صبرا وشاتيلا.. وأخواتها وسوريا من بعدها

نصري الصايغ

أربعة وثلاثون عاماً، عمر المجزرة، صبرا وشاتيلا ضد النسيان. لم يعترف أحد بالدم، ظلت المجزرة تبحث عن القتلة. إنهم معروفون بالتورية اللبنانية. دخلت المجزرة ملفات الكتمان القضائي. لم يُتّهم أحد. لم يُستدعَ أحد. لم يُحكَمْ على أحد… النسيان يخبِّئ الجرائم! وحده الضمير يصبّ ملحه على جروح الماضي، يقول بغضب غير معلن: خبّأوا المجرمين ولكن الجريمة ناطقة، والمجرمون بيننا.

عدم الاعتراف، عدم المساءلة، عدم المحاكمة، عدم العقاب، يورِّث عادة النسيان وآفة الاعتياد. ما أفدح أن تصبح الجريمة خبراً عابراً! ما أفظع ألا نتعلّم شيئاً من الحرب! صبرا وشاتيلا، كانت منتشرة من قبل وهي الآن. سيرة المشرق العربي ليست بريئة من الارتكاب، من الفظائع، من الأهوال. من الاغتصاب، من تقطيع الأوصال. يبدو أن لا أحد بريئاً. حيث يكون السلاح يكون قانون الحرب، هو القتل. فلا وجود لنصف قتل. الرحمة، ضعف استراتيجي، تطبيقاً لقول فيلسوف الحروب كلاوشفتز: «كل عمل مهمّ سواء أكان بربرياً أو متوحّشاً ممكن تبريره بالضرورات الاستراتيجية»… إذاً، تباً للاستراتيجيات، مطحنة الإنسانية الدموية. الاستراتيجيا، تبرر كل الحروب. هي «المقدس» العسكري. هي اللاهوت السياسي، هي غفران المجزرة.

هكذا حدث في لبنان. هكذا حدث من قبل. هكذا يحدث في سوريا. هكذا، يتوقع في غير مكان وفي غير زمان: العبرانيون أحرقوا الكنعانيين. سيبيون الأفريقي، قائد روما الاستراتيجي ومحرق قرطاجة بمن فيها، ذبح سكان نومانس. القائد باربروس قطع مئتي منخار ومئتي شفة ودزينات من الأذرع. سمل العيون وصلَمَ الآذان. المجازر في القرن العشرين فاقت التصوّر. فداحة الاستراتيجيات بأسباب مختلفة وبدوافع أطماع فائقة التملك والتسلط، بلغت حدود ممارسة الإبادة الجماعية: أرمن، يهود، بيافريون، عراقيون، روانديون والباب مفتوح في المشرق، على فقدان نصاب الشعوب. سينقص المشرق من بعض شعوبه لصالح ذئاب المذاهب والأعراق والأديان. بالأمس صبرا وشاتيلا واليوم، مثلها في سوريا، بأيدي الأعداء والحلفاء، مهما كان الانتماء.

التاريخ، كل التاريخ، كلام ينزف دماً. لبنان لم يجرؤ على كتابة تاريخه. فضّل الكتمان، والسبَّ الباطني. هناك دائماً، عنف مكتوم. حولنا، عنف تخطّى مجزرة صبرا وشاتيلا. حولنا، المجرمون يتباهون بالارتكاب. «داعش» وشقيقاته يتباهون بالسفك وأساليب القتل. وقائع الحروب يُعاد بثها إعلامياً. لدينا قتل بلذة. قتل مقدس. قتل واجب. قتل من أجل الله. قتل من أجل السماء والأرض. قتل من أجل القتل. قتل يغتذي من القتل. إننا نعايش القتلة. ونتشاور معهم، وندعوهم إلى حلول سياسية بشعة. يصحّ ما قاله ارسطو عن السلب: «السلب مهنة، مثل الصناعة والزراعة»، يمكن تعميم ذلك وفق الصيغة التالية: «الحرب مهنة شائعة، مثل الصناعة والزراعة والعالم الرقمي و»… دول كثيرة تقوم رفاهيتها اليوم، على ما ارتكبته إبان استعمارها واحتلالها لأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. نادر أن تجد في التاريخ، أمة لم ترتكب، أو لم يُرتكب بحقها، ما يسمح لأصحاب الضمائر أن يصفوا هذا العالم، «بالغابة التي تساكنت فيها الوحوش». «ليفياتان» بحجم المعمورة.

لصبرا وشاتيلا كلام ممنوع. ممنوع أن تسمع بها. تمر المناسبة على جماعات، اختارت الضمير قاعدة لقراءة التاريخ ومحاسبة فظائعه. تمر صبرا وشاتيلا على هذه الخاصة، فيما الآخرون باتوا بعيدين جداً عنها. كان هذا الابتعاد خيارها. الضمير يحرِّض. النسيان يدفن المقتولين ويُخفي القتلة. حتى الدول العريقة في «حقوق الإنسان» اختارت أن تنجو من محكمة الضمير. منعت بلجيكا محاكمة شارون. تماماً، كما تحاول تركيا تبرئة نفسها من دماء الأرمن… ليس لهذه الدول ما ينضح قيماً وإنسانية.

ولصبرا وشاتيلا، كلام قبل فوات الأوان. للمخيمين قصة متصلة بحروب إسرائيل وحلفائها على المخيمات. ففي الذكرى العاشرة لانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، قال ايهود باراك، لقد فشلت إسرائيل في اجتياح لبنان. كان هدف ارييل شارون حل المشكلة الفلسطينية نهائياً. ويقتضي تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، طحن المقاومة الفلسطينية وطرد الفلسطينيين من لبنان، عبر تهجيرهم إلى الأردن، وطن الفلسطينيين. كانت صبرا وشاتيلا ضحية هذه الاستراتيجية التي تلقّت ضربة باغتيال بشير الجميل، وضربات متلاحقة من المقاومة الوطنية. كان المطلوب أن يكون لبنان بلا فلسطينيين. المجزرة كانت للترويع، وتهجير من تبقى منهم في المخيمات إلى الأردن. الشراكة الميدانية بين لبنانيين وإسرائيليين فشلت. سقطت الاستراتيجية بدماء الفلسطينيين والمقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان.

ولصبرا وشاتيلا اليوم كلام آخر: لم نتعلّم بعد. الحرب في كل الأمكنة العربية، المشهد العربي ينبئ بأن المجزرة لم تنته بعد. التحضير لاحتفالات الرقص بين الأموات مستمرّة: قتيل يرث قتيلاً. ضحية ترث ضحية. موت يسبق موتاً… هذه بلاد مدعوّة لأن تفرح بموتها. فرح من جيش الثأر من الآخر. لقد امتلأ العراء العربي بخيام اللاجئين.

ولصبرا وشاتيلا كلام يُستعاد: لا تغمضوا أعينكم، مهما قلَّت أعدادكم. لا تقبلوا بمبدأ المسامحة، كأن يسامح الأعداء أنفسهم. أو، كأن يسامح المجرمون بعضهم بعضاً، على طريقة لبنان الذي ورث حكم الميليشيات المرتكبة للكبائر من المجازر. الذين حكموا لبنان بعد الطائف سامحوا بعضهم بعضاً، غسلوا أيديهم من دماء اللبنانيين. ما أفدح هذا السلام! لا بد من أن يظل أحد ما يقرع ضمائرنا ويحذرنا من الصمت.

الصمت ارتكاب ولا يعيد إلينا البراءة. ما حدث في صبرا وشاتيلا، ليس عابراً. إنه الوصمة، ولا يُمحى. وما حدث في سوريا وما يحدث يستحق أن يُقال فيه: «يا خجل التاريخ» من هذه الأمة».

كم صبرا وشاتيلا في ما تبقى من سوريا؟

:::::

“السفير”

  • ·       الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.