مسار الرأسمالية التاريخية، سمير أمين

ينقسم المسار التاريخى الطويل للرأسمالية إلى ثلاث مراحل متميزة: 1ـ (مرحلة إعداد طويلة ـ للتحول من نظام الجزية وهو النظام السائد فى المجتمعات الطبقية ما قبل الحديثة ـ وهى مرحلة القرون الثمانية من العام 1000 إلى 1800) 2 ـ (مرحلة نضج قصيرة (القرن التاسع عشر)، تتأكد فى خلالها سيادة الغرب). 3 ـ (مرحلة التدهور الطويلة التى دفعت إليها «صحوة الجنوب»، والتى انتزعت خلالها الشعوب والدول المبادرات الرئيسية فى تحول العالم والتى بدأت موجتها الأولى فى القرن العشرين. وهذه المعركة ضد النظام الإمبريالى التى لا تنفصم عن التوسع العالمى للإمبريالية، تحمل فى طياتها احتمال السير فى الطريق الطويل للتحول لما بعد الرأسمالية ونحو الاشتراكية. وتبدأ مع القرن الحادى والعشرين موجة جديدة من المبادرات لشعوب ودول الجنوب.

أولاً: أدت التناقضات الداخلية الخاصة بجميع المجتمعات المتقدمة السابقة للحديثة، وليس فقط فى أوروبا الإقطاعية، لموجات متتالية من الاختراع التدريجى لمكونات الحداثة الرأسمالية.

وحدثت أقدم هذه الموجات فى الصين حيث بدأت هذه التحولات ابتداءً من مرحلة السونج (القرن الحادى عشر)، لتتوسع فى مرحلتى المنج والكنج لتمنح الصين تقدماً واضحاً فى الاختراعات التكنولوجية، وفى إنتاجية العمل الاجتماعي، وفى الثروة، لم تتمكن أوروبا من تجاوزه إلا فى القرن التاسع عشر.

وبدأت الموجة الأخيرة لهذه المرحلة الانتقالية الطويلة للوصول للعالم الرأسمالى فى أوروبا الأطلنطية ابتداءً من غزو الأمريكتين لتتطور فى خلال العقود الثلاثة للمرحلة المركانتيلية (1500 ــ 1800). والرأسمالية التاريخية التى فرضت سيطرتها تدريجياً على المستوى العالمى هى ما أنتجته هذه الموجة الأخيرة.الشكل الأوروبى للرأسمالية التاريخية التى بنتها أوروبا المركزية والأطلنطية، وسليلتها فى الولايات المتحدة، وبعدها فى اليابان، لا ينفصم عن بعض صفاته المميزة وخاصة التراكم المبنى على الاستلاب.

ثانياً: وأخذت الرأسمالية التاريخية شكلها النهائى الناضج فى نهاية القرن الثامن عشر مع حدوث الثورة الصناعية الإنجليزية التى اخترعت الصناعة الآلية، وكذلك قيام الثورة الفرنسية التى اخترعت السياسة الحديثة. وعاشت الرأسمالية الناضجة لوقت قصير يمثل قمة هذا النظام وهو القرن التاسع عشر. وفيه يفرض تراكم رأس المال شكله النهائى ويصير القانون الأساسى الذى يتحكم فى التطور الاجتماعي. ومنذ البداية كان هذا الشكل من التراكم فى الوقت ذاته، بناءً وهداما. وقد توصل ماركس لهذه الملاحظة المبكرة التى تقول: التراكم يدمر الأساسين اللذين تقوم عليهما الثروة وهما الكائن الإنسانى والطبيعة.

والواقع أن الرأسمالية التاريخية تقوم فى خلال المرحلة القصيرة لنضجها بمهمات تاريخية تقدمية لا يمكن إنكارها. فهى تخلق الشروط التى تجعل من الممكن والضرورى تجاوزها إلى الاشتراكية/ الشيوعية سواء على المستوى المادى أو على مستوى الوعى السياسى والثقافى الجديد المرتبط بها. والاشتراكية (ومن باب أولى الشيوعية) ليست «أسلوبا للإنتاج» أرقى لأنه يدفع قوى الإنتاج بسرعة أكبر ويربطها بنظام «عادل» لاقتسام الدخل، بل هى بالأحرى مرحلة أرقى لتطور الحضارة الإنسانية. بناءً عليه لم يكن من قبيل الصدفة أن الحركة العمالية والاشتراكية عمقت جذورها بين الطبقات الشعبية، وبدأت النضال من أجل الاشتراكية منذ القرن التاسع عشر فى أوروبا.

ثالثاً: ودخلت الرأسمالية التاريخية ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر فى المرحلة «الطويلة» لأفولها، وأعنى بذلك أن الأبعاد المدمرة للتراكم تتغلب منذئذ على بعدها التاريخى البناء والتقدمي.

ويتجسد هذا التحول الكيفى للرأسمالية مع قيام الاحتكارات الجديدة للإنتاج فى نهاية القرن التاسع عشر (لينين وهوبسون وهِلفردِنج). وكان ذلك هو الرد على الأزمة البنيوية الطويلة الأولى التى بدأت فى سبعينيات القرن التاسع عشر، بعد هزيمة كوميونة باريس بقليل. وظهور رأسمالية الاحتكارات يكشف أن الرأسمالية قد أنهت دورها وأنها صارت نظاماً «بطُل استعماله»، وأن ساعة نزع مِلكية منتزعى مِلكية الآخرين حلت وصارت ممكنة وضرورية. وعبرت عن هذا الأفول الموجة الأولى من الحروب والثورات التى ميزت تاريخ القرن العشرين. لم يخطئ لينين عندما وصف رأسمالية الاحتكارات بأنها «المرحلة العليا للرأسمالية»، ولكن لينين فى تفاؤله، تصور أن هذه الأزمة الطويلة الأولى ستكون الأخيرة. ولكن التاريخ أثبت أن الرأسمالية استطاعت التغلب على هذه الأزمة، ولكن بثمن الدخول فى حربين عالميتين، ثم التأقلم مع التراجعات التى فرضتها الثورتان الروسية والصينية، والتحرر الوطنى فى آسيا وإفريقيا. ولكن الفترة القصيرة التى ازدهرت فيها رأسمالية الاحتكارات (1945ـ 1975) تبعتها أزمة بنيوية طويلة جديدة للنظام بدأت من سبعينيات القرن العشرين. ورد رأس المال على هذا التحدى المتجدد بتحول كيفى جديد اتخذ الشكل الذى سميته «رأسمالية الاحتكارات المعممة». وتنتج عن هذا الفهم «للتدهور الطويل» للرأسمالية مجموعة من الأسئلة الأساسية حول طبيعة «الثورة» القائمة على رأس جدول الأعمال، وهل ينطبق التدهور الطويل للرأسمالية على «مرحلة الانتقال الطويلة» للاشتراكية/؟، رابعاً: ابتداءً من عام 1500 (بداية الشكل المركانتيلى الأطلنطى التاريخى للانتقال للرأسمالية الناضجة) وحتى عام 1900 (بداية التشكيك فى المنطق الأحادى للتراكم)، كان الغربيون (الأوروبيون ثم الأمريكيون الشماليون وبعد ذلك اليابانيون) هم سادة اللعبة، وهم وحدهم الذين يشكلون هياكل العالم الجديد للرأسمالية التاريخية. وكانت الشعوب وأمم التخوم المغزوة والمسودة تقاوم بالتأكيد بطريقتها، ولكنها كانت فى النهاية تهزم وتضطر للتأقلم مع أوضاع القهر. وتزامنت سيادة العالم الأوروبى الأطلنطى مع انفجاره السكاني، فالأوروبيون الذين كانوا يكونون 18% من سكان العالم فى عام 1500، صارت نسبتهم إلى سكان العالم 36% فى عام 1900، بمن فى ذلك ذريتهم فى أمريكا الشمالية واستراليا. وبدون هذه الهجرة الواسعة لم يكن من الممكن تحقيق شكل التراكم المبنى على التفكيك المتسارع لمجتمع الفلاحين. وهذا هو السبب فى استحالة تكرار هذا النموذج فى بلدان التخوم التى لا تجد أمريكا لتغزوها. ولما كان اللحاق أمراً مستحيلاً فلا بد من إيجاد طريق بديل للتنمية.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.