إيران بين الطموح الإقليمي والجبهة الداخلية المُتَصدّعة، الطاهر المعز

أعلنت السلطات مقتل 21 شخصا بعد خمسة أيام من الإحتجاجات التي اتّسعت رُقْعَتها إلى حوالي سَبْعِين مدينة، رغم القمْع بإطلاق الرّصاص وبالهراوات والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، ورغم دعوة الرئيس “حسن روحانى” للهدوء، ورغم اتهام “المرشد الأعلى” المُتظاهرين بالعمالة لقوى أجنبية، وشملت الإحتجاجات عشرات المدن (منها العاصمة طهران)، وطَغَت المطالب الإقتصادية على هذه المَوْجَة من الإحتجاجات، رغم بعض الشعارات المُناوِئَة للنظام ورغم مهاجمة أحد مقرات “الحرس الثوري” فى مدينة “شاهين شهر” بمحافظة أصفهان، وإحراق “حوزة علمية” فى تركستان، وهي حوادث نادرة الوقوع في إيران، ونشرت وسائل التواصل “الإجتماعي” عمليات إحراق ونهب مبان عامة ومراكز دينية ومصارف ومراكز ميليشيات “الباسيج”، خصوصًا في مدن كرمنشاه وشاهين شهر وتاكستان وزنجان وإيذج، وعرض التلفزيون الحكومي مشاهد احتراق عدد من السيارات التابعة للحرس الثورى، وهتف بعض المتظاهرين “يعيش الشاه رضا”، مما جعل “المرشد الأعلى” آية الله على خامنئي يتّهم “أعداء إيران” باستخدام المال والسِّلاح والسياسة لإثارة المشاكل في إيران، واتهمت السلطات مجموعات معارضة خارجية “معادية للثورة ومدعومة من الولايات المتحدة والسعودية” بالسعي لاستغلال استياء المواطنين الإيرانيين من الوضع الاقتصادي للحض على إثارة الإضطرابات في البلد، خصوصًا بعد التّدَخُّلات الفَجَّة للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، وبعد تصريحات مؤيدة للإحتجاجات صادرة عن مسؤولين من الكيان الصهيوني ومن بريطانيا وكندا… بينما حاول الرئيس “حسن روحانى” التقليل من أهمية “التّدخّل الخارجي” ومن أهمية الاحتجاجات، مشيرا “إن المتظاهرين ليسوا جميعًا مدعومين من الخارج”، فيما أوردت وكالة “فارس” الرسمية دعوة رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى، المجلس والحكومة “لإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية وتحسين معيشة الشعب عبر تنفيذ خطط قصيرة ومتوسطة الأمد، لكي لا يستغل مُناوئو النظام المطالب الشرعية للشعب”، وهو نائب عن مدينة “کرمان” (جنوب شرق إيران)، وكانت بعض وسائل الإعلام المحلية والأجنبية (منها صحيفة غارديان البريطانية) قد عَزَت اندلاع الاحتجاجات إلى الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية السّيّئة، وتأثيرها على المواطن…

الوضع الإقتصادي:

اتّفق عدد من رموز النظام والمعارضة ومن خبراء اقتصاديين أجانب على “إن تردي الوضع الاقتصادي كان الحافز والدافع الأهم لحركة الاحتجاج”، مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار والضرائب، مع تفشي الفساد وسوء توزيع الثروات، وهي نفس الأسباب التي أدت بالفقراء والعاطلين والمُهمّشين وبالفئات الوسطى إلى التظاهر في عديد البلدان الأخرى، فالمشاكل الإقتصادية وشح الوظائف وغموض المستقبل هي أهم الأسباب التي تدفع النّاس (في أي مكان من العالم) للإحتجاج الجماعي والتظاهر “من أجل حياة أَفْضَل” أو ما عَبّر عنه المتظاهرون في تونس ومصر سنة 2011 ب”الشغل والحرية والكرامة”…   

تتراوح نسبة الإيرانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر بين 35% وفق البيانات الرسمية و43% وفق بيانات المُعارضة، وتُشِير بيانات أخرى غير رسمية (نُشِرت بمناسبة الإنتخابات الرئاسية في أيار 2017) إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى حوالي 50% من المواطنين، وتتزايد نسبة الفقر في المجتمع الإيراني منذ سنوات، وتوقّع العديد من المواطنين تَحسُّنًا في الوضع بعد توقيع اتفاق “النّوَوِي” مع الدول “الغربية”، لكن الوضع لم يتحسن بعد سنة كاملة من دخول الإتفاق حيز التنفيذ، وبعد زيادة الصادرات النفطية وارتفاع سعر النفط قليلاً (مقارنة ب2015 و 2016)، وهيمن الوضع الإقتصادي على الحملة الإنتخابية الأخيرة، بعد مظاهرات محدودة ضد شركات الإقراض والمصارف خلال السنوات الأخيرة، وكنا أشرنا في مقال سابق عن إيران إلى انهيار مؤسسات الإقراض مع انفجار الفُقّاعة العقارية، مما أدى إلى فقدان ملايين المُسْتثمرين مُدّخراتهم، مما يُفَسِّرُ مشاركة شرائح هامّة من الفِئات الوُسْطى في المُظاهرات الحالية إلى جانب الفُقَراء والعاطلين عن العمل، ومما يُفَسِّر صعوبة سيطرة النّظام على التظاهرات والإحتجاجات، لأن الطابع الإقتصادي هو الطّاغي، وليس الطابع السياسي، وبالتالي يصعب تشويه المتظاهرين ونعتِهِم بالعملاء للخارج، وهو ما فَهِمَهُ الرئيس “حسن روحاني” الذي حاول تهْدِئَة الوضع والتصريح بأن المتظاهرين “ليسو كُلُّهُم عُملاء للخارج”، وهو ما جعل أيضًا رئيس جمعية علماء الدين (المُحافظة) يُصَرِّحُ “يجب أن يُنْصِت المسؤولون لمطالب الشعب ويجب أن تُغَطِّي وسائل الإعلام تظاهرات الشعب”، وبذلك اتفقت أجزاء من “المحافظين” مع “الإصلاحيين” في النظام على “التراجع التّكْتِيكي” وعدم مجابهة مثل هذه المطالب بالقمع فقط، لأنها عفوية وبلا قيادة واضحة وقد تُؤَدِّي إلى تهديد النّظام بِرُمّتِهِ، ويصعب قَمْعُها، لأنها ليست من نفس طبيعة مظاهرات 2009 التي اتسمت بطابع سياسي، وكان يقودها شق سياسي رجعي مدعوم من القوى الإمبريالية ضد شق سياسي رجعي آخر، ولكنه غير موال للقوى الإمبريالية… أما مظاهرات نهاية 2017 وبداية 2018 فقد طغى عليها التنديد بارتفاع الأسعار والفساد وسوء الإدارة، والبطالة التي بلغت نسبتها بين الشباب 28,8% وفق البيانات الرّسمية سنة 2017 ويمثل الشباب نحو 70% من إجمالي سُكان البلاد البالغ حوالي ثمانين مليون نسمة، وأشارت تصريحات بعضهم (في أحاديث لرويترز ووكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب) إلى عدم تحقيق الاتفاق النووي لسنة 2015 فوائد اقتصادية لأوسع الفئات الشعبية، وهو ما وَعَد به الرئيس “حسن روحاني”، لكن الوضع ازداد سوءًا حيث تدهور الوضع الاقتصادي، وزادت هيْمَنَةُ الأقلية الثريّة على دواليب الإقتصاد، في ظل غياب الشفافية وعدم المحاسبة واتساع نطاق الفساد، وفي ظل فَشَل برامج الحكومة لإنعاش الاقتصاد الذي يُعاني من الرّكود ومن استقرار، ولربما تراجع حجم الناتج المحلي الإجمالي، وأدّت جميع هذه العوامل إلى تراجع مستوى عيش الفئات الوسطى (البرجوازية الصّغيرة) والتحاق جزء منها بصف الفقراء، والخروج إلى الشارع للتعبير عن الغضب وعن الإستياء من الوضع، خصوصًا بعد إِقْرَار ميزانية سنة 2018 زيادات في الأسعار وضرائب جديدة، كانت الشرارة التي فَجَّرَت الوضع

 الطموح القومي الإيراني:

 تعد إيران أكثر من 80 مليون نسمة مع فئة وسطى كبيرة نسبيا، وهي دولة نفطية وعضو مؤسس في منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، وتملك ثاني أكبر احتياطي عالمي للغاز الغاز بعد روسيا، ورابع أكبر احتياطي عالمي للنفط، ما يُعَزِّزُ من طموحات الهيمنة الإقليمية، وسط مجموعة من الدُويلات المُصْطَنَعة في الخليج، وبعض الدول الضعيفة في آسيا الوسطى (الإتحاد السوفييتي السابق)، وباكستان وأفغانستان، غير المُسْتَقِرّتَيْن، ولكن الوضع الدّاخلي ليس على ما يرام حيث انخفض الدخل السنوي للفرد في إيران من 6950 دولارا سنة 2013 إلى 5470 دولارا سنة 2016، وفق بيانات البنك العالمي…

لم تتغير طموحات إيران سواء في عهد نظام الشاه أو في عهد نظام الإسلام السياسي، فكلاهما يطمح أن يُصْبِحَ قوة إقليمية تُهَيْمِنُ على مُحيطها (الخليج والمشرق العربي وبقية البلدان المُحِيطة بها)، ما جعل النظام يعتمد على المخابرات للسيطرة على الداخل والجيش للسيطرة الخارجية، وأصبح “الحرس الثوري” بمثابة الجيش الذي يُحاول تحقيق الأهداف الخارجية للنظام، ويتمتع بنفوذ اقتصادي وسياسي واسع جدا، إذ يمتلك “الحرس الثوري” عددًا هامًّا من الشركات والمُؤسسات، ولا أحد يعرف ميزانيته، لأنه غير خاضع للمراقبة أو المحاسبة، مما ساهم في خلق طبقة جديدة من الأثرياء التي لا تخضع للمحاسبة، وتتفاخر بإنجازات خارجية في العراق وسوريا ولبنان، بينما يشكو الشعب (الفقراء وكذلك البرجوازية الصغيرة) من ارتفاع نسبة التضخم وأسعار المواد الغذائية، ومن البطالة (12,4% من القادرين على العمل أو حوالي 3,2 ملايين عاطل) ومن تراجع مستوى المعيشة، وتعميق الفجوة الطّبَقِيّة وتفاقم عدم المساواة، وتُؤَثِر هذه العوامل سَلْبًا في التّعبئة الجماهيرية من أجل خلق رأي عام واسع داعم للمشروع القومي الإيراني، إذا كانت الجبهة الدّاخلية مُتصَدّعة، والناس في صراع يومي ومستمر من أجل لقمة العيش، رغم زيادة صادرات النفط الخام والعودة التدريجية للمبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي… (وردت أهم البيانات في مواقع مجموعة “أوروبا إيران بزنس فوروم” + أ.ف.ب + رويترز + صحيفة “غارديان” البريطانية)  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية.