نَشَرْتُ مؤخرًا مقالا قصيرا بعنوان “بوليفيا، انقلاب طبقي ورجعي وعنصري”، وكتَبْتُ إشارة عابرة لمعدن “الليثيوم” (“… أما في بوليفيا، فإنها -أي الإمبريالية الأمريكية- تستهدف أيضًا الغاز والليثيوم، إذ تضم بوليفيا أكبر احتياطي عالمي”)، ولئن كانت استخدامات الغاز الطبيعي معروفة، فإن الليثيوم غير معروف للجمهور الواسع، ولا تُعرف قيمته في سوق المعادن، ولا استخداماته وتطبيقاته العديدة…
المعادن في بوليفيا:
تُنتج بوليفيا العديد من المعادن، ومن بينها الملح والقصدير والذهب واليورانيوم، والنفط، وخصوصا الغاز والليثيوم…
الغاز:
تتركز حقول النفط والغاز في شرق البلاد، ويُقَدّرُ احتياطي الغاز الطبيعي بنحو 24,8 تريليون قدم مكعبة، ويفوق الإنتاج اليومي للبلاد ستين مليون مترًا مُكعّبًا (سنة 2017)، ويُستخدم الغاز في إنتاج الطاقة في البلاد، ويُصدّر الفائض، عبر خطوط أنابيب، إلى الأرجنتين والبرازيل، ويُصدّر النفط عبر الأنابيب إلى ميناء “أريكا”، في تشيلي، على ساحل المحيط الهادئ، فيما يُصدّر الغاز عبر أنبوب يصل إلى الأرجنتين، وفي منتصف حزيران/يونيو 2019، اتفقت حكومة بوليفيا مع حكومة بيرو، على تصدير الغاز الطبيعي، عبر خط أنابيب، من بوليفيا إلى ميناء “إيلو” في بيرو…
بعد انتخابه للمرة الأولى، أعلن الرئيس البوليفي “إيفو موراليس” (وهو أول رئيس من السّكّان الأصليين في البلاد) في الأول من أيار/مايو 2006، بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر من توليه مهامه، تأميمًا جُزْئيًّا للغاز، الذي يُشكل أهم موارد هذا البلد الفقير، الذي كان يعيش نحو 90% من سكانه آنذاك (سنة 2006) تحت خط الفقر، ويتمثل التأميم الجُزْئي في تحرير عقود شراكة بين الدولة والشركات متعددة الجنسية في إنتاج وتَسْويق الغاز، أي المشاركة في الأرباح، وهو ما لا تُريده الشركات (خصوصًا الشركة الإسبانية “ريبسول” والشركة البرازيلية “بتروباس”)، أما الدّولة التي لا تستطيع تخصيص أموال للإستثمار في حقول الغاز، فتستهدف زيادة عائداتها من ثروات البلاد، واستغلال الغاز لتلبية احتياجات المواطنين، سواء من الطاقة، أو من استخدام العائدات في تطوير قطاعات التعليم والصحة والبُنية التحتية، وزيادة رواتب العاملين في قطاعات عديدة شن عُمالها إضرابات عديدة، منذ 2003، ما أطاح بالحكومة آنذاك …
أدّى العداء الأمريكي للحكومات التقدمية في أمريكا الجنوبية إلى إفساح المجال للشركات الروسية والصينية لاستغلال موارد هذه البلدان والإستثمار في بُنيتها التحتية وفي مشاريعها وقطاعاتها الإستراتيجية…
تستغل شركة “غازبروم” الروسية حقل “أكيو إينكاهواسي” للغاز الطبيعي، بالاشتراك مع المجموعة الفرنسية “توتال” والشركة الأرجنتينية “تيكبيترول” والشركة البوليفية “واي بي إف بي تشاكو”، ثم وقعت حكومة بوليفيا وشركة “غازبروم” الروسية للغاز، خلال الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017، على هامش “مُنتدى البلدان المصدرة للغاز” في مدينة “سانتا كروز” البوليفية، عددا من الاتفاقيات التي ترمي من ورائها حكومة بوليفيا تطوير استغلال حقلين من الغاز الطبيعي، واستخدام الغاز كوقود لوسائل النّقل العمومي، بدءًا بالحافلات، بحسب وزير المحروقات في حكومة بوليفيا، كما وقعت بوليفيا وغازبروم اتفاقا لتعديل طاقة حافلات النقل العام، وتحويلها من الديزل إلى الغاز الطبيعي المسال، والغاز الطبيعي للسيارات، مع الإشارة أن حكومة بوليفيا التي أطاح بها الإنقلاب كانت تُدافع عن مَبْدَأ تحديد الدول المنتجة سياسة مشتركة للأسعار، وعن التعاون من أجل المحافظة على البيئة، عبر زيادة استخدام للغاز، بدل النفط، باعتبار الغاز “طاقة نظيفة”…
الليثيوم:
نشر موقع “كاونتر بونش”، مقالا عن مكانة أو دَوْر الليثيوم في توجيه السياسة العدوانية للولايات المتحدة والشركات متعددة الجنسية، في بوليفيا، إلى حد الإطاحة بالرئيس “إيفو موراليس”، بعنوان (After Evo, the Lithium Question Looms Large in Bolivia )، وأصاب المقال في إبراز جانب الهيمنة الإمبريالية على المواد الأولية وموارد البلدان الفقيرة، وخاصة المعادن الثمينة أو النادرة، أو التي تستخدمها شركات التكنولوجيا لصناعة الحواسيب أو أجهزة الإتصالات أو الطاقة المُسمّاة “نظيفة”، وغيرها من الصناعات التي تُحقِّقُ قيمة زائدة مُرتفعة…
تمتلك بوليفيا نحو 70% من الإحتياطي العالمي لمعدن “الليثيوم” الإستراتيجي، ولكن استخراجه واستغلاله يتطلب استثمارات وخبرات وتكنولوجيا لا طاقة للحكومة البوليفية بها…
الليثيوم هو معدن صلب، حديث الإكتشاف، ولم يكن معروفًا قبل بداية القرن التاسع عشر، ولم يكن إنتاجه بشكل صناعي متاحًا قبل سنة 1923، ويتميز بخفة الوزن وبمقاومة الظروف الطبيعية الإستثنائية، المتعلقة بالضغط ودرجة الحرارة، ووقع استخدامه خلال الحرب العالمية الثانية في “تشحيم” محركات الطائرات، وتُستخدم بعض مُشتقاته من الأمْلاح، في بعض المجالات الطّبّية، ويُستخدم الليثيوم خصوصًا في تطبيقات التكنولوجيا الحديثة، عبر بطاريات تجهيزات الإتصالات (الحواسيب والهواتف المحمولة، والمُسماة “ذكية”) والسيارات الكهربائية وغيرها…
اهتمت الولايات المتحدة، خلال الحرب العالمية الثانية بمادة “الليثيوم”، ونظمت المخابرات العسكرية الأمريكية عمليات عديدة لاختطاف وتهريب أهم باحثي وعُلماء ألمانيا، الذين انهمكوا في تطوير سلاح الجو وغزو الفضاء، واستخدمتهم الولايات المتحدة فيما بعد لتطوير برنامجها النووي والفضائي، وأصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج لليثيوم الصناعي، بنحو 42 ألف طن، خلال ثلاثين سنة من “الحرب الباردة” (منتصف الخمسينات حتى منتصف الثمانينات من القرن العشرين)، واستخدمته الصناعات العسكرية الأمريكية في التطبيقات الصناعية، عبر تجارب كيماوية وفيزيائية عديدة على الأملاح ومشتقات الليثيوم الأخرى، أنتجت تلوثًا خطيرًا للمياه الجَوْفية وللطبيعة، وبالإضافة إلى الصناعات النووية والفضاء، استُخْدِم الليثيوم في صناعات الزجاج، وهو مجال واسع يشمل البناء والإنشاء وصناعات السيارات والعديد من الأجهزة الأخرى، إلى أن تطورت التكنولوجيا الحديثة، عبر بطاريات الليثيوم، منذ 2007، فتطورت تقنيات ووسائل استخراج وإنتاج الليثيوم، وارتفع الطلب على الليثيوم كما ارتفع سعره في السوق، بعد أن انخفض إثر انهيار الإتحاد السوفييتي، وانتهاء الحرب الباردة…
بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الإقتصادية:
لم يُصبح “إيفو موراليس” رئيسًا، إثر انقلاب عسكري، وكذلك شأن “نيكولاس مادورو” أو زعماء حزب العمال في البرازيل، وغيرهم في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية وخارجها، بل احترم جميع هؤلاء مسارات ومواعيد الإنتخابات، واحترموا إجراءات الديمقراطية التمثيلية، وحازوا على أغلبية أصوات الناخبين، ومع ذلك تُعاديهم الإمبريالية الأمريكية وتتهمهم بممارسة الدكتاتورية وعدم احترام حقوق الإنسان، وتُنْشئ الولايات المتحدة شبكات داخل البلدان التي تحكمها تيارات لا تُرضِيها، وإن لم ينفع ذلك، تتدخّل السفارة الأمريكية مباشرة، وتُشجع وتدعم التمرد العصيان العسكري والمَدَنِي، بهدف تغيير شكل الحكم، كما حصل في جورجيا وأوكرانيا وفي الأرجنتين والبرازيل، ناهيك عن التدخل العسكري المباشر وتخريب البلدان، كما في ليبيا أو سوريا والعراق وأفغانستان، وقبلها يوغسلافيا وبنما وغرانادا وفي معظم بلدان أمريكا الوسطى وغيرها…
تُعادي الإمبريالية الأمريكية (والأوروبية) بعض الأنظمة، لعدة أسباب، ومن بينها الموقع الإستراتيجي الذي تريد الهيمنة عليه، عبر إقامة قواعد عسكرية أو اتفاقيات “دفاع مشترك”، وغير ذلك من أساليب الهيمنة، أو بسبب الثروات ( محروقات أو معادن صلبة وغيرها)، وهذا حال “بوليفيا”، التي حطمت الرقم القياسي العالمي في عدد الإنقلابات العسكرية، منذ استقلالها سنة 1825، بمعدل انقلاب كل سنتيْن تقريبًا، ينفذه الجيش، بالنيابة عن الشركات العابرة للقارات، التي تريد هذه المرة استغلال الغاز والليثيوم، هذا المَعدن الإستراتيجي الضروري لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية…
تعارضت أو تناقضت المَصالح، بين الحكومة البوليفية التي تريد مزيدًا من الموارد والعائدات لاستثمارها في عملية التنمية، من ناحية، في بلد غني بالمعادن، ولكن الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز ثلاثين مليار دولارا، رغم تضاعُف حجم الإقتصاد ثلاث مرات، بين 2006 و 2014، والشركات متعددة الجنسية، التي تريد السيطرة على المحروقات (الغاز) والمعادن (القصدير والزّنك والليثيوم والفضة والإنديوم وغيرها) دون رقابة حكومية، ودون اكتراث بالبيئة وبحياة السكان الأصليين، الذين يملكون الأراضي، حيث توجد المعادن، ولما قررت الحكومة إبرام صفقات مع الشركات الصينية، حدث الصّدام مع الشركات وما وراءها من حكومات، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، التي شنّت الحرب التجارية ضد الصين، التي ستستغل الليثيوم، وضد روسيا التي تستغل الغاز، في بوليفيا، وكانت الحكومة البوليفية قد غيرت قواعد استغلال الثروات، منذ 2006، وأقامت بعض الشركات الأجنبية دعاوى في محاكم التحكيم الدولية، وحصل بعضها على تعويضات مالية أقل بكثير من المبالغ التي كانت تُطالب بها…
وافقت الشركات الصينية على الشروط التي أقرّتها حكومة بوليفيا، ووقعت اتفاقيات معها لاستغلال “الليثيوم”، فكانت هذه الإتفاقيات بمثابة “القشّة التي قَسمَت ظَهْرَ البعير”، فتسارعت خطوات الإمبريالية الأمريكية للتخلّص من “إيفو موراليس” الذي يُمثل رَمْزًا للإقتصاد الوطني، وحجر عثرة أمام الهيمنة المُطْلَقة على البلاد وثرواتها…
خاتمة:
عندما حكمت الفئات التقدمية بعض دول أمريكا الوسطى والجنوبية، لم تُغيّر قواعد الحُكم، بل بقيت وسائل الإعلام، وقسم هام جدًّا من المنظومة التعليمية، على ملك البرجوازية المحلية والكنائس، ورغم ادّعاء الإشتراكية، أبقت هذه الحكومات على بعض القوانين الرجعية، مثل مَنْع الإجهاض، لأنه “يتعارض مع تعاليم الكنيسة”، رغم تعدد حالات الحمل إثر عمليات اغتصاب النساء والصبايا المُراهقات، وكانت الكنيسة ثغرةً استغلتها الكنائس الرجعية (والمسيحية الصهيونية) الأمريكية، لتكثيف الدعاية، خصوصًا في أوساط الفُقراء، قبل المطالبة ب”الحُرّيات الدّينية” لهاته الكنائس الرجعية…
في المجال الإقتصادي، تمثلت إعادة توزيع الثروة في تحسين مستوى التعليم والرعاية الصحية، وفي الإنفاق الإجتماعي، ليصبح الفُقراء مُستهلكين، ولم تستثمر معظم الحكومات التقدمية في إعادة هيكلة الإقتصاد، لترجيح كَفّة الإقتصاد المُنتج، مقابل الإقتصاد الريعي، ولما عجزت حكومة فنزويلا أو البرازيل، عن توزيع الريع على الفقراء والفئات المتوسطة، بسبب الحصار وانخفاض أسعار النفط في السوق العالمية، احتجّ الفُقراء ضد الحكومات التي كانت تَدْفَع، وانقطعت، بل عجزت عن الحفاظ على نَسَق الإنفاق الإجتماعي…
تُدْرَج هذه السياسة الإقتصادية في باب “النيوكلاسيكية” أو “الكينزية”، أي إشراف الدولة على الإقتصاد، وإنفاق بعض المبالغ على الفُقراء، لكي يتمكنوا من الإستهلاك، وتحفيز الإقتصاد عبر تشجيع الإستهلاك الداخلي، وزيادة الطلب على السلع، لتمكين عَجَلَة الإقتصاد من الدّوران، لكن بعض البلدان (مثل فنزويلا) لم تتمكن من إنتاج الغذاء الذي يستهلكه المواطنون، وكان من الأجدى توجيه الجُهود نحو البحث عن وسائل استغلال الأراضي (غير السّهلة) وتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، لمنع الإنهيار الكامل… لذا، فإن هذه السياسة ليست اشتراكية، بل رأسمالية تحت إشراف الدولة، وكان انتهاج هذه السياسات من أهم أسباب الإطاحة بهذه الحكومات، أو اختلاق المشاكل لها…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.