ذلك من نهب للموارد وإبادة جسدية وحضارية، هي في صلب العقيدة الرأسمالية الأميركية منذ ان وطئ المستوطنون الأوائل شواطئ أميركا الشمالية. وعليه، فان ما نشهده اليوم من وحشية الإمبريالية الأميركية في بلادنا وغيرها من بقاع الأرض، ليس امراً مستحدثاً بل هو متأصل في التاريخ والسياسة الأميركية.

 

الكذبة الأولى: المثقف البراجوزي وتزوير التاريخ

إبادة الأصلاني وإحلاله بالغازي الأبيض

تجلت سمة الحياة الهندية في شيوع الملكية ونمط الإنتاج والتوزيع واسلوب العيش ابضاً، وهو ما لا يمكن للمفكرين الرأسماليين القبول به او مهادنته والتصالح معه. وعليه، فكما تمت إبادة الهنود الأصلانيين إبادة جسدية، كان لا بد من إلغائهم من الذاكرة التاريخية ومحو ثقافتهم وقيمهم واسلوب حياتهم وتراثهم. وهذه ليس مصادفة. لان السبب الجذري في كلا الحالتين، الإبادة الجسدية وإلغاء الذاكرة، يكمن في تعزيز المصالح المادية لأصحاب الملكية الخاصة ونط الإنتاج الرأسمالي والعلاقات الإنتاجية ـ الإجتماعية الناجمة عنه.

 

لم يأت المجتمع الأميركي الراهن، إذاً من فراغ سكاني او إجتماعي او إقتصادي في القارة الأميركية الشمالية حين وصل اليها الغزاة الأوروبيون، بل قام هذا المجتمع على تفكيك مجتميعن قديمين سبقا التشكيلة الإجتماعية الأميركية الراهنة: الإقطاعية في أوروبا والشيوعية البدائية (المتمثلة في التشكيلة الهندية الأصلانية).

في البدء، كان صدام الحضارتين، صدام المجتميعن، التشكيلتين الإجتماعيتين ـ الإقتصاديتين: الأوروبية البيضاء والهندية الأميركية حيث فقد عاش الهنود الأميركيون آلاف السنين في أميركا الشمالية وخلقوا حضارتهم ووسائل عيشهم.

وفي حين ينطق تاريخ الولايات المتحدة منذ قرون نشأتها الأولى بوقائع الصراع الدموي العنيف ضد القبائل الهندية، نرى ان المثقفين والمؤرخين البرجوازيين الأميركيين يولون الحضارة الأوروبية التي قامت على أنقاض الحياة والوجود والحضارة الهندية، كل العناية والإهتمام. كما يلاحظ تركيز مثل هؤلاء المؤرخين على الصراع الأول دون الثاني: فالمجتمع الأميركي الحديث، من وجهة نظرهم، هو وليد الحضارة الأوروبية وأساس هذا المجتمع لأنه يقوم على مسلسل طويل من “إستيراد” الأجانب من القارة الأوروبية عبر الأطلسي. أما العامل الثاني ـ محو النظام الأصلاني ـ فيتم تجاهله وطمسه بالكامل مما يعني إسقاط دور الهنود في نشوء أميركا وتطورها.

ويتمادى بعضهم في التنكر لوقائع التاريخ المعروفة والموثقة فيدعون “إن هذه الأمة على خلاف غيرها من الأمم لم تقم كدولة على أساس الفتح العسكري”. وفي المغالاة في التميز عن الأصل البريطاني يدّعي بعضهم أنك “لن تجد في التقاليد الأميركية فكرة الأرستقراطية “التي انحدرت من الفاتحين وإمتلكت حق الحكم بالوراثة”، بل ان الأميركيين البيض، على النقيض أقاموا “عظمتهم” في فترة أخذ فيها “مجتمع حر طليق يدير قارة غنية وخالية من السكان”.

 

التراكم: المحرك الرئيسي للرأسمالية

 

يشكل التراكم الرأسمالي محركاً رئيسياً، إن لم يكن الرئيسي، للرأسمالية الأميركية وتاريخها المعاصر. وعلى خلاف ما يدّعي مروجو الرأسمالية من ان هذا التراكم جلب الرخاء والوفرة للناس وخلق “المجتمع الأميركي السعيد”، فانه بمآله الطبيعي يتسبب في إنعدام المساواة والتكافؤ بين الناس الذي يشكّل سمة أساسية وبنيوية للرأسمالية. وهذا يؤدي، في مجمل تداعياته وآثارة على الإنسان والمجتمع، الى فوارق طبقية وإجتماعية وإقتصادية لا تفتأ تتعاظم لتتحول الى تناقضات تناحرية لا تحسم إلاّ بتصفية أحد طرفي الصراع للآخر.

تكمن احدى الخصوصيات الرئيسية للتراكم الرأسمالي في أميركا في انه لم يكن حصيلة التطور الطبيعي للتشكيلة الإجتماعية ـ الإقتصادية في سياقها التاريخي. لان الكيان الإستيطاني الأوروبي الأبيض في أميركا الشمالية والذي سُمي فيما بعد الولايات المتحدة الأميركية لم يكن استمراراً إجتماعياً طبيعياً ولا امتداداً تاريخياً للمجتمع الذي كان قائما ومزدهراً قبله: التشكيلة الإجتماعية ـ الإقتصادية للهنود الأصلانيين. وبالمنطق ذاته، فان الرخاء الذي ينعم به المواطن الأميركي اليوم في ما يسموه “دولة الرفاه” لم يتأتى حصيلة الإنتاج القومي الأميركي ولم يقم على سواعد الأميركيين البيض بل على إبادة وإستغلال الملايين من الهنود والسود في العملية الإستيطانية والإنتاجية في أميركا من جهة، وعلى نهب ثروات وموارد شعوب العالم الثالث لعقود طويلة، من جهة أخرى.

لقد شكل الأفارقة الذين إستحضرهم الأوروبي الأبيض الى شواطئ أميركا الشمالية المادة البشرية والفعل الأساسي لأكبر وأسرع عملية تراكم رأسمالي (الرأسمالية الأميركية) في التاريخ البشري. وقبل إستحضار العبودية الى أميركا الشمالية كانت إبادة الهنود الأصلانيين قد شكلت الأساس المادي لهذه الرأسمالية وما حققته من تراكم فيما بعد: إغتصاب الأرض وإستغلال الهنود والعبيد في العملية الإنتاحية (الإقتصادية) الأميركية. أما المفارقة المؤلمة فتكمن في ان هؤلاء الهنود الأصلانيين والسود الأفارقة الذين وفروا المقدمة المادية والتاريخية لنشأة الرأسمالية الأميركية، كانوا في الآن ذاته ضحيتها الأولى والكبرى. وهي وإن كانت مفارقة، إلا انها يجب ألا تثير إستغراب او فضول أحد لانها في تناغم تام مع طبيعة رأس المال كنظام شمولي في بطشه وظلمه وإستغلاله.

للتأكيد على ما نقول نسوق ما حدث في ليبيا كمثال من التاريخ المعاصر. فما زلنا نتذكر حين جادل كثيرون قبل ان غزا الغرب الرأسمالي (الأميركي ـ الأوروبي) ليبيا (عام 2011)، ان الولايات المتحدة لن تتدخل عسكرياً في هذا البلد بسبب الأزمة الإقتصادية التي تمر بها. ولم تكن ليبيا بالطبع الحالة الأولى التي تطرح فيها مثل هذه الحجج، إلا ان أميركا كانت تتدخل عسكرياً وبكلفة هائلة يتم تسديدها، او تسديد القسط الأكبر منها، بضخ المزيد من اوراق النقد او يقوم “عرب النفط” في السعودية وقطر والكويت وغيرها من إمارت الخليج بدفع ثمن هذه الحروب. فالدولة الامريكية فعلا لا تدفع جزءاً من تكاليف حروبها، ولا تدفع ثمن عجزها التجاري والميزاني وديونها الداخلية والخارجية، اذ ان إيداعات الدويلات النفطية والثرية وغيرها و”صناديقها السيادية” تتكفل بالامر، ولو اجرينا حساباً بسيطاً لمجموع مديونيات وعجوزات امريكا، لوجدنا انه يقل قليلا عن كل تلك الموارد، ولو كان غير ذلك، وحتى من منظور الرأسمالية نفسها وقوانينها، لأفلست الدولة وإنفجر المجتمع من داخله. كما ان الصين لوحدها تتكفل باكثر من ثلث المنتوج الداخلي الاجمالي عبر الديون والتصدير الى السوق الامريكية.

تلك هي، دون مواربة وببساطة قد تبدو مذهلة، قصة “أميركا” وحقيقة ولادتها، وهذا هو منطق رأس المال وطبيعة تناقضاته البنيوية والنتيجة الحتمية التي يؤول اليها.

سنخص الهنود الأصلانيين في هذا الفصل لا من باب التقليل من دورالسود الأفارقة في بناء الدولة الأميركية، بل للكشف عن الحقبة المبكرة من نشوء “أميركا” قبل إستحضار الأفارقة اليها وهي الحقبة التي عمد مثقفو ومؤرخو البرجوازية الأميركية الى تزييفها وطمسها بكل خساسة وإزدراء بالأمانة العلمية والأكاديمية والتاريخية، كي يفرشوا الطريق ل”منظومتهم” من المفاهيم والقيم منتحلين الفضل فيها للمركزانية الأوروبية ـ الأميركية والحضارة الغربية.

الأبيض والآخر

إتسمت علاقة الأوروبيين البيض بالهنود الأصلانيين منذ البدء بمبدأ “الإخضاع” الذي فرضه الأبيض على اساس الإستغلال الطبقي والفوقية العِرقية (التمييز العِرقي والعُنصري)، وهو ما زال يحكم علاقة الأوروبي الأبيض بالآخر، أي بغير الأبيض، حتى يومنا هذا. فمنذ ان حط الغزاة الإسبانيون الاوائل اقدامهم على السواحل الأميركية، أبدى البيض الأوروبيون (الإنكليز والفرنسيون والهولنديون والبرتغاليون ولاحقاً الأميركيون) كل اشكال العداء للهنود، سكان البلاد الأصليين. وقد انطلق هذا العداء على أساس العِرق ولون البَشْرة وتفوق البيض وأفضليتهم، وانه ليس لهؤلاء الهنود اية حقوق، بل والأبعد من ذلك وهو ان الرجل الأبيض له الحق، بحكم انحداره من العِرق الأبيض بالنسل والولادة، في إذلال الهندي وإخضاعة لسيطرته وإستغلاله لمصلحته. إلاّ ان هذا العداء، والذي كثيراً ما اتخذ مظاهر العِرقية والكراهية المفرطة، يجب ألاّ يخفي الطابع الطبقي (المصالح الطبقية) المتأصل في علاقة الرأسمالي الأبيض بالآخر.

لا حاجة للإستفاضة في وصف هول الإبادة الجسدية الجماعية التي اقترفها البيض ضد الهنود الأصلانيين، فحقائق التاريح لا تخفى على أحد. لكننا نذكر هنا مثالاً واحداً على وحشية هذه الابادة وهو جزيرة هسبانيولا Hispaniola الكاريبية والتي وصلها كريستوفر كولومبس في بداية رحلاته. كان عدد سكان هذه الجزيرة الآمنة عام 1492 (عام الغزوة الأوروبية الاولى التي تلت سقوط غرناطة) 300 الف نسمة، ثم تدنى في عام 1508 بسبب جرائم القتل والإبادة الى 60 الف وإستمر في التناقص حتى اصبح عدد سكان الجزيرة 500 نسمة فقط عام 1548. اي ان كولومبس أباد سكان الجزيرة بالكامل وكذلك فعل “رفاق دربه” وعلى مدى قرون أربعة، من الإنكليز والفرنسيين والهولنديين وصولا الى “الأميركيين”. أما في القارة الأميركية الشمالية، فقد إستمرت عملية إبادة الهنود الأصلانيين ونهب اراضيهم ثلاثة قرون الى ان تم إخضاعم لهيمنة الأبيض والقضاء على كافة أشكال مقاومتهم.

نخلص الى ان علاقة الأوروبي الأبيض (لاحقاً الأميركي) بالهندي الأصلاني والأسود الأميركيين، إتسمت في كل محطة من محطات التاريخ الأميركي ـ منذ قدوم المستوطنين الأوروبيين الاوائل الى يومنا هذا ـ باشكال مختلفة من الفوارق العميقة والتناقضات والصراعات. ففي كل مجالات التقدم والإزدهار التي أحرزها الأبيض في حياته وحرياته ورفاهيته ومستواه المعيشي والإقتصادي، كان الهنود والسود مَنْ دفع الثمن (مع إختلاف الحقبة التاريخية وحيثياتها بين الإثنين) من شغلهم وعَرَقِهم وحريتهم بل ومن أرضهم وحياتهم ووجودهم. وكل إثراء للأبيض جاء على حساب إفقار الآخريْن. وكذلك كان الأمر في كل سلطة سياسية وقوة إقتصادية وإجتماعية حققها الأبيض، نجد انها قامت على حساب السود والهنود وخسارتهما للسلطة ومواقع القوة. بكلمة، كل ثراء للقلة في الولايات المتحدة وزيادة في دخلها أتى في الأصل والمصدر، وما زال، من إفقار الأغلبية.

في هذه الخلاصة مصداقية للحكم الذي توصل اليه كارل ماركس عندما وصف درجات الجشع الرأسمالي بقوله “بنفس المقدار الذي يتضاعف به معدل الربح يتنازل الرأسمالي عن جوهره الإنساني”، ومصداقية لمقولة الامام علي بن ابي طالب التاريخية بخصوص الفقر والغنى، اللذين يشكلان تجليين طبقيين متزامنيين في سياق إجتماعي واحد، عندما تطرق الى التباين الإجتماعي المتعارض، بقوله “ما إغتنى غني الا بما إفتقر به فقير”.[2]

أميركا قبل غزوة الأوروبي الأبيض

لم تعرف أميركا الشمالية ومَنْ عاش عليها من قبائل هندية لآلاف السنين قبل وصول الغزاة البيض الفوراق الطبقية بين السيد والعبد، والمستغِل والمستغَل، والغني والفقير، وهي ذات التناقضات التي ما فتأت تتفاقم وتتعمق منذ تلك الآونة مع إختلاف الأشكال والتجليات، وتغلغلت في كافة فئات وطبقات المجتمع الأميركي المعاصر. فالرأسمالية كنظام إجتماعي ـ إقتصادي بطبيعة بنيته وآليات عمله، تنتج هذه الفوارق والتناقضات الطبقية.

شكّل الرجل الأبيض، منذ لحظة وصول المستوطنين الأوائل، مجتمعه الجديد على أساس طبقي: فئات وطبقات إجتماعية ذات مواقع وإمتيازات متفاوتة، وعلاقات إجتماعية تقوم على هذه الفوارق العميقة بين مَن يملك كل شيء ويجني الأرباح ولكنه لا يعمل، ومَنْ يعمل ولا يملك شيئا ولا حتى قوت يومه او حقه في البقاء.

منذ البدء هيمن الأرستقراطيون البيض (القلة) على العامة (الأغلبية) واستولوا على مواقعهم إما بواسطة النفوذ المالي (الثراء) أو السياسي أو “بالوراثة والنسل”، وهكذا تمركز الرأسماليون في شمال البلاد وأسياد العبيد في ولاياتها الجنوبية، فأثروا واصبح الكثيرون منهم مليونيريين بل مليارديين.

وضعت هذه القلة الحاكمة نفسها فوق العامة، فوق جماهير الشعب بما فيها العبيد الأفارقة والعمال المهاجرين من ملوني الجنوب اللاتيني وآسيا فضلاً عن السكان الهنود الأصليين. وأخضعت هذه القلة الحاكمة لمصالحها الطبقية كل موارد ومؤسسات المجتمع والدولة بما فيها المؤسسات الديمقراطية الحقيقية التي كان الهنود الأصلانيون قد طوَّروها عبر قرون طويلة تجربتهم الإجتماعية ومسيرتهم التاريخية والحضارية.

سوف نعرض فيما يلي وبايجاز بعض السمات العامة للتشكيلات الإجتماعية ـ الإقتصادية التي إزدهرت في أميركا الشمالية قبل وصول المستوطنين البيض مجتمعات هندية أصلانية، وذلك للتدليل على حتمية التناقض بينها وبين الرأسمالية الأميركية التي عمدت منذ نشأتها الى تصفيه هذه التشكيلات وكافة أشكال إنتاجها وحياتها وإنجازاتها لتفسح المجال لقيام الدولة الأميركية الرأسمالية: أميركا اليوم.

سمات التشكيلة الإجتماعية ـ الإقتصادية الهندية

 

1) نمط الحياة القبلية

 

إنتظمت التشكيلة الإجتماعية ـ الإقتصادية للهنود الأصلانيين في إطار المئات من القبائل الصغيرة والكبيرة التي كانت موزعة في أطراف القارة الأميركية الشمالية والتي شكلت وحدات إقتصادية ذات إكتفاء ذاتي تجمع بينهم صلة القرابة والعلاقات الأسرية وقد تميزت هذه التشكيلات بالإلتصاق بالأرض والتمسك بمواردها الطبيعية، فكانت الرابطة بينهم وبين الأرض تفوق في كثير من الأحيان، الرابطة بين القبائل بعضها ببعض. ويرى بعض المؤرخين والمحللين ان هذا كان احدى الميزات السلبية في الصراع مع الأروربي الأبيض حيث لم تكن القبائل الهندية متوحدة في مقارعتها لهؤلاء الغزاة مما ساعد على زرع الفرقة بينها وتأليب قبيلة على أخرى. فبالرغم من الهوية المشتركة والبنية الإجتماعية ـ الإقتصادية المتشابهه التي كانت تجمع بين القبائل الهندية، إلاّ ان رابطة المصالح المشتركة كانت ضعيفة.

 

ومع تطور الظروف والأوضاع المادية، وبسبب شحة ومحدوديات اقتصاد الصيد الذي ساد في تلك الآونة، كان لا بد للهندي من ان يطور الزراعة ورعاية الماشية، مما نقل الإقتصاد من انشطة “جمع” الغذاء وتحصيله من مصادر الطبيعة، الى “إنتاج” الغذاء. إلاّ ان الهنود ظلوا متمسكين بالتواضع في المأكل وإستهلاك القليل منه بما لا يتجاوز إحتياجاتهم، فاكتفوا، على سبيل المثال، بحوالي اربعين صنفاً من المزروعات كان أهمها الذرة والحبوب والبندورة والبطاطا.

أمّن العمل الزراعي وتطوير نمط الإنتاج الزراعي ـ الذي استند اساساً الى إنتاج الذرة ومنتوجاته الغذائية ـ للهنود إستقراراً ومنحهم فرصة بناء القرى الهندية الصغيرة حيث ترعرعت الجماعات السكانية وازدهرت الحياة الهندية الأميركية وحضاراتهم الثرية وخصوصاً حضارات قبائل المايا والآستك في المكسيك Maya, Aztec. إلاّ ان الإنتاج الزراعي الهندي ظل بدائياً إذ لم يطور الهندي الآلات والمعدات اللازمة لمضاعفة الإنتاج والإيفاء بالإحتياجات الغذائية المتزايدة للهنود بفضل النمو الديمغرافي وارتفاع تعداد القبائل الهندية،[3] فبقي متخلفاً من الناحية تطوره التكنولوجي إذا ما قورن مع ما أحضره الرجل الأبيض معه من وسائل وأدوات كان قد طورها وحسنها عبر عملية تاريخية وتراكمية طويلة. وقد شكّلت هذه التحسينات التكنولوجية لاحقاً حجر الأساس في البنية الرأسمالية الأوروبية البيضاء في أميركا الشمالية. غير انه تجدر ملاحظة ان الأوروبي الأبيض قد أحضر معه، فضلاَ عن التحسينات التكنولوجية والوسائل التقنية، أشكالاً مختلفة من الملكية وقيماً غريبة عن نمط الحياة الهندية: وأقصد هنا أشكال الملكية الخاصة والعلاقات الإنتاجية والإجتماعية المعبرة والناتجة عنها.

 

الملكية المشاعة

 

لم يعرف الهنود الأصلانيون يوماً ما يسمى بـ”الملكية الخاصة للأرض”. فالأرض عندهم كانت وسيلة الإنتاج الرئيسية ولكنها كانت ايضاً مصدر كل الخيرات. وحتى لحظة وصول الأوروبي الأبيض الى شواطئ أميركا الشمالية، لم يكن هناك فدّان واحد من المحيط الأطلسي الى المحيط الهادئ، مما يكمننا اعتباره ملكية خاصة لفردٍ ما يتصرف به كما يشاء او يستخدمه لغير ما هو مشاع وجمعي او لما لا يعود بالنفع على القبيلة باسرها. بالطبع كان للهنود الأميركيين بعض أشكال الملكية الخاصة (المقتنيات والممتلكات الشخصية البسيطة). إلاّ ان ما أقصده هو ان سكان أميركا الشمالية الأصليين لم يعرفوا اياً من أشكال الملكية الخاصة بالمفهوم الرأسمالي والأوروبي الأبيض: اي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتوزيع الثروة. كما أن ملكية الهنود لإحتياجاتهم الأساسية في الإنتاج الإقتصادي (الصيد والزراعة) وفي الحروب والدفاع عن الأرض بقيت ملكاً مشاعاً وجماعياً للقبيلة باسرها. وكذلك كان الأمر لدى توزيع منتوجاتهم والتي كان يتم توزيعها على كافة أفراد القبيلة.

وتجدر الإشارة في هذا المقام، الى انه على النقيض من الملكية المشاعية والتي هي السمة الأساسية التي قامت عليها بنية الحياة الهندية الأميركية وتشكيلتهم الإجتماعية (القبلية)، فان البرجوازية الأميركية تقوم على الملكية الخاصة كبديل للملكية المشاعة ولأي شكل من اشكال الملكية الجماعية والعمل الجمعي يتناقض مع مفاهيم وقيم، وبالطبع، مصالح البرجوازية الأميركية. لذا فان البرجوازية الأميركية ومثقفيها يطمسون هذه الحقائق ويدفنونها تحت الأرض ولا يريدون معالجتها ولا مواجهتها. وبشكل عام، هذا هو ما نراه في موقف الرأسماليين من الحضارات والشعوب الأخرى (العراق كمثال صارخ لعداء الرأسمالية لحضارة وثقافة الشعوب العريقة) وأشكال الشيوعية البدائية.

ولا يَلقى هذا الأمر إهتمام هؤلاء المثقفين (من مؤرخين وأكاديميين ومفكرين وكتّاب) ولا يثير فضولهم. ولا يغير من هذا الأمر شيئاً ان هذه الحضارة الهندية كانت فجر التاريخ الأميركي، فقد رسخت المصالح والحسابات الطبقية هذه الميل نحو كبت وقمع هذه المفاهيم حول الحضارة الهندية وصولاً الى محوها. فانتشار مثل هذه الأفكار يشكّل خطراً على الطبقة الحاكمة وأيديولوجيتها. ولان هذا من شأنه ان يثير الشكوك حول مصداقية وتأبيد الملكية الخاصة والتي عليها تقوم اسس ومعايير الإقتصاد الرأسمالي ونمط الحياة الرأسمالية.

 

2) نمط الإنتاج: الشيوعية البدائية

يشكل نمط الإنتاج وتوفير الإحتياجات المعيشية اليومية، النابع من البيئة الجغرافية والظروف الإقتصادية، العامل الرئيسي في التناثر الجغرافي للهنود الأميركيين وتوزعهم على قبائل صغيرة منفصلة عن بعضها البعض. وعلى الرغم من إختلاف الظروف التي عاشت تلك القبائل في ظلها، وإختلاف الواحدة منها عن الأخرى ومن منطقة الى أخرى، بما فيها إختلاف نمط الإنتاج، إلاّ أن السمات الأساسية للبنية الإقتصادية ظلت مشتركة بين هذه القبائل. فعلى سبيل المثال تطور إقتصاد الصيد على إختلاف أنواعه، صيد الأسماك أو الثيران أو الغزلان، والى حدٍ ما أشكال الإنتاج الزراعي المختلفة، ليتوافق مع العيش في بقعة جغرافية محدودة يسيطر عليه الهنود ويستطيعون التحرك داخلها.

على أرضية هذين العاملين، تنوع الظروف البيئية والإقتصادية وإختلاف نمط الإنتاج، تشكّلت البنية الإجتماعية للقبائل الهندية وتكامل نموها وتطورها من حيث تنظيم شؤونها وسن القوانين التي تحكمها وتضبط احوالهم، فجاءت القوانين لتتوافق مع الأوضاع الإقتصادية ومع نمط الإنتاج. وعلى وقع خطوات هذه المسيرة في التطور شكّل الهنود الأصلانيون في أميركا عاداتهم وتقاليدهم وطرائق عيشهم ورؤيتهم للبنية الإجتماعية (القبلية) وتوزيع القوى العاملة والعلاقات بين الجنسين والعلاقات العائلية، فضلاً عن انشطة حياتهم الأسرية والإجتماعية. وبسبب هذين العامين وأثرهما الإقتصادي، توزع الهنود على مئات من القبائل الصغيرة والوحدات الإجتماعية والقبلية المتناثرة على مدى حيز جغرافي شاسع في عرض أميركا الشمالية وطولها.

في مواجهة هذه البنية الإجتماعية ـ الإقتصادية المتماسكة على مدى قرونٍ طويلة، لم يكن امام الأوروبيين البيض في صراعهم مع سكان البلاد الأصلين وفي مسعاهم للإستيلاء على الأرض أي خيار سوى إقتلاع الهنود من أراضيهم وتشريدهم وإبادتهم.

 

3) الأرض: مصدر الحياة

(موقفان متناقضان من مسألة الأرض)

 

الأرض من منظور الهندي الأصلاني

 

لعبت الأرض (إمتلاكها وإستخدامها وإستثمار ثرواتها وتوزيع خيراتها) دوراً مركزياً في كافة مراحل التاريخ الأميركي، منذ قدوم الغزاة الأوروبيين وعبر صراعهم الوجودي مع الهنود الأصلانيين مروراً بصراعهم مع العرش البريطاني وانفصالهم عنه (ما يسمى بالثورة الأميركية) وصولاً الى الحرب الأهلية الأميركية ومسألة الأرض في الولايات الجنوبية. وفي كل محطة من هذه المحطات التاريخية، وفي القلب منها، كانت ملكية الأرض هي المحور المركزي للصراع، لذلك شهدنا انتقال ملكية الأرض عبر المراحل التاريخية المختلفة من يد الى يد ومن عِرق الى عِرق وبين الأفراد والطبقات ايضاً.

كانت الأرض عند الهندي الأميركي منبع الحياة ومصدر الماء والغذاء وكل الخيرات، وعلى سطحها وفي جوفها تختزن ثروات الحياة والطبيعة. وكذلك تصدرت الأرض موقعاً متقدماً ومركزياً في ثقافة الهندي الأصلاني ونظم قيمه وفلسفته وحتى تعبده. وعليه، لم تقتصر علاقة الهندي بالأرض على حياته الإنتاجية والإقتصادية، بل طالت كافة مناحي حياته الإجتماعية والروحية والفلسفية والدينية. على هذا النحو نسج الهندي علاقته بارضه، وهكذا أحبها فكان مالكها الطبيعي. توارث الهنود هذه القيم مع تقادم عيشهم على تلك الأرض فتمسكوا بها وحافظوا عليها حفاظهم على حياتهم ووجودهم ومستقبلهم. ولهذا، دافع الهندي عن أرضه حتى الموت وحارب الغزاة من المستوطنين البيض كما حارب في كثير من الأحيان القبائل الهندية الأخرى عندما حاولت تلك غزو أرضه والإستيلاء عليها.

لم يستشرف الهنود الأميركيون يوماً، ولم يتوقعوا ان تُغتصب أرض اجدادهم ومصدر حياتهم وان تصبح سلعة تُباع وتُشترى. لم يكن هذا ليخطر على بالهم، حتى بعد مرور سنوات طويلة على الغزوة الأوروبية لبلادهم. بعبارة أخرى، لم يصل الى وعي الهندي الأصلاني أن إغتصاب الأبيض لأرضهم وحرمانهم منها، الى درجة الإدراك الفردي او الجمعي او الى مستوى المعرفة والتجربة الجمعية، بل كان مستهجناً ومرفوضاً وغير مفهوم لديهم.

قد يستعصي علينا في هذا العصر، وقد ولجت الرأسمالية الى قرنها السادس في تاريخ البشرية وما إبتلينا من مفاهيهم وسلوك الإستهلاكية الرأسمالية المهيمنة على كافة مناحي حياتنا، ان نعي ان الهنود الأصلانيين لم يفهموا ان الأوروبي الأبيض حين كان يقايضهم بارضهم ويعطيهم نقوداً او سلعاً أخرى، ولم يكونوا يعون ان هذه المقايضة تعني إنتقال ملكية الأرض وان هذا “التبادل التجاري” كان يعني التخلي عن حقهم في أرضهم وحرمانهم من إستخدامها الى الأبد. فمثل هذه المفاهيم كانت غائبة بالكامل عن فهمهم وإدراكهم ولم يكن لها اي وجود في قيمهم وأسلوب حياتهم.

الأرض في الذهنية الرأسمالية ـ الأروربية البيضاء

 

على خلاف عقيدة الهنود الأصلانيين، اختزلت مسألة الأرض في الذهنية الرأسمالية في ملكيتها. فالملكية الخاصة للأرض (ولكافة وسائل الإنتاج) تظل دوما في ايدي رأس المال. في هذه الحقيقة، على وضوحها وبساطتها، يمكننا ان نختصر التاريخ الأميركي على مدى قرونه الأربعة وهو ما يشهد عليه الواقع الراهن: فَمَنْ يملك أفضل الأراضي اليوم في أميركا هم البنوك وشركات التأمين والشركات الرأسمالية الكبرى وبعض الكنائس، اي القلة الثرية (الأوليغارشية).

في كل هذا، كان للأوروبي الأبيض، ذي النزوع الجامح نحو الربح والإثراء، رأياً مختلفاً. فقد نظر الى الأرض وما عليها من خيرات وبشر من خلال عيون أتت من بعيد، ومن سياق حضاري وتاريخي مغاير، ومن ثقافة قامت على اسس ومفاهيم مناقضة لقيم الهندي الأميركي، والأخطر ان نظرة المستوطن الأبيض للأرض جاءت في إطار مشروع إستيطاني يسعى الى الإستيطان اولاً فالهيمنة فالنهب. وعليه، كان كل شيء، بما فيه الأرض والإنسان وكل خيرات الطبيعة، سلعة يمكن تحويلها الى ملكية خاصة تعني ببساطة، من منظوره، حقه الحصري في تلك الأرض (السلعة) وحرمان الآخر أفراداً وجماعات، بل والبشرية جمعاء، من استخدامها للمصلحة العامة او من خلال الملكية الجمعية والمشتركة لخيرات الطبيعة وثرواتها. كانت تلك هي “طبيعة الأمور” وعاديات الحياة لدى الأوروبي الأبيض التي حملها معه عندما غزا الشواطىء الأميركية. ففي حين استخدم الهندي الأصلاني الأرض من اجل الصيد او الإنتاج الزراعي والإيفاء بالإحتياجات الإنسانية في الغذاء والبقاء، سعى الأوروبي الأبيض الى الإستيلاء على الأرض وامتلاكها لمنفعته الخاصة، وذلك من أجل بسط سيادته عليها وإستغلال خيراتها لاقامة مُلكية الأثرياء. وحيث تطلب مشروع الربح والإثراء هذا الإستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي واستخدامها في الزراعة على نطاق تجاري واسع، قام الأوروبي الأبيض بتدمير الأشجار والغابات كي يستخدم الخشب في بناء مستوطناته ومصانعه والمتاجرة بالإخشاب، أي من اجل الملكية الخاصة والسعي وراء الربح والتراكم الرأسمالي.

يمكننا ان نوجز القول دون تحامل بانه لم يكن في ذهن الأوروببين البيض، حين غزوا أميركا الشمالية (والجنوبية ايضاَ) سوى امر واحد: ان هذه الأرض وكل ما عليها وكل ما تنتجه يؤول الى واحد من إثنين: ملكية الفرد وثروته، او ملكية الملك (الدولة) في أوروبا وبالطبع الكنيسة ايضاً. ولم يكن الإنسان، الذي عاش على هذه الأرض لآلاف السنين قبل قدوم الاوروبي الأبيض، استثناءاً لهذا القانون الإجرامي. وعليه، فالغازي الأبيض لم يغتصب الأرض وحدها بل والإنسان أيضاً. وكما اصبحت الأرض مصدراً للزراعة وتربية الماشية، كذلك رأى الأبيض في الهندي الأصلاني سلعة وملكية خاصة وأجيراً للصيد ورعاية الماشية وغيرها.

كانت حصيلة هذه التطورات وتناقل ملكية الأرض مراراً وتكراراً، أن إنتهت ملكية الأراضي الصالحة للري والإنتاج الزراعي أو اغلبها على الأقل، في أيدي القلة من الأثرياء، بما فيها الأراضي التي تملكها الحكومة حيث كانت الحكومة، وما يطرأ عليها من تداولٍ للسلطة وتغيرات في الأجهزة والمؤسسات الحكومية، الخادمة الأمينة لمصالح الطبقة الرأسمالية، الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة.

قد يقول قائل ان ملكية الأبيض للأرض إستحضرت وسائل التقدم التكنولوجي والإزدهار الإقتصادي. وهذا صحيح. ولا أخال ان بيننا مَنْ يعارض التقدم البشري في كافة مجالاته (التكنولوجية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية)، إلاّ ان مربط الفرس كان دوماً، من منظور رأس المال إلاّميركي، أن مَنْ يملك الأرض هو الذي يتحكم بتوزيع الثروات.

لذلك كان تدمير الشيوعية البدائية ضرورة تاريخية لنشأة وتطور الرأسمالية الأميركية، لان هذا النمط الذي طوره الهنود الأصلانيون لحياتهم وإنتاجهم وإقتصادهم إستند في الجوهر الى الملكية المشاعية للأرض وخيراتها ورفض كافة اشكال الملكية الخاصة لها ولغيرها من وسائل الإنتاج حتى الماء والغذاء وغيرها من المقتنيات. وبوسعنا ان ندفع بهذا التحليل الى الأبعد لنقول: ان نشأة الرأسمالية الأميركية والعلاقات البرجوازية في المجتمع الأميركي (الجديد) وعلى هذا النحو السريع والمدهش، كانت مرتبطة بالقدر وبالوتيرة التي كان يتم فيها تدمير البنى والمؤسسات الماقبل رأسمالية، اي بنى ومؤسسات التشكيلة الإجتماعية ـ الإقتصادية للهنود الأصلانيين.[4]

 

حول طبيعة التناقض: عِرقي أم طبقي؟

كان التناقض ـ الذي حكم العلاقة بين الأوروبي الأبيض والهندي الأصلاني منذ كانت المواجهة الأولى بينهما وضبط حراكها ووتيرتها الدامية ـ في جوهره تناقضاً بين نمطين من الإنتاج والأهداف والمفاهيم. لذلك راى الهندي الأميركي انه لا محالة من مقاومة الأبيض وإقصائه عن الأرض إن كان له ان يحافظ على وجوده ونمط عيشه واقتصاده ومؤسساته اي الحفاظ على الشيوعية البدائية التي طوروها عبر قرون عديدة وتناقل إرثها ومفاهيمها عبر الأجيال.

أودت هذه الحروب الدامية، التي شملت ايضا الحرب الجرثومية، حيث تسجل الرواية التاريخية ما لا يقل عن 91 حالة ابيدت فيها مجموعات قبلية هندية بمرض الجدري القادم من أوروبا، الى تشريد الهندي الأصلاني وإبادته عبر مشروع طال عقوداً طويلة وتحققت اهدافه على مراحل متعددة، بالرغم من المقاومة والصمود اللذين أبداهما الهنود، مما إضطرهم الى تغيير بعض عاداتهم وتقاليدهم وحتى قيمهم من اجل الحفاظ على بقائهم والتكيف مع الواقع الجديد: الواقع الذي فرضه الأوروبي الأبيض وهيمن فيه بقوة العنف المسلح على الأرض والإنسان. فقد اخذ الهنود الأصلانيون خلال هذه العملية الطويلة، على سبيل المثال، باستخدام الاحصنة واقتناء البنادق لصيد الجواميس والغزلان على نطاق واسع وطريقة اكثر نجاعة.

 

لقد كتب مؤرخو البرجوازية الأوروبية البيضاء سردهم لتاريخ أميركا، من منظور المركزانية الأوروبية ورؤية الغرب الرأسمالي وبوحي من المصالح الطبقية للرأسمالية الحاكمة في أميركا. ربما نستطيع في هذه الجملة على بساطتها، ان نختزل ما يتعلمه الأميركيون في مدارسهم وما يتلقنه العالم عن صورة أميركا حاضراً وماضياً، تلك الصورة التي يقدمها السياسي والمثقف والإعلامي الأميركي المدججون بالادعاءات الكاذبة والمتسلحون بامكانيات مادية وتكنولوجية هائلة.

يريد الخطاب الرأسمالي والمركزاني الأوروبي ان يوهمنا ان الصراع بين الأوروبي الأبيض والهندي الأصلاني كان صراعاً عِرقياً. ولا شك ان الكراهية بين هذين العِرقين شكلت احد الأبعاد والعوامل الهامة في تسعير الإقتتال بينهما. إلاّ ان هذا الصراع، في العمق والجوهر، كان، كما ذكرت أعلاه، صراعاً إجتماعياً طبقياً بين نمطين إجتماعيين ـ إقتصاديين متناقضين حيث جاء النمط الغازي حاملاً مشروعه في الإستيلاء على الأرض ونهب مواردها، ومدعياً التفوق على الأصلاني فَهَبَّ هذا الأخير للدفاع عن مصالحه ووجوده ومستقبله. وبعد ازاحة القشرة العِرقية ولون البَشْرة فان التناقض يبقى تناقضاً إجتماعياً طبقياً تناحرياً حول مصادر الثروة وامتلاكها (أرض وموارد طبيعية وبشرية) وتوزيع إنتاجها. لهذا، وبسبب الطبيعة التناحرية لهذا التناقض، لم تكن هناك امكانية للمصالحة بينهما او الحلول الوسطية والتوفيقية، فهو صراع وجودي شامل بامتياز، تماما كما هو الأمر في فلسطين المحتلة. لم يكن هناك حيزاً للتناغم او التعايش فكان على احد النمطين ان يدمر النمط الآخر ويزيله كما يزيل المرء حجر عثرة في طريقه. وهذا ما حصل.

خاتمة

 

■ ان فهم عملية انتقال المشاعية الهندية القديمة الى انماط الإنتاج القائمة على اساس الملكية الخاصة، يسلط الضوء على القوى المهيمنة في المجتمع الرأسمالي و يسعفنا في فهم الآليات التي استخدمتها وتستخدمها هذه القوى في الوصول الى ما نحن عليه اليوم: أميركا كما نراها.

فهذا المجتمع، وهذه الرأسمالية ونظامها وانجازاتها لم تقم على سواعد أبنائها وعَرَقِهم ولا بفضل عملهم الدؤوب، بل باستخدام كل وسائل النهب والقتل التي تمحورت حول الإستيلاء على الأرض ومهما كان الثمن “كوسيلة الإنتاج” الرئيسية في تلك الحقبة:

– إستبعاد وإبادة السكان الأصليين ونهب اراضيهم

– الإبحار عبر المحيط الأطلسي ذهاباً وإياباً من اجل إحضار العبيد من أفريقيا

– الإنتفاضة على العرش البريطاني

– إحتلال أكثر من 52% من اراضي المكسيك في حرب 1848

– إستغلال المزارعين والعمال والمهاجرين الذين قدموا الى هذه البلاد على مدى القرون الأخيرة.

■ لم يكن إنتقال ملكية الأرض وما عليها عملية سلمية حضارية تستوحي قيم المحبة والأخلاقية المسيحية ولا على اساس الوسائل الشرعية والديمقراطية، كما يريدون لنا ان نصدق، بل تم هذا الإنتقال بوحشية العنف والقتل تماماً كما نرى اليوم مع فارق لا يزيد الأمر إلاّ وحشية البطش ودموية التكنولوجيا وتطور أسلحة القتل والدمار.

■ لا أحد ينكر ان نمط الإنتاج ( ونظامه الإقتصادي والإجتماعي) الذي حل مكان نمط الحقبة الهندية الأصلانية قد ضاعف من الإنتاجية وعزز قوى الإنتاج ودفع بالعملية الإنتاجية الى المزيد من النجاعة والفعالية مما أتاح للإنسان ان يشق دروباً أخرى في الصناعة والتكنولوجيا وغيرها. إلاّ انه لم يكن لهذه الإنجازات ان تتحقق إلاّ من خلال تدمير كافة أشكال الملكية العامة والمشاعة وتعزيز الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتي أفضت بدورها الى تعميق الفوراق بين الناس وانتجت الهوة الساحقة بين الطبقات والفئات الإجتماعية وأتاحت للطبقة الحاكمة المزيد من البطش والقمع والإفقار للطبقات الشعبية المسحوقة والمهمشة. وفي خضم هذا كله، وبسبب نقلة من الملكية الجماعية الى الرأسمالية الحديثة وما تسببت به من إصطفافات وتناقضات إجتماعية وطبقية، ضاعت قيم الحرية والإخاء والديمقراطية الشعبية الحقيقية، وهو ما أودى في نهاية الأمر الى وقوف الإنسانية قاصرة وعاجزة عن التنمية الإنسانية والإجتماعية الحقيقية.

وفي حين يروج مؤدلجو الرأسمالية ان انتصار الرأسمالية قد رافق أعلى أشكال الوجود البشري وأسمى تجلياته، فان الواقع الإنساني يشي بالنقيض: بان الأغلبية الساحقة من الإنسانية ما زالت تعاني المزيد من من الجوع والفقر وكافة أشكال البؤس والمعاناة.

■ من هنا تفيدنا هذه الرؤية في إستشراف التغيير الجذري وإحتمالاته في الولايات المتحدة. فعلى الرغم من ان قرونا طويلة قد مضت منذ زوال اشكال الملكية المشاعية (الجماعية)، وعلى الرغم من تطور اشكال الملكية الخاصة ووسائل ونمط الإنتاج وتعقد العلاقات الإنتاجية عبر مسيرة النظام الرأسمالي، فان الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل تبدأ من هنا، من المعقل الأول للتغيير اي القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (الأرض، المصنع، الشركة…). وقد يبدو هذا الكلام بعيداً عن الواقع الراهن في أميركا والذي يبدو في ظاهره مستتباً ومزدهراً ورأسمالياً بإمتياز، إلاّ اننا نخطئ إذا ما قللنا من مقدار غليان المجتمع الأميركي من الداخل والخارج، إذ أن “الإستقرار الظاهري” هذا لا يغير من الوقائع الموضوعية شيئاً، فالقضاء على الملكية الخاصة هو الركن الأساسي لآية رؤية تستلهم التغيير الجذري في أميركا. “من منظور الشكل الإقتصادي الأرقى للمجتمع، فان تحكم قلة من من الأفراد بالملكية الخاصة للكرة الأرضية، سوف يبدو عبثياً كما هو الأمر في الملكية الخاصة لإنسان آخر. فليس هذا المجتمع ولا حتى المجتمعات مجتمعة مًنْ يملك هذا العالم. انهم مجرد ملاّكين مستخدمين له ويتوجب عليهم ان يسلموا هذا العالم للأجيال القادمة وفي حالة أفضل، تماما كما يفعل الآباء الصالحون مع أسرهم”.[5]

 

 


[1]   نص الفصل الخامس من كتاب “أميركا الأخرى: أميركا في عيون مُغتَرِبٍ عربي”، تأليف: د. مسعد عربيد ص ص 89 – 105، الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة، عمّان، الأردن، ديسمبر 2013.

[2] يمكن مراجعة “كنعان” الألكترونية، العدد 1884 بتاريخ 6 مايو 2009 على الموقع الألكتروني التالي:

www.kanaanonline.org.

[3] يرجح بعض المؤرخين أن إستنفاذ حقول الذرة والحبوب والأراضي الصالحة للإنتاج الزراعي كان أحد أهم الأسباب الرئيسية في إنهيار حضارة قبائل المايا.

[4] تجدر الإشارة الى أن الأزمة الإقتصادية الحالية أعادت أصحاب رأس المال المالي والمضاربين الى التفكير مجدداً بالأرض، لذا بدأوا بشراء مساحات شاسعة في بلدان المحيط بما هي أضمن إقتصاديا من الصناعة.

[5] Karl Marx, Capital, Vol. 3, pp. 901-902.