المشكلة الكُرديّة: منعًا للكارثة، بقلم منير الحمش

فجّرت الحربُ في سورية، وعلى سورّيّة، العديدَ من المشكلات والأزمات، بعضُها رئيسٌ وأساس، وأغلبُها فرعيٌّ وثانويّ يمكن التغلّبُ عليه. ويمكن القول إنّ حقيقةً جديدةً من تاريخ سوريّة الحديث بدأتْ في التشكّل، وسيكون اليومُ التالي لوقف إطلاق النار إيذانًا بانطلاق تلك الحقبة.

لعلّ من أهمّ المشكلات التي أظهرتها تداعياتُ الحرب هي “المشكلة الكُرديّة ــــ السوريّة.” ولا يعني ذلك أنّ هذه المشكلة قد جرى “تصنيعُها” خلال الحرب (إذ كانت موجودةً قبلها)، وإنّما يعني أهميّةَ التوقّف عندها بعد أن برزتْ مجدّدًا من خلال المشروع الأمريكيّ ــــ الصهيونيّ لتقسيم سوريّة.

على أنّ مشروع تقسيم سورية نفسَه ليس جديدًا تمامًا، بل الجديدُ فيه هو صفتُه الأمريكيّة. فقبل ذلك، أيْ بعد الانتداب الفرنسيّ على سوريّة، وبخاصّةٍ في ثلاثينيّات القرن الماضي، كان هذا المشروعُ فرنسيًّا، يهدف إلى إقامة كيان كرديّ ــــ كلدوآشوريّ ــــ قبَلي عربيّ، تحت الحماية الفرنسيّة، وبإدارة حاكمٍ فرنسيّ. ومنذ بداية الانتداب، كانت فرنسا تريد خلقَ كيان في الجزيرة السوريّة يميّزها من باقي المناطق السوريّة؛ وكان ذلك واضحًا في برقيّة الرئيس الفرنسيّ إلى الجنرال غورو. أمّا اليوم فإنّ المشروع يقدَّم بلبوسٍ أمريكيّ ــــ صهيونيّ، وبمباركةٍ أوروبيّة، ويختلف عمّا سبقه في أنّه يتوسّع إلى كامل منطقة شرق الفرات وشمال سوريّة، ويأتي في إطار المشروع الأكبر، “مشروع الشرق الأوسط الكبير،” ويترافق مع إقامة قواعدَ أمريكيّةٍ ثابتةٍ في أرجاء المنطقة، تحت شعار “مكافحة الإرهاب” ــ ــ أيْ مكافحة الوجود العربيّ السوريّ وكراهيّة القوميّة العربيّة.

***

نشأت “المشكلة الكُرديّة” في تركيا بعد انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة. فقد أسرعت الدولُ المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى إلى اقتسام تركة “الرجُل المريض،” وإلى ترتيب المنطقة وفقًا لمصالحها. فكانت معاهدةُ سيفر (1920)، التي أُجبرتْ فيها الحكومةُ العثمانيّة على القبول بإقامة دولةٍ كرديّة، وأخرى أرمنيّة، على الأراضي التي كانت تحت السلطة العثمانيّة. إلّا أنّ أتاتورك، بمقاومته قيامَ أيّ دولةٍ غير الدولة التركيّة، وبتقدُّمه على مختلف الجبهات، أسقط مشروعَي الدولتين. ومن خلال التسويات مع الدول الكبرى، عُقد مؤتمرُ لوزان (1923)، الذي نجم عنه توقيعُ معاهدةٍ كَرّست انحلالَ الإمبراطوريّة العثمانيّة، وقيامَ نظام الدولة القوميّة المستقلّة الخاضعة لفترة انتقاليّة من الانتداب الأوروبيّ.

أرست هذه المعاهدة قواعدَ التطوّر الجيوسياسيّ لنظام الدول بعد الحقبة العثمانيّة. وكانت تركيا الحديثة الرابحَ الوحيد فيها، إذ تمكّنتْ من إلغاء مفاعيل معاهدة سيفر، وكرّستْ تقسيمَ سوريّة الطبيعيّة ــــ التاريخيّة، وسمحتْ لتركيا بعقد الاتفاقات مع الدول الأوروبيّة وفقًا لمصالحها.

اعتبر الاتحادُ السوفياتيّ حكومةَ أتاتورك الجديدة حركةَ تحرّر وطنيّ، وسلّمها معظمَ الأراضي الأرمنيّة، مُنهيًا أملَ الأرمن في تنفيذ معاهدة سيفر. وجرت تفاهماتٌ بين تركيا الأتاتوركيّة وفرنسا على ترسيم جديد للحدود السوريّة ــــ التركيّة، فتنازلتْ فرنسا عن نحو 18 ألف كم² من الأراضي السوريّة لتركيا. كما جرى الاتفاق على نظام استقلاليّ ثقافيّ وإداريّ خاصّ للواء الإسكندرون، مَهّد لسلخهِ عن سوريّة في العام 1939.

***

يعود ظهور مصطلح “كردستان” إلى القرن الثاني عشر، ثمّ استُخدم للإشارة إلى الإمارات الكُرديّة في إيران وتركيا. ومع أنّ حدود كردستان الجغرافيّة لم تتفق دائمًا مع النواحي الإثنيّة، فقد جرى تحديدٌ لخريطتها، أيّدتْه عصبةُ الأمم المتّحدة عام 1920. وهذه الحدود تقع ما بين خطَّي العرض 34 و40 شمالًا، وخطَّي الطول 38 و48 شرقًا، وبمساحةٍ بلغتْ 410 آلاف كلم²، توزّعتْ بين: كردستان التركيّة (165.1 ألف كم²)، وكردستان الجنوبيّة (العراقيّة 130.3 ألف كم²)، وكردستان الشرقيّة (الإيرانيّة 114.6 ألف كم²).

كان تركُّزُ الأكراد الأهمّ في كردستان التركيّة. ومع أنّ معاهدةَ لوزان نسفتْ مشروع الكيان السياسيّ الكرديّ في تركيا، كما ذكرنا، فقد مَنحت الأقليّةَ الكرديّةَ بعضَ الحقوق القوميّة واللغويّة، بضمانةٍ دوليّة. إلّا أنّ كلام الكماليّين على شراكةٍ بين الأتراك والأكراد كان للاستهلاك فقط، إذ ساروا قُدُمًا على طريق “قوْمنة” الأتراك والأكراد وسائرِ العناصر الأخرى وتتريكِهم، وفاقًا للمبادئ القوميّة العَلمانيّة للجمهوريّة التركيّة الجديدة، التي رسم أهدافَها المنظّرُ القوميُّ التركيّ غوك آلب…

 في مواجهة خطّة التتريك، شكّل الأكرادُ عددًا من الجمعيّات، ضمّت نوّابًا ووجهاءَ وشخصيّاتٍ كرديّةً معروفةً، من أجل العمل على أسسٍ جديدة، بانتهاج أساليب العصيان والثورة المسلّحة. وقد تبلورتْ هذه الأساليب سنة 1925 بثورة النورسي، زعيمِ الطريقة النقشبنديّة، الذي انضمّ إلى الثورة تحت رايته الخضراء والمصحف، لا تحت راية القوميّة الكرديّة. وقد استطاعت السلطاتُ الكماليّة القضاءَ على الثورة، وإعدامَ قادتها، والقبضَ على آخرين، وإبعادَهم عن مناطق نفوذهم. ثمّ استخدمت أساليبَ التهجير المنهجيّ، وعملتْ على تدمير القوى وقتل الأبرياء. وكان ذلك إيذانًا ببدء مرحلةٍ جديدةٍ من الثورات (1925 ــــ 1938)، نجمتْ عنها هجراتٌ واسعة إلى الجزيرة السوريّة، ما أدّى إلى تعاظم التواجد الكرديّ فيها.

إذا كانت سوريّة قد تلقّت العديدَ من الهجرات (الأرمنيّة والسريانيّة والكرديّة)، فإنّ أعظمَها كانت الهجرةَ الثالثة (1925 ــــ 1940)، التي حصلتْ خلال الانتداب الفرنسيّ على خلفيّة التوافق بين السياسة الإثنيّة الفرنسيّة وسياسة القمع والتتريك الكماليّة. وقد تكوّنتْ هذه الموجاتُ الأخيرة من قبائل كُرديّةٍ على نحوٍ رئيس، ومن السريان العرب والآشوريين، واستقرّ معظمُ أفرادها في الجزيرة السوريّة. وكان أهمّ ما يُميّزها هو الهويّة الإثنيّة المركّبة: ذلك أنّ هؤلاء جاءوا من أراضٍ سوريّة خضعتْ للاحتلال التركيّ (بموافقة أوروبيّة) بموجب معاهدة لوزان، وكان ما يَجمع بينهم ــــ عربًا (مسلمين ومسيحيين) وأكرادًا وأرمنًا ــــ واقعٌ من التداخل والتمازج، هو من نتاج تفاعلاتٍ تاريخيّةٍ تعود إلى القرن السادس عشر، حين أصبح إقليمُ الجزيرة أحدَ أبرز مسارح التاريخ التي اختلطت فيها الصراعاتُ والإثنيّات.

جاءت الهجرةُ الكبرى الثالثة من تلك المنطقة (وهي الآن جنوب شرق تركيا) من مصدريْن: مدينيّ، يقوم اقتصادُه على التجارة والخدمات، ويسمّى “الماردنل” أو الماردليّة، نسبةً إلى ماردين وما حولها؛ وريفيّ/جبليّ، وكان يدعى طوخلاركيّ أو طورانيّ، نسبةً إلى طور عابدين. وكانت هذه الهجرة مؤلّفةً من عشائر كُرديّة وسريانيّة (يعقوبيّة) وأرمنيّة مُختلطة. وإذ غلب على المصدر المدينيّ الأول الطابعُ السريانيّ العربيّ، فقد كان أغلبُ المهاجرين القادمين من جبل الطّور وأزخ من العشائر الكُرديّة ــ ــ وهم فقراء وغير متعلّمين. وتشكِّل العشائرُ الملّيّة أقوى اتحاد عشائر، وهي مؤلّفة من عشائر كرديّة وعربيّة وتركمانيّة نصف حضَريّة (تسكن بين مثلّث ديار بكر وماردين وأورفَة)، ويعكس تشكّلُها طبيعةَ التكوين الاثنيّ للعشائر الملّيّة، كما يعكس حالة التمازج الثقافيّ واللغويّ والإثنيّ التي تكوّنت عبر التاريخ.

من جهة أخرى، ثمّة تمازجٌ بين الأكراد والمسيحيين في المنطقة، متمثّلًا في العشائر “الهوبركيّة” الكُرديّة. ويعتقد العديد من العشائر الكُرديّة بالأصل العربيّ للأكراد. ولئن كان هذا الاعتقاد لا يستند إلى أساسٍ علميّ، فإنّه يوحي بواقع الانسجام والتداخل بين جميع سكّان تلك المناطق. وقد انتقل هذا التمازج بين العرب (مسلمين ومسيحيين) والأكراد والآشوريين والأرمن إلى الجزيرة السوريّة، التي انتقل إليها هؤلاء. وتلقّفتْه السلطاتُ الفرنسيّة بمشروعها (الكرديّ ــــ الكرد آشوريّ ــــ القبليّ العربيّ) ضمن مشروعها التقسيميّ لسوريّة، الذي التقى مع سياسة التهجير والتتريك التركيّة الكماليّة.

نتيجةً لهذا التوافق الفرنسيّ ــــ الكماليّ في الجزيرة السوريّة، نشأ مجتمعٌ محلّيّ مركّب، ومندمج بالسكّان الأصليّين، الذين كانت من بينهم العشائرُ العربيّةُ البدويّةُ والمتحضّرة. وفي حين كانت تركيبة المهاجرين الاجتماعيّة تتيح إمكانيّة التكامل الاجتماعيّ بحكم التاريخ والجغرافيا، فإنّ سياساتِ الهويّة الفرنسيّة عملتْ على تعميق الفوارق عبر “قوْمنة” الهويّات، بهدف استخدام المجموعات المهاجرة المندفعة ضدّ الحركة الوطنيّة في الداخل السوريّ، ولخدمة المشروع الفرنسيّ التقسيميّ.

هنا نشير إلى أنّ الوطنيين السوريين اتّهموا السلطاتِ الفرنسيّة بأنّها شجّعت الهجرةَ إلى الجزيرة السوريّة، وعملتْ على الإكثار من “الغرباء،” بهدف إضعاف المجتمع السوريّ. ومع ازدياد الضغط الشعبيّ في هذا الاتجاه، أوْفدت الحكومةُ وزيرَ المعارف في ذلك الوقت، محمد كرد علي، وهو من مؤرّخي الشام ومن الأكراد المندمجين والمتعرّبين، إلى الجزيرة لدراسة الواقع. فأعدَّ تقريرًا في أواخر العام 1931، حذّر فيه من مخاطر الهجرة من تركيا على أمن سوريّة، واقترح “إسكانَ المهاجرين… في أماكن بعيدة عن حدود كردستان لئلّا تَحْدث من وجودهم مشاكلُ سياسيّةٌ تؤدّي إلى اقتطاع الجزيرة من جسم الدولة السوريّة…” كما طرح “إعادةَ توزيع الأرض بشكل عادل، وانتهاجَ سياسةٍ اندماجيّةٍ قوميّةٍ مُبكرة،” وأن “يمتزج الكردُ والأرمن بالعرب في القرى الواقعة في أواسط البلاد، لا على حدودها…” وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العديد من الأكراد سكن واندمج مع العرب السوريين على مدار التاريخ. وكانت لهم في بعض المدن أحياءٌ يشكّلون فيها غالبيّةَ الحيّ، كما هو الحال في حيّ الأكراد بدمشق. كما كان لهم دورٌ مهمّ في الحركة الوطنيّة السوريّة تحت الانتداب، وفي المرحلة الوطنيّة، وفي الحركة الناصريّة الوحدويّة.

وفي إطار السياسة الفرنسيّة الإثنيّة، رعت المفوضيّةُ الفرنسيّة جمعيّة خويبون (الاستقلال) الكُرديّة، وهي منظمة قوميّة كُرديّة تركيّة تعمل من أجل تحرير كردستان التركيّة. وقد نزح زعماؤها وبعضُ مريديهم إلى الجزيرة السوريّة بعد قمع حركتهم في تركيا، وكانت رعايةُ فرنسا لها تُستخدم وسيلةً للضغط على تركيا من أجل التوصل إلى اتفاق الحدود السوريّة  ــــ التركيّة. ولكنْ بعد الوصول إلى هذا الاتفاق، قامت السلطات الفرنسيّة باعتقال بعضهم، وإبعاد البعض الآخر إلى الساحل السوريّ ودمشق. وبعد أن استتبّ الأمرُ للفرنسيّين أفرجتْ عن قادة خويبون، وشجّعت التطوّرَ القوميّ للأكراد في مواجهة التيّار القوميّ العربيّ. وقد انقسم أعضاءُ خويبون في الجزيرة إلى مجموعتين: الأولى تعمل على تحرير كردستان التركيّة (ويمثّلها آلُ جميل باشا)، والثانية اتّجهت إلى إقامة كيان كرديّ في الجزيرة السوريّة (آل بدر خان). وفي العام 1932، نظّم بعضُ أكراد المجموعة الثانية، إضافةً إلى شخصّيات كُرديّة ومسيحيّة (من أعيان الجزيرة)، وبتشجيعٍ من الفرنسيّين، عريضةً رفعوها إلى المفوّضيّة الفرنسيّة، طالبوا فيها بإقامة حكم ذاتيّ (كرديّ ــــ مسيحيّ) في الجزيرة تحت الانتداب الفرنسيّ (على غرار الحكم الذاتيّ في لواء اسكندرون مُضافًا إلى جبلَي الدروز والعلويّين).

سنة 1933 تشكّل تحالفٌ من ثلاث جهات، بتوجيه من الاستخبارات الفرنسيّة، وهي عشائرُ المليّة والهوبركيّة وميشيل دوم (سريان كاثوليك). واستخدمتْ فرنسا هذا التحالف للضغط في المفاوضات الجارية بين الكتلة الوطنيّة ووزارة الخارجيّة الفرنسيّة. وبتوجيه من الاستخبارات الفرنسيّة، عقَد حلفاءُ فرنسا (أنصارُ الانفصال) مؤتمرًا أعلن التمسّكَ بالعرائض المُقدّمة إلى المفوّضيّة، معلنًا الإضرابَ العامّ وعدمَ استقبال أيّ موظّف سوريّ. ونتيجةً لذلك، عقد بعضُ القادة الوحدويين العرب والأكراد والمخاتير مؤتمرًا أكّدوا فيه وحدةَ البلاد السوريّة ووحدةَ شعبها. وأظهرت انتخاباتُ العام 1936 الانقسام داخل العشائر العربيّة والكُرديّة، وعملتْ فرنسا على إسقاط مرشّحي الكتلة الوطنيّة لتبرير خطّتها في إنشاء الكيان الكرديّ ــــ الكلدو آشوريّ ــــ البدويّ في الجزيرة السوريّة.

إلّا أنّ موقفَ الكتلة الوطنيّة، وتطوّرات الأوضاع الداخليّة والإقليميّة، أسقطت المشروعَ التقسيميَّ الفرنسيّ. فكانت نهايةُ حركات الانفصال مع بدء الاستقرار في الجزيرة السوريّة، وترافق ذلك مع الاستقلال وبدء الثورة الزراعيّة فيها. وهذا ما ضَمن عودة الحياة السياسيّة في سوريّة بأكملها. فانخرطَ الشعبُ (بكافّة فئاته) في الجزيرة في النشاط الاقتصاديّ والخدميّ، الذي كانت ثمرتُه الأولى الثورةَ الزراعيّةَ الحديثة. وهو ما أدّى إلى اتساع رقعة الأراضي المزروعة والمستصلحة، وإلى إدخال الآليّات والتقنيّات الحديثة في الزراعة، وإلى انخراط الجميع في العمل سعيًا وراء الثروة والمكانة الاجتماعيّة.

وفي هذا المناخ المنفتح على العمل والإنتاج، بدأتْ تتبلور بعضُ النشاطات المُريبة، ومنها التوجّهُ الأوروبيّ للاهتمام بالجزيرة وبإمكاناتها الاقتصاديّة ومواردها الطبيعيّة. كما ازداد تدفّقُ المهاجرين من تركيا، ونشأتْ عن ذلك مشكلات فرعيّة (مثل الهويّات المزوّرة).

***

رافق التطوّرَ الاقتصاديَّ حراكٌ سياسيٌّ مختلفُ التوجّهات، انعكاسًا للحركات السياسيّة في الداخل السوريّ. وبرز الشيوعيّون جبهةَ استقطابٍ واسعةً للأكراد السورييّن، الذين توزّعوا ما بين الحركة الشيوعيّة والتنظيم الكرديّ (البارتي).

وكانت مسألةُ التعريف الوطنيّ السوريّ للشعب الكرديّ في الجزيرة، والموقفُ من الحركة الكُرديّة في العراق، هما المسألتيْن الأكثر أهميّةً في الخلاف داخل الحركة الكُرديّة السوريّة. وتبلور الانقسامُ في الإجابة عن تلك الأسئلة بين ما بات يُعرف بـ”اليسار الكرديّ،” الذي قاده عثمان صبري بدعمٍ من مسعود البارزاني، والحزب الديمقراطيّ الكرديّ (اليمينيّ)، برئاسة عبد الحميد درويش بدعمٍ من جلال الطالبانيّ (1967).

ومن أبرز الخلافات الإيديولوجيّة بين الأكراد السوريين موقفُ الحركة الكُرديّة من فكرة “كردستانيّة” المناطق ذات الغالبيّة الكُرديّة في سوريّة، والموقفُ من انفصال الكيان الكرديّ عن الجسم السوريّ. وتراوحت الاتجاهات الفكريّة والسياسيّة داخل الحركة الكرديّة بين الدعوة إلى حقوق “الشعب الكرديّ السوريّ” بوصفه جزءًا من حقوق الشعب السوريّ، وبين المطالبة بالاعتراف الدستوريّ بالأكراد كقوميّة ثانية. وتباينت الأفكار المطروحة بين اللامركزيّة الواسعة، والفدراليّة، وصولًا إلى حقّ تقرير المصير.

***

في ثمانينيّات القرن الماضي، وفي ظلّ الخلافات السوريّة ــــ التركيّة في شأن مياه الفرات ولواء الإسكندرون وبعضِ قضايا الحدود، كانت الحكومةُ السوريّة تدعم حزبَ العمّال الكردستانيّ (PKK)، بزعامة عبد الله أوجالان، كحركة وطنيّة تحرريّة، وبهدف الضغط على تركيا. لكنّ السلطات التركيّة استطاعت تطويقَ أعمال هذا الحزب داخل تركيا واعتقالَ قادته. ولذا لجأ أوجالان إلى سوريّة، التي استضافته وقدّمتْ إليه التسهيلات اللازمة لانطلاق نشاطه من سوريّة، مُعلنًا تحالفَه مع “النظام التقدميّ الوطنيّ في سوريّة.” وهذا ما أتاح له شنَّ حرب عصابات منظّمة داخل الأراضي التركيّة. وقد عمدت السلطاتُ التركيّة إلى قمع حركة الحزب، وإلى الضغط على سوريّة وتهديدها عسكريًّا.

ومع تأزم الأوضاع السوريّة ــــ التركيّة، تصاعد نشاطُ الحزب داخل سوريّة. وفي المقابل، تصاعدت التهديداتُ التركيّة. غير أنّ تركيا عبّرتْ عن استعدادها لمناقشة مسألة المياه لقاء اعتراف سوريّة بضمّ لواء اسكندرون، والحدّ من دعم حركة أوجالان، وإخراجه من سوريّة وإغلاق قواعده العسكريّة. وقد قطعتْ تركيا مياه الفرات شهرًا كاملًا في العام 1990، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض منسوب مياه بحيرة الأسد وتخفيض انتاج الكهرباء. وبعد مفاوضات معقّدة عام 1992 تمّ التوصّلُ إلى اتفاق يضمّن منعَ العبور غير الشرعيّ للحدود، واستئنافَ عمل اللجان الفنيّة حول مياه الفرات. وقد ماطلتْ تركيا في تنفيذ الاتفاق، فتصاعدتْ عمليّاتُ حزب العمّال، وازداد الضغطُ على سوريّة. وفي ضوء موازين القوى الإقليميّة والدوليّة، قامت مصر بمسعى وساطة قاد إلى إخراج اوجالان من سوريّة بالتفاهم معه، وتمخّض عن “اتفاق أضنة” عام 1998 بين سوريّة وتركيا.

كان من أهمّ نتائج التحالف مع أوجالان في سوريّة إحداثُ نهضة في الوعي القوميّ الكرديّ، أدّت إلى صعود التيّارات اليساريّة، وإضعافِ الأحزاب التقليديّة. وإذ طرح “الابوجيون” مسألةَ “تركيّةِ” أكرادِ سوريّة، وإعادتهم إلى تركيّا، فقد استمر الحزب بالعمل في سوريّة تحت اسم “الاتحاد الديمقراطيّ،” كحزب كرديّ سوريّ، مستندًا إلى القاعدة الشعبيّة الواسعة التي بناها أوجالان.

***

مع بدء الأزمة السوريّة سنة 2011، تصاعدتْ حدّةُ المطالبات الكُرديّة، وانخرط بعضُ الأكراد في العمل المسلّح بغطاءٍ أمريكيّ غربيّ ــــ صهيونيّ، وذلك ضمن مقولة “محاربة الإرهاب.” فجرى تزويدُهم بالسلاح والمال، وأعلنوا الحكمَ الذاتيّ في ما دعوْه “المناطقَ المحرَّرة.” كما طرحوا مشروعَهم الفدراليّ من خلال حملةٍ إعلاميّة واسعة، بمساعدة الإعلام الأمريكيّ الغربيّ ــــ الصهيونيّ ــــ الخليجيّ ورعايته، ودعم العسكريين الأمريكان والأوروبيين والقواعد العسكريّة التي أقامها الأمريكيّون في تلك المناطق (شرق الفرات وشمال سوريّة).

حقّق المجهودُ الأمريكيّ للولايات المتّحدة قوةً محلّيّةً تُغْني عن الاستخدام الكثيف للعسكر الأمريكيين، كما أوجد لها النّواةَ الأساسَ لمشروعها التقسيميّ في سوريّة. وأدى ذلك إلى خلافات مع تركيا (الأطلسيّة) التي تناهض أيَّ مشروع كرديّ الطابع في المنطقة المحاذية لحدودها الجنوبيّة مع سوريّة.

***

على أنّ سوريّة العربيّة، كما نرى ونجزم، ليست ضدّ القضيّة الكرديّة في أراضيها التاريخيّة (كردستان). وهي مع الأكراد السوريين كمواطنين سوريين، لهم ما لباقي فئات الشعب، وعليهم ما عليهم. والعروبة التي تؤمن بها سوريّة ليست عنصريّةً ولا فاشيّة، بل منفتحة لتتّسع لجميع أطياف الشعب. أنّها عروبةٌ جامعة، لا انعزاليّة، ولا منكفئة على ذاتها. وهي حامية للوطنيّة السوريّة، وليست عبئًا عليها.

والعروبة في سوريّة، إذ تؤيّد المطالبَ الاجتماعيّة والثقافيّة لمواطنيها من الأكراد، فإنّها تؤْمن بأنّ جميعَ المشاكل المحلّيّة قابلةٌ للنقاش والحوار؛ فإذا ما اقتنع مواطنوها الأكراد بالتخلّي عن المشروع الأمريكيّ (قبل أن تتخلّى عنه أمريكا نفسُها)، وكما فعلتْ فرنسا مع مشروعها التقسيميّ الاثنيّ، فإنّ أبواب الحوار مفتوحةٌ أمامهم، كباقي فئات الشعب، وتحت سقف الوطن، وانطلاقًا من قاعدة المواطنة الرحبة والديمقراطيّة الحقّة.

أختم بمقولة ماركس: “التاريخ يعيد نفسَه، في المرّة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة.” وأضيف: أما المرّة الثالثة فيعيد نفسَه ككارثة ــ ــ ولا نريد لمواطنينا من الأكراد وغيرهم أن يعيشوا كارثةً أخرى!

دمشق                                 

:::::

“الآداب”

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.