في نقد الأيديولوجيا: حوار فكري مع عبد الله العروي(*)، (الجزء الأول)

ملاحظة من “كنعان”

نُشر هذا الحوار أصلاً في صيف 2014، ونعيد نشره لأهمية القضايا التي يثيرها والتي ما زالت إشكاليتها محتدمة في الفكر السياسي والواقع العربي اليوم.

■ ■ ■

في نقد الأيديولوجيا: حوار فكري مع عبد الله العروي(*)

أن تُجرِيَ حواراً فكرياً مع عبد الله العروي، اليوم، فأنت تصنع حدثاً ثقافياً بامتياز؛ وهو حدث ثقافي، لأن الرجل قامةٌ كبيرة في الفكر العربي خاصة، وفي الفكر الإنساني عامة، ولأن الحوار معه يُنضِج، أكثر، أسئلةً تطرحها كتاباتُه على قرّائها، وتفتح أمامهم بواباتٍ جديدةً لفهم ما استغلق فهمُهُ عليهم. وهذا، بالضبط، ما تميّز به هذا الحوار مع عميد الفكر العربي المعاصر.

شاء العروي أن يُفصح فيه عمّا لم يكن في الوسع إدراكُه، لدى السواد الأعظم من قرّائه، في ما خصَّ استراتيجيته الفكرية والمعرفية التي يخوض فيها منذ قريبٍ من خمسة وخمسين عاماً. وإلى ذلك، فإن هذا الحوار يُطِلُّ على مجمل الإنتاج الفكري للعروي، وهو مّا نَدَرَ حصوله في سوابق الحوارات الفكرية التي أُجريت معه.

وقد شاءت مجلة المستقبل العربي أن تنشر هذا الحوار الفكري مع عبد الله العروي حول نقد الأيديولوجيا كي يكون مدخلاً إلى التعريف بمعظم أعماله.

***

قبل الإجابة عن الأسئلة، استهلّ العروي اللقاء بتوطئةٍ أرادها بياناً لإنتاجه الفكري خلال مساره العلمي، منذ مستهل الستينيات من القرن العشرين حتى اليوم، ولما بين كتبه من صلاتِ تَرابُط. ولقد كانت هذه التوطئة التي تفضَّل بها عميد الفكر العربي مشكوراً، إضاءةً في غاية الأهمية لعالمه الفكري، وللوشائج القائمة بين نصوصه، كما سيلاحظ القراء ذلك.

توطئة

العروي: قبل أن أجيب عن الأسئلة المفصّلة، أريد أن أقول كلمة حول مجموع إنتاجي الفكري، مشدّداً على أنه يمثل وحدة تتجاوب وتتكامل أجزاؤها.

دليل هذه الوحدة هو الآتي: أول عمل نشر لي هو الحوار التلفزيوني المعنون بـ «رجل الذكرى»، الذي كتب في سنة 1961، والذي سيعاد نشره هذه السنّة. يتناول هذا الحوار موضوع الذاكرة. وقد تناولت الموضوع نفسه بعد عقود في قصة الآفة، وفي كتاب السنّة والإصلاح.

ينقسم كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة إلى أربعة فصول:

ـ العرب والأصالة.

ـ العرب والاستمرار التاريخي.

ـ العرب والعقل الكوني.

ـ العرب والتعبير عن الذات.

ويمكن تجزئة أعمالي إلى أربعة محاور، وكل محور مرتبط بأحد هذه الفصول: الأيديولوجيا، والبحث التاريخي، والتأصيل، والتعبير.

المحور الأول: وصفٌ وترتيب لمقالات العرب عن أنفسهم في العصر الحديث. لم أدرس الفكر العربي أو الفلسفة العربية أو الثقافة العربية، بل الأيديولوجيا فقط. هذا موضوع محدّد. اخترت من الإنتاج الفكري العربي المعاصر ما اعتبرته أيديولوجياً.

من يُسَمّ هذا الفكر أو ذَاكَ بالأيديولوجيا، عليه أن يبرّر هذا الحكم. بالنسبة إلى أي شيء يكون الفكر أيديولوجياً؟ ثم، قبل أي شيء، ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟

هذا ما فعلته في ثلاثة مؤلفات: مفهوم الأيديولوجيا، ومفهوم الحرية، ومفهوم الدولة. وزِدتُ الأمور توضيحاً في عدة مقالات جمعتها في كتابيّ أزمة المثقفين العرب، وثقافتنا في ضوء التاريخ. زد إلى هذين المؤلفين المحاضرة التي صدرت تحت عنوان «عوائق التحديث». هذا الجزء الأول من أعمالي يُكوِّن وحدةً حول الأيديولوجيا وما يميّزها من الواقعية والموضوعية.

الجزء الثاني يتعلق بالبحث الموضوعي في المجتمع الذي تسود فيه تلك الأيديولوجيا. والغرض منه إظهار أن الأيديولوجيا أيديولوجيا بالفعل، أي تصور خاطئ غير مطابق للواقع. دراسة الأيديولوجيا يجوز أن تكون عامة، تشمل كل البلاد العربية، لكن البحث التاريخي يمسّ بالضرورة بلداً بعينه، أي المغرب في ما يخصّني. لذلك كتبتُ مجمل تاريخ المغرب، وجذور الوطنية المغربية، والمغرب والحسن الثاني، ومقالات جمعتها في مؤلف مباحث تاريخية.

الجزء الثالث من أعمالي هو تعميقٌ للقسم الثالث من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، أي تأصيل للتاريخانية. وهنا لا بد من تجاوز التأريخية إلى التاريخانية. نقول إن هذه التحليلات [تحليلات الشيخ ورجل السياسة والمولع بالتقنيات] أيديولوجية، لأنها لا تطبق المنهج السليم لدراسة الحاضر والماضي. لولا أننا نذهب أبعد من هذا الاستنتاج، نقول إن هذه التحليلات إذا تحوّلت إلى سياسة تُخفق لا محالة، وإن التحليلات المناقضة لها تضمن وحدها النجاح. هذا الاستنتاج الثاني هو الذي أسميه أنا «تاريخاني». فوجب أن أبرّره، وأن أُؤَسّس له. وهو ما فعلته في مفهوم التاريخ، ثم مفهوم العقل. يُضاف إلى هذين الكتابين السنّة والإصلاح، ومن ديوان السياسة. هذه محاولة مني في تأصيل التاريخانية بوصفها بوصلة العمل السياسي الهادف.

وأخيراً الجزء الرابع الذي يتقاطع مع محتوى الفصل الرابع من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، يُعنى بالتعبير. وهو يتكوّن من خواطر الصباح التي تسجل وقْعَ الأحداث اليومية في النفس من دون أدنى تنظير أو تعقيل. ومن الأعمال الأدبية، تستحضر الغربة واليتيم وأوراق بكثير من الحنين إلى ذكريات الصبا، في حين يصف الفريق وغيلة أوضاع الحاضر، وتستكشف الآفة آفاق مستقبل مظلم. لا دور هنا للعقل، كل شيء مبني على الحدس والخيال.

انكبّ جلّ المحلّلين العرب على الجزء الأول فقط، ظنّاً منهم أن الباقي كله شرحٌ وتوظيف لما جاء فيه. تصرّفوا كما لو كنت أقدم أيديولوجيا جديدة عوض الأيديولوجيات التي انتقدتها. لم أقدّم التاريخانية كأيديولوجيا بديلة، بل كوسيلة للتخلص من كل أنواع الأيديولوجيا، وللالتصاق بالواقع لنضمن بعض النجاح لما نقدم عليه من تدبير.

لذلك أقترح أن نخصّص هذا الحوار لمسألة نقد الأيديولوجيا بما أنه يمثل 90 بالمئة مما كتب عن أعمالي.

***

دعوتَ إلى التاريخانية كمنهج للتفكير، وكنظرةٍ تحترم موضوعيةَ التطور التاريخي، في مقابل نمطٍ سائدٍ في التفكير يعاني نقصاً فادحاً في الحسّ التاريخي (بنيوي، نصّي، أيديولوجي، طوباوي…). بعد قرابة نصفِ قرنٍ من هذه الدعوة؛ هل لا يزال لها ـ اليوم ـ من شرعيةٍ لكي يُسْتَأنَف القولُ بها؟

العروي: عارضتُ بين التحليل الأيديولوجي والدراسة التاريخية ذات الأفق التاريخاني بهدف التمسك بالواقع. طبقتُ المنهج المقترح على وضعية الستينيات وخرجت بنتائج. من يطبّق نفس المنهج على الوضع الحالي يخرج بنتائج مغايرة. هذا واضح: عالم الفيزياء يخرج بنتائج مختلفة كلما اختلفت الظروف. هل يُطلب منه أن يغيّر منهاجه كل مرة؟

هنا لا بد من توضيح مسألة. بعدما رسمت الخطوط العريضة للذهنية التاريخانية الحديثة، انكببت على دراسة حالة معيّنة، مغرب القرن التاسع عشر. ولم أدّع أبداً أن ما استخلصته من هذه الدراسة العينية ينطبق على البلدان العربية الأخرى. وحتى في الأيديولوجيا العربية المعاصرة لم أتطرّق إلى أوضاع مصر إلا لأن الزعماء المغاربة كانوا يتخذون مصر مثالاً… كان محمد عبده بالنسبة إليّ مفتاح فكر علال الفاسي.

من العبث مقابلة التاريخانية بمناهج أخرى مثل التفكيكية أو البنيوية مثلاً. هل أنصار التفكيكية وضعوا نهجاً لفهم السياسة؟ كل منهاج صالح لمجال معرفي خاص به.

قيل منذ القديم إن التاريخ مختبر السياسة. القائد السياسي يتّبع حتماً في تصرّفه الفعلي المنهج التاريخاني. وأنا لم أهتم إلا بانكباب الفكر على العمل السياسي.

 بَدَا لك نقد التأخر التاريخي الذي يعانيه المجتمع العربي، المدخلَ الموضوعيَّ والضروري إلى إعادة تمثُّل معضلات الدولة والسلطة والنخب والتنمية والأيديولوجيا، والمدخلَ إلى نهوض الفكر والثقافة بالدور المنتظَر منهما اجتماعياً. وكان ذلك في أساس عنايتك بمركزية المسألة الثقافية في أيّ تحليلٍ للاجتماع مقابل طغيانٍ للتحليل الاقتصادوي في الوعي العربي آنئذ. هل ما زلتَ تَحْسَب مسألةَ التأخر التاريخي أمّ المسائل في المجتمع العربي؟ وهل ما زالت عوامل الشبه بين حالتيْ ألمانيا وروسيا وحالة المجتمع العربي قائمة في تقديرك، أم أن إدخالَكَ الحالةَ العربية ـ قبل أربعة عقود ـ في دائرة المقارنة بألمانيا في القرن التاسع عشر، وروسيا البلشفية، أتى محاولةً منك لتبرير دعوتك التي أطلقتَ عليها اسم «الماركسية الموضوعية»؟

العروي: كلامنا على المجتمعات التاريخية، كلها في اتّصال بعضِــها ببعض. إذا أخذنا مجتمعاً بعينه في لحظة معينة، فهو إما متفوّق على المجتمعات المحيطة به، وإما متكافئٌ معها أو متخلفٌ عنها. مقياس ذلك نجده في الحرب أو في التجارة. أيام الجاحظ كان العرب يشعرون بالتفوّق، أيام ابن خلدون بدأوا يشعرون بالتخلّف. العبارة عن هذا الشعور واضحة عند هذا وعند ذاك.

كتبتُ عمّن يعي التخلف، يعترف به ويبحث عن وسائل استدراكه. ولم ألتفت إلى من يتجاهله أو ينفيه. من خصائص الفكر الأيديولوجي الانكباب على هذه النقطة وحدها.

هذه إذن حالةٌ عادية في التاريخ. من الطبيعي أن نجد لحالة العرب ما يماثلها في مجتمعات أخرى. لستُ أول من تكلم على التجربة الروسية أو الألمانية أو الإيطالية، بل سبقني إلى ذلك كُتّاب عهد النهضة. كل ما فعلتُه هو أني زدت الأمر تدقيقاً.

هذا التدقيق هو الذي جعلني أخلص إلى أن التفكير في التخلف والإصلاح يؤدي إلى فهم «حقيقة» التاريخ، وهذه ترادف معنى الماركسية الموضوعية.

تبيّن لي عن بَحْثٍ وتمحيص أن الماركسية الموضوعية ليست موضوعة (proposition) تُناقش، بل هي وضعية (situation) تُشاهد وتوصف.

أدركتَ مبكّراً أن دراسـاتك دارت ـ سنوات الستينيات والسبعينيات ـ على سؤالٍ إشكالي هو: كيف يمكن استيعاب مكتسبات الليبرالية قبل ـ ومن دون ـ المرور بمرحلة ليبرالية؟ هل ما زالت الإشكالية دقيقة اليوم، أم أن «المرور بمرحلة ليبرالية» أمرٌ لا غنًى عنه، ولا مَهْرب منه؟

العروي: يعتقد الكثيرون أن المواجهة بين الماركسية الشيوعية والرأسمالية الليبرالية انتهت بانتصار هذه الأخيرة، والانتصار تجسَّد في العولمة. فلم يعُد هناك مبرّرٌ للقول إن في إمكان مجتمع ما اختزال المرحلة الليبرالية والدخول رأساً إلى الاشتراكية، إذ لم يعُد لهذا النظام أي مستقبل. أرى أن الموضوع ليس بهذه البساطة. لم يختف التطلع إلى العدالة والمساواة، وليس في إمكان العولمة أن تحققه فعلاً.

قلت في مقالي عن الماركسية والعالم الثالث إن الماركسية الموضوعية [وهي وجه من أوجه العولمة] ليست بوّابة إلى الاشتراكية، بل إلى تعميم القيم الليبرالية في مجتمع متخلِّف مرّ بثورة تقول عن نفسها إنها اشتراكية أو شيوعية.

حتى لو تصورنا أن المجتمعات كافة انخرطت بنجاح في العولمة، وهذا غير مضمون البتة، سيظلّ بعضُها يحتفظ بميزة السبق.

آخذْتَ على فكر الشيخ، وعلى الفكر العربي عموماً، أنه يعمد إلى الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليه الآخر (= الغرب)، هل ما بَرِحَ الفكر العربي يفكّر، اليوم، من داخل الأطر الإشكالية التي يرسمها له الآخر ويحدّدها، أو نَحا منحى توليد أسئلته من رحم واقعه المجتمعي والثقافي؟

العروي: أكّد ابن خلدون أن المغلوب مولع بتقليد الغالب. والغالب في عينه كان الإسلام. القاعدة عامة، غير متعلقة بهوية الغالب أو المغلوب.

الغالب هو الذي يملك المبادرة. يطرح السؤال الذي يتولى المغلوب الإجابة عنه. إذا لم يع المغلوب المسألةَ، فإنه يصبح على التوّ خارج التاريخ، كحال هنود أمريكا. من ينحو هذا المنحى يلجأ إلى الفن أو الفلسفة، يحتمي بالأزل ليتحرر من ربقة الزمن. كان يقال الغالب هو الله، واليوم نقول الحاكم هو التاريخ. المعنى واحد.

المفكّر الجادّ عندما يطرح مسألة التخلّف، ويحاول تصور حلّ لها، لا يحاور غيره بقدر ما يحاسب نفسه. يستنتج من حكم التاريخ ما يستنتج. أما خصمه فإنه ينفي المسألة من الأساس. له الحق في ذلك، لكنه ينطق بمنطق غير سياسي، ومع ذلك يظن أنه يقول كلاماً سياسياً!

 هل كان الشروع في إنجاز الكتب المفهومية الخمسة إيذاناً بالانتقال من التاريخانية إلى الحداثة، أم أن خيط الاتصال بين اللحظتين المعرفيتيْن ظل مستمراً؟

العروي: التاريخانية هي منهج الحداثة. إذا كانت هذه محقّقة صار المنهج التاريخي عادياً يُفهم بكيفية عفوية، بل لا يُتصور اللجوء إلى غيره في مجال السياسة بالذات. أما في غير السياسة، فالأمر مختلف.

إذا كان المجتمع غير حداثي، أو ناقماً على حداثة مفروضة عليه، فلا مناص من حملة توضيحية، وهي حملة صعبة. ما يبدو بديهياً للفكر التاريخي يبدو متهافتاً لغيره، لأن التاريخاني يميّز بين مجالات المعرفة، في حين أن خصمه يرفض التمييز.

 بدوتَ منصفاً، كثيراً، للمقالة الليبرالية العربية، على الرغم من تسجيلك مفارقتَها، وخلطَها بين لحْظات الليبرالية الغربية الأربع (كما عند أحمد لطفي السيد)، وغياب المنظومية أو الاتساق النظري فيهما. هل كانت وظيفتُها ـ التي وصفتَها بالايجابية ـ كافية وحدها لإنصافها على النحو الذي فعلتَه في مفهوم الحرية؟

العروي: نشأت الليبرالية العربية في إطار المواجهة بين مجتمع متغلّب، وآخر يشعر بالضعف والاستغلال. كانت مواجهةٌ، ولكن كان كذلك تلاقح. تكوّنت جماعة، قليلة العدد، قامت بدور الوسيط المفاوض. ثم انتهى دورها بانتهاء الوضع الاستعماري.

لكنها ظلت تحمل سمات الدور الذي قامت به. ظلت ضعيفة اجتماعياً، وبالتالي فكرياً، متهمةً معزولة في الداخل، ومحتقرة في الخارج. الجميع يرميها بانعدام الأصالة.

لذا تكلّمت على مأساتها.

وقفْتَ في مفهوم الدولة على كابحٍ معرفي في الوعي الإسلامي للدولة أسميْتَه طوبى الخلافة عند الفقهاء، وهي طوبى لا يضارعها في الغربةِ والبرَّانية عن واقع الدولة التاريخي سوى ما دَعَوْتَه بـ «فردانية الفيلسوف/المتصوّف». ولكن ألم تكن دولة الفقهاء أكثر واقعيةً من دولة الفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، بل حتى من دولة كتّاب الدواوين في الآداب السلطانية؟ أين دولة المؤرخين التي لم يتناولها تصنيفُك في الكِتاب ما خلا حالة ابن خلدون؟

العروي: مارس ابن خلدون السياسة، أعني الكتابة الديوانية، ثم القضاء. وفي الحالين تصادم مع الواقع، فاكتسب نزعة ذهنية نستطيع أن نسمّيها تاريخانية. فميّز باستمرار بين الوعي بالواقع وتخيّل البديل.

من تخيّل البديل؟ أولاً المحدّثون الذين تشبّثوا بدولة الرسول، خليفة الله في الأرض. من هنا الخلافة، أي حكم الناس بتكليف إلهي.

ثانياً، الفلاسفة والمتصوفة في صورة مدينة فاضلة مكوّنة من أفراد كلهم فضلاء أتقياء، لا سلطان للشهوات والغرائز الدنيئة على نفوسهم.

لكن هذا الخيال لم ينل شيئاً من الدولة القائمة، دولة الملك أو الغلبة أو العصبية أو التسلط.

كان ابن خلدون متصوفاً أيضاً، لكن بعد أن ترك السياسة، ولم يعد يفكر فيها. عندما كان يفكر فيها لم يخطر بباله أبداً أن يطبق عليها مقاييس الحكمة أو الورع.

 ألا يعيش الوعي السياسي العربي، اليوم، طوبويات أخرى: طوبَى الدولة الوطنية، طوبى الدولة القومية، طوبى الدولة الديمقراطية، أو الاشتراكية ..؛ ما الفرق بين طوبى الأمس وطوبى اليوم؟

العروي: لا يزال الكثيرون يمزجون الأماني بالواقع. فهم بين الخوف من الوضع القائم والرجاء أو التطلع إلى البديل المحبّب.

يتكلّمون على الدولة القومية أو الدولة الوطنية أو الدولة الديمقراطية، كما لو كانت قائمة أو على وشك القيام، تماماً كما كان يفعل الفقهاء مع دولة الخلافة والحكماءُ مع المدينة الفاضلة، والصوفيون مع رباط الأخيار. هكذا تكلم طويلاً الشيوعيون والقوميون، وهكذا يتكلم اليوم أنصار حقوق الإنسان، أي الليبراليون الجدد.

إلى جانب الرجاء الخوفُ من الدولة القائمة. لكن الواقع لا يُغَيَّر بالتخيّل. لا سلطان للخيال الصرف على السياسة. الواقع يُغيَّر بالواقعية. هذا هو درس التاريخانية لمن يفهمها على وجهها.

 حلَّلتَ ظاهرة الحدّ والحصر في اشتغال العقل في الثقافة العربية، لاحظتَ أن عقلَ المطلق (= الكلامي) هو العقل المطلق في هذه الثقافة، وأن الخلط استمرّ فيها بين العقل والمعقول، وأن بين عقل العدد وعقل الكسب وعقل الجهاد… مشتَرَكٌ جامعٌ هو العقل المعقول: عقل الاسم، لا عقل الفعل، وأن العقل عند العرب المسلمين لم يتحول ـ لذلك السبب ـ إلى عقلانية… إلخ. هل نفهم من هذه القراءة أن العقل الإسلامي عقل نصّي: يعْقِل النصّ لا الواقع؟ وهل الحدّ والحصر فيه من آثار نزعته النصّية، أم من تأثير الواقع التاريخي الذي كان يرسم له حدوداً لا يستطيع تخطيها؟

العروي: في أي مجتمع تقليدي العلم الكلي سابق على المعلوم الجزئي. هذه قاعدة منطقية لا تعارض. من هنا تساؤلُ فلاسفة القرون الوسطى، مسلمين وغيرهم، هل يعلم الخالق الجزئيات؟

لم يتمكّن أحد من حلّ هذه المعضلة، لا ابن رشد، ولا توما الأكويني. الحلّ عملي. وهو ما قام به غاليليو عندما درس قانون الحركة مفصولاً عن أية مسألة أخرى لفصل المعلوم الجزئي عن العلم العام. العلم المطلق، بالنسبة إلى الإنسان، لا يفيد الجزئيات، والمعلوم الجزئي لا يفيد العلم المطلق.

العقل هو المنهاج الذي يمكِّن من عقل المعقول الجزئي. ليس العقل، كما كان، هو بيان المطلق وتأويلُه كشرطٍ لمعرفة حقيقة كل جزء.

عندما يكون منطق المطلق هو المتغلّب في مجتمع ما، كما كان عندنا في الماضي، يصبح كل مفكّر خاضعاً له: الحكيم، أي الطبيب، أو الفيلسوف، والمتصوف، والفقيه، والمتكلم، كلهم يتبعون نفس المنهج. لاحظ أن ابن رشد الفيلسوف يشرح أرسطو، كما يشرح ابن رشد الفقيه موطأ مالك.

عندما نُبدِل عقلاً بآخر، نظرة لأخرى، كما فعل غاليليو، يغزو المنطق الجديد مجالات المعرفة الواحد تلو الآخر، الفيزياء، الفلسفة مع ديكارت، القانون مع مونتسكيو، السياسة مع روسو، الأخلاق مع هيوم، الاقتصاد مع آدم سميث، علم الحياة مع داروين… إلخ.

إذا أردنا اليوم أن نستنير بعقل الماضي، فإننا نُحْيي بالتبعية عقلَ المطلق. لا ضرر في أن نفعل ذلك في الفلسفة أو الأخلاق الفردية أو الفن، لكن الضرر كبير عندما يتعلق الأمر بالسياسة، بالأخلاق العامة، بالطب… إلخ. والضرر ملاحظ.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.