القُدْسُ بين المقاومة والشّرف الزائف، الطاهر المُعِز

أغلقت سلطات الإحتلال الصهيوني المسجد الأقصى ومنعت المُسلمين من أداء صلاة الجمعة لأول مرة منذ 1969، إثر عملية مُسَلَّحَة نفّذَها ثلاثة شبان من “أم الفحم” (الإحتلال الأول 1948)…

لم تَصْدُر ردود فعل عن الهيئات الإسلامية العديدة وعن المنظمات التي هَيّجَت الجمهور ضد كاريكاتور استفزازي في الدنمارك أو في فرنسا ولا عن المؤتمر الإسلامي وعلى عن الأردن “حارس المسجد الأقصى” وعلى عن ملك المغرب الذي يرأس “لجنة القدس”، ولا عن خادم الحرمين (أو وَرِيثه)، ولَفّ الصمت أولئك الذي دافعوا (من مسلمين ومسيحيين) على الحج إلى “القدس الشريف”، ورفضوا وصف الدخول إلى القدس بالتطبيع، رغم ضرورة الحصول على إذن من قوات الإحتلال قبل التفكير في السفر إلى القُدس، أما محمود عباس فهو عميل فريد من نوعه لم يُوجد مثله في تاريخ الشعوب المُستعمرة، إذ أدان العملية كما أدان كافة العمليات السابقة، وبشكل عام ظهرت خُطُورة التطبيع مرة أخرى، بقيادة السعودية التي تقع مَكّة والمدينة على أراضيها والتي تَجْنِي مليارات الدولارات سنويا من حج وعمرة المُسْلِمِين، فيما لا يقوم حاكمها برد فعل يتناسب مع إغلاق المسجد الأقصى ومع استهتار الإحتلال بأهمية ومكانة القُدْس التي يدعي المُسْلِمُون أنهم يريدونها عاصمة لدويلة مَسْخ (لم يحصلوا على مجرّد وَعْدٍ بها لحد الآن) في جزء من الضفة الغربية، ولكنهم لا يُدافعون عن القدس “الشريف” كما يصفونها والمسجد الأقصى “المُبارك” كما ينعتونه، بل يُشَجِّعُون الإحتلال على قصف لبنان وغزة وشن حرب على إيران، مع استعداد شيوخ الرّيع النّفْطي لتمويل هذه الحرب العدوانية…

بدأ العدو الصهيوني -حال وقوع العملية الفدائية- تنفيذ مُخَطّطٍ كان جاهزًا ينتظر فرصة التنفيذ،    فوضع بوابات إلكترونية لإطباق الحصار على المَقْدَسِيِّين وإطلاق العنان للمؤسسات الصهيونية لاجتياح المسجد ومحيطه (تحت حماية جيش الإحتلال)، بحثًا عن “هيكل” مزعوم لا وجود له في وثائق التاريخ…

يمكن استخلاص بعض الدروس من هذه العملية، حيث كَذّبَ التّاريخ الزعيم الصّهيوني “دفيد بن غوريون” (أحد مؤسِّسِي دولة الإحتلال) الذي أعلن “سيموت الكيار ويَنْسى الصِّغار”، إذ تتراوح أعمار مُنَفِّذي العملية بين 29 و 19 سنة، أي انهم من أحفاد جيل النّكبة، وَهُمْ من الأراضي المُحْتَلّة سنة 1948 التي يُحْكِمُ جهاز “الشاباك” مراقبة سُكّانِها، وسبق أن نفذ (ربما سنة 2016) فلسطيني آخر من أبناء الإحتلال الأول عملية فدائية بالسلاح الناري في عُمق الأراضي المحتلة سنة 1948 وتمكن من الهرب بعد تنفيذ العملية واختفى عن الأنظار عدة أيام، في المُقابل أظهرت الأحداث ان الإخوان المسلمين سواء في تركيا أو في المغرب وتونس ومصر هم عُملاء الإمبريالية ولا يعنيهم مصير الفلسطينيين ولا أي شعب واقع تحت الإحتلال أو الإضطهاد، وإن اليسار أيضًا في حالة انهيار كامل، ولا يقدر على مواجهة الحكومات (الخاضعة بدورها لصندوق النقد الدولي والإمبريالية) التي زادت من ديون المغرب وتونس ومصر والأردن وغيرها والتي تُهرول نحو التطبيع المكشوف مع العدو الصهيوني، ودعمت، بل شاركت في العدوان المسَلّح ضد البلدان العربية وفي تقسيمها (ليبيا واليمن والعراق وسوريا…)، وما الموقف ممّا يجري في فلسطين سوى نتيجة منطقية للتطبيع بكافة الأشكال ونتيجة للتبعية للإمبريالية وناتج عن طبيعة الرجعية العربية نفسها، التي تتألف من طبقات كمبرادورية تحكم بالوكالة عن الإستعمار والإمبريالية، كما تُمَثِّلُ هذه العملية ونتائجها رَدًّا على المُطَبِّعين من الحُكام وزعماء الأحزاب وأشباه المُثقّفِين والإعلاميين الذي يدافعون عن التطبيع الأكاديمي والتطبيع الثقافي أو الرّياضي سواء في المغرب أو في تونس أو في لبنان وغيرها، ولخّصت صحيفة “هآرتس” (صهيونية “مُعْتَدِلَة” بمقاييس الصهيونية) بعض تكتيكات الإحتلال في مناطق الدّاخل (1948) فكتب أحد مُحَرِّرِيها “إن منفّذِي العملية فلسطينيون وكذلك القتْلَى فهم فلسطينيون (من الدروز الذي يُجْبِرُهم الإحتلال على العمل في الجيش والشرطة) وما ذلك بمصادفة، حيث يَعْمد الإحتلال إلى تشغيل رجال الشرطة من الدروز في الأحياء والمناطق التي يُواجهون فيها إخوانهم الفلسطينيين، في القدس والخليل وغيرها، تطبيقًا لتكتيك استعماري تقليدي يجعل المُواجهات والإصابات والكراهية والقتل تحصل بين فئات من الشعب الواقع تحت الإحتلال، بهدف تقسيمهم وتحطيم الرّوابط الوطنية التي تجمع أفراد هذه الشعوب” (بتصرف)…

إن مثل هذه العمليات تفرض على وسائل الإعلام المُرْتزقة (الجزيرة والعربية والحياة والشرق الأوسط وغيرها) عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث، ولو لفترة محدودة، قبل تَغْيِيبِها من جديد عن صدارة أخبار هذه المحطات والصحف والوكالات، والعودة إلى توجيه الرأي العام العربي نحو العِداء لإيران والإستنجاد بالكيان الصهيوني و”شَرْعَنَة” تخريب اليمن أو سوريا وليبيا وغيرها من البلدان العربية… من جهة أخرى، وفي ظل تراجع المُقاومة الفلسطينية المُنَظّمة (التي تقودها منظمات وفصائل) وهبوط سقف البرامج وفي ظل الغياب التدريجي لهدف تحرير فلسطين (كُل فلسطين) من الإستعمار الإستيطاني الصهيوني، يكمن دور مثل هذه العمليات في ردع السائحين والمُسْتوطنين الجدد (أو من يُفَكِّرون في الإستيطان في فلسطين) والمُسْتَثْمؤرِين، ما يُشَكِّلُ خسارة سياسية واقتصادية للعدو، لذلك لا خيار لنا سوى تكثيف الفعل المُقاوم والعمل المُسَلّح ضِمْنَهُ (وتنعته الإمبريالية وتوابعها بالإرهاب) إلى جانب تكثيف الدعاية من أجل المقاطعة والدعاية للتعريف بقضيتنا والدفاع عن عدَالَتِها، والعمل على جميع هذه الجبهات بالتّوازي، لأن طبيعة الإستعمار الإستيطاني الإقتلاعي الإنْكاري (إنكار وجود شعب فلسطيني) تتطلب ذلك، فالمقاومة بكافة أشكالها ليست خيارًا، بل هي فَرْضٌ يتطَلّبُهُ الوضع، وطبيعة العَدُو، والعدو هو الإحتلال الصهيوني ولكنه لا يستطيع الصمود والهيمنة لو لم يكن مدعومًا من الإمبريالية (التي يُمثِّل مصالحها في منطقتنا) ولو لم تُهادنه الرجعيات العربية الحاكمة، بل تتحالف معه ضد الشعوب العربية وغير العربية… وكل هزيمة لأحد أطراف هذا الثالوث هي نَصْرٌ للشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني…

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.