“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف : محمود فنون، الحلقة (5)

الصلابة والصمود

هي الموقف النضالي البطولي أمام رجال التحقيق، الذي يقفه المناضل، والذي يمثل، ويوصل إلى حالة الانتصار، وحسم الصراع بين قطبي التحقيق لصالح المناضل، مؤدياً إلى نجاته ليس كشحص فحسب، بل كمناضل صان شرفه، وحمى نفسه بنفسه من الوقوع في براثن رجال التحقيق، وألاعيبهم، وخلص مصيره من بين أيديهم ، وصان بذلك نفسه كمناضل.

وفي ذات الوقت يكون قد جنب  وحمى رفاقه وحزبه وشعبه من الضربات والعدوان على يديه. وأكد بذلك صحة مبادئه وعمق عقائديته، وأكد نفسه كمناضل ثوري، وضرب مثلاً حياً ونموذجاً لرفاقه المناضلين وشعبه المكافح. وأيضاً أفشل بجسمه، لحمه ودمه وإرادته، مخططات أجهزة التحقيق والمخابرات مؤكداً استمراريته الكفاحية وقدرته على التحدي والبذل والعطاء في أقبية التعذيب مزوداً نفسه وغيره بسلاح معنوي لا يقهر.

ان الصمود والصلابة هي سمات المناضل الثوري البطل. هي سلاحه القاطع الذي لا يلين والذي يمكنه من الانتصار على رجال التحقيق. هذه السمات وهذا السلاح الذي تتوفر  مقوماته لدى كل مناضل مهما كانت بنيته الجسمية، وأحواله المعاشية (كما أكدت التجربة) إذا ما قرر استخدامها، وإذا ما أدرك طبيعة الصراع القائم بينه وبين رجل التحقيق، إذا ما كرس إرادة الصمود والصلابة، إرادة الانتصار أثناء عملية التحقيق.

ان كثيراً من المناضلين قد ضربوا آيات من البطولة والصمود، دون أن يكون لديهم اعداد مسبق وخبرة ودراية بمسألة التحقيق وأساليبه مستندين إلى مغذيات من ارادتهم، وتصميمهم، وواقعيتهم، ومعرفتهم بخطورة الإدلاء بالمعلومات مهما حاول رجل التحقيق تبسيطها لهم.

غير أن ذلك لا يعفي من ضرورة تربية المناضلين وتوعيتهم وتأهيلهم لاحتمالات الاعتقال والتحقيق، وتزويدهم بالمعرفة والخبرة ، والنماذج البطولية ، وتعريفهم بخطورة التعاون مع المحقق على الفرد بصفته الشخصية ، والنضالية ، وخطورة التعاون مع المحقق على الحركة النضالية والجماهير الشعبية والثورة.

وذلك حتى يكون أكثر قدرة على الصمود والتحدي، والتصدي لأساليب التحقيق، وأكثر فهماً لعمليات التحقيق وأشكاله، وأطواره، وأدوار المحققين بين الفينة والأخرى وألاعيبهم وخدعهم. وبذلك يكون صموده ليس تعبيراً عن إرادته فحسب، وليس تعبيراً عن مجرد موقف دفاعي عن الذات، بل تعبيراً عن عقائديته، وارادته الوطنية، الثورية، الصلبة في حماية نفسه كمناضل وصيانة حزبه وشعبه وثورته، بما يدعم صموده ويعززه ويجعل الصراع يدور في مجراه العقائدي بوعي وتصميم مستنداً على خلفية الوفاء للثورة والشعب.

ما هو الصمود؟

يتعرض المعتقل لأساليب التعذيب بغية التأثر فيه نفسياً وجسدياً كما ذكرنا سابقاً. أي بغية احداث أفعال وردود أفعال، وتفاعلات في البنية الانسانية المادية والمعنوية، بعض هذه الأفعال والتفاعلات يتلقاها المناضل وتقع فعلاً (كان يتعرض الانسان لضرب فينتج الألم، يمنع عنه الماء فيعطش، أو الطعام، فيجوع، يصلب ساعات متواصلة فيتعب، يمنع من النوم فيصيبه الارهاق والتعب والنعاس الشديد) وبعض هذه المؤثرات والتفاعلات قد يقع فعلاً وقد لا يقع. فالحرمانات المذكورة سابقاً تؤثر على الحالة النفسية للمعتقل بدرجات متفاوتة فالبعض يتأثر أكثر من الآخر.

والجانب المعنوي وهو المستهدف: فإن المناضل المزود بالايمان، والارادة، قد يتأثر فيزيائياً وجسمانياً من الضرب ولكن لا تهتز له قناة في الجانب المعنوي. لأن الجانب المعنوي لا يعتمد على الطعام والشراب وإنما على الاستعداد وهذا خاصة ضمن المواقف النضالية.

فالصمود هنا هو التفوق على المؤثرات المادية والمعنوية التي يتعرض لها المناضل، إن الصمود في التحقيق  مرتبط تماماً بأطوار التحقيق، وينمو ويزدهر ويتعمق جذره كالكائن الحي ويتغذى من التجربة السابقة (صمود في مرحلة تحقيق سابقة) كما يتغذى من الارادة الصلبة والحماس النضالي. أي أن التجربة النضالية المعاشة في أقبية التحقيق، والتي تستند دوماً على صمود (ساعة أخرى) والتي يتحقق فيها صمود أولي في مراحل التحقيق الأولى، ستزود المعتقل بارادة صمود جديدة تضاف إلى صمود الساعات والتجارب الأولي.

 إذ أن صمود المراحل السابقة زاد ومغذِ لصمود المراحل اللاحقة. وهكذا هنا يتحقق المثل الدارج القائل (بين النصر والهزيمة صبر ساعة). هذا الصبر الذي يتحقق فعلاً كلما ازدادت استعدادات المناضل قيد التحقيق لتضحية أكثر فأكثر. وبالتالي يبتعد عن الانهيار. ان مغذيات الصمود في التحقيق كلها داخلية وفي ذات وكيان المناضل، وإن فكرة بسيطة تخطر على بال المعتقل كأن يفكر بأنه عيب عليه أن يعترف، وان من العار أن يدلي بمعلومات عن البيت الذي أمده بالغذاء، أو عن رفيقاته الفتيات… أو أي شيء من هذا القبيل حتى يتعزز صموده لدرجة جبارة تفشل كل أساليب التعذيب والتحقيق.

 أما الصلابة وانطلاقاً من كونها صفة شخصية فهي تعني الثبات الحديدي على الموقف البطولي المتحدي لارادة العدو وأدوات قمعه وأجهزة تحقيقه. إنها الارادة الحديدية القوية في مقارعة العدو في كل مكان استناداً إلى الإيمان العميق بعدالة القضية ، والدفاع عنها والنضال من أجلها ، وهي تتجلى في كل مكان وكل مناسبة وكل ظرف خارج السجن وداخله، عبر صراع مباشر مع العدو في المعارك المختلفة بما فيها معركة التحقيق. فالمناضل الثوري صلب في مبادئه، صلب في معتقداته، صلب في مواقفه. وكما ذكر سابقاً فالصلابة تنبع من الشخص، ومن القضية العادلة، والحزب الثوري الواضح المواقف ثوري التوجهات. وهنا تبرز الصلابة بوصفها التحام بالقضية مهما كانت هذه القضية (شخصية، فئوية، أو عامة) وبالتالي فهي صفة متاحة للفرد ويمكن أن يتحلى بها أي مناضل فيكون بالتالي قادراً على ايقاع الهزيمة بالمحقق ودفعه وأساليبه للافلاس.

وبوجه عام فإن الصلابة والصمود في التحقيق هي الصفات العامة للمناضلين الثوريين العقائديين مهما كانت أدوارهم النضالية، ومراكزهم الحزبية ، ما دام الحزب قد أخذ بعين الاعتبار مبادئ علمية وثورية في اختيار وبناء مناصريه وأعضائه، ولا يمكن أن يكون العيب في المبادئ الثورية إذا وقع غير ذلك.

الانهيار في التحقيق

الانهيار (الاعتراف) هي حالة الهزيمة والاستسلام والتخاذل التي تعبر عن ضعف المناضل في التحقيق وانتصار المحققين عليه. هي حالة فشل التحدي ، وذل التعاون مع رجل  التحقيق مما يمكنه من الحصول على المعلومات التي يريدها ، من فم المناضل نفسه، وادانته واتخاذ كافة الاجراءات العقابية ضده. هي شيء من الخيانة (واعية أم غير واعية سيان) التي يصلها المعتقل قيد التحقيق نتيجة لتعاونه مع المحقق وادلائه بالمعلومات وافشاءه بالأسرار التي تهم المحقق وبالتالي خيانة الرفاق والحزب والثورة.

أي الانتقال من صف الثورة إلى صف أعدائها (ولو عِبر مرحلة التحقيق فقط) مما يقوي صف الأعداء ويضعف صفوف الثورة ولكن بأداة من داخلها هذه المرة.

(باستمرار يسعى العدو للتغلغل في صفوف القوى الثورية عن طريق تجنيد عملاء ودفعهم للتسلل لها، وقلما ينجح في ذلك، وباستمرار يسعى لضرب الحزب بوصفه أداة ثورية من الخارج وقلما يحقق هدفه، بل تنتصر الثورة. ولكنه في حالة التحقيق، وتحت شتى المسميات يسعى للحصول على تعاون مناضل من الحزب نفسه أو من الثورة نفسها ( من داخل القلعة) ، ويتبع شتى الأساليب، وينبغي تفشيل ذلك).

وعندما ينهار أحد المعتقلين يكون العدو قد وصل إلى بغيته ، فقد جند ولفترة التحقيق على الأقل أحد العناصر لصالحه وحصل منه على الأسرار الخطيرة. هذه هي واقعة الانهيار في التحقيق والتعاون مع العدو.

وعلى ذلك فإن الانهيار (الخيانة) هي حالة الاستعداد لتقديم المعلومات، والتبرع بالأسرار عن الثورة والحزب بحجة الخلاص من جولات التحقيق ، في ظل اعتقاد يسود آنياً عند المنهار، بأن تقديم الاعترافات هو نهاية المطاف، وهو الخلاص الحقيقي، الذي يتلوه سيجارة ، وكوب شاي وتتحول الحياة في أقبية التعذيب المظلمة الموحشة إلى رغد وسعادة لبضع دقائق وربما لساعات في ذهنية المنهار. علماً بأن الانهيار ليس موقفاً آنياً في التحقيق. إنه حالة عامة لفرد تبدأ وتستمر مع استمرار التحقيق ، بعد أن أدرك المحقق أن مزيداً من الضرب يعني مزيداً من المعلومات والانهيار. وهكذا فإن المحقق لن يكتفي بمجرد الاعلان عن الاستعداد لتقديم المعلومات ، بل إنه سيمارس كل أساليبه، ويستمر في نهجه حتى يأخذ كل ما يستطيع ، وأيضاً حتى يتأكد أن المعتقل قد أفرغ كل ما في جعبته.

وهنا تتبدل الحالة بعد ذلك مع استمرار التعذيب والضرب : فبدلاً من الضرب للنيل من صمود المعتقل فإن الضرب سيستمر ولكن هذه المرة هزءاً وإذلالاً للمناضل وتعبيراً عن النصر للعدو ، وحتى يحقق أهدافاً أخرى من استمرار الانهيار. وليصار إلى استثمار المنهار في استكمال التحقيق مع زملاءه الذين وشى بهم، ليكون أمامهم النموذج القذر، وليقوم بالشهادات الوجاهية، وربما محاولة اقناعهم بمحاسن الانهيار والخيانة!

والانهيار يحصل في الغالب مع المعتقلين الذين يتركز اهتمامهم أثناء جولات التحقيق في الخلاص الذاتي (من التحقيق) وكأن التحقيق هو نهاية المطاف، ومع أولئك الذين يتمكن المحقق مع تركيز اهتمامهم على ذواتهم ومصالحهم الشخصية وأهلهم، ونسق حياتهم السابق ، مخرجاً اياهم من سياق الثورة إلى سياق المحطمين بأنانيتهم وبالتالي ينجح المحقق في اخفاء شناعة الانهيار والتساقط وتصويره على أنه الخير العميم وطريق الخلاص.

إن تجنب الانهيار أمر ممكن وفي متناول اليد ، أية يد ، وقد دلت على ذلك مئات بل آلاف التجارب الناضجة، وتجارب المنهارين أنفسهم، وتجارب مناضلين أدلوا بمعلومات للعدو في التحقيق واحتفظوا بقسط كبير من المعلومات في صدورهم رغم قسوة التعذيب ، حيث يعني ذلك أنه كان في مقدورهم عدم الادلاء بمعلومات بالقدر الذي قدموه كما أكدوا هم أنفسهم بعد مراجعة الحساب.

وكذلك تجارب أولئك الذين قدموا في التحقيق افادات كاذبة تماماً ليس لها أية مصداقية من الواقعية والصحة، رغم أنفهم، وانتهى التحقيق معهم دون أن يعترفوا بالاتهامات التي قدمها العدو ضدهم.

ومرة أخرى فإن تجارب المنهارين أنفسهم قد أكدت قدرتهم وقدرة غيرهم على الصمود بعد مراجعة أنفسهم وبعد أن تبين لهم أن انهيارهم غير مبرر، وأن كل المبررات الذاتية المحفزة على الاعتراف في التحقيق لا قيمة لها، بل إنها من السذاجة بحيث تخجل صاحبها ، وأنه كان في مقدورهم الصمود، وأن بعضهم عاد وسحب اعترافاته ونفى افاداته بعد أن تبين لهم أن اعترافاتهم قد ألحقت أبشع الأضرار بهم وبثورتهم. كما أن تقديمهم للمعلومات يضعهم في مصاف العملاء الذين يقدمون المعلومات عن الثورة، وأنهم قد باعوا الثورة من أجل نجاتهم الشخصية التي تبين أنها وهمية.

ولنتفهم الامكانيات الواقعية المتاحة جداً لتجنب الانهيار يمكننا ملاحظة الحالة عن قرب:

فالانهيار هو اسم الحالة التي يكون فيها المناضل قيد التحقيق، في حالة انسجام وتعاون مع المحقق يأمره فيطيع ، يسأله فيجيب، يصفعه، فيجثوا على قدميه ممتهناً شخصيته ورجولته ، وعقائديته، قالباً نفسه من مناضل في حالة صراع عنيد مع العدو قبل التحقيق، من مناضل في حالة صراع عنيد مع العدو في بداية التحقيق إلى زميل، عبد ذليل، يحترم السلطة والاحتلال بحجة أنه في التحقيق ، وأنه تعرض للتعذيب (وكأن الآخرين الذين يصمدون لا يتعرضون للتعذيب مثله) وأن المحقق ضابط كبير، أو أنه لم يسبق له أن أهين في حياته ولا يريد الاهانة ( مدافعاً بذلك عن كرامة مزيفة ومنحطة أدنى درجات الانحطاط). وهو ايضاً في حالة نفسية متهاوية بحيث يعتبر تقديم سيجارة له أو كرسي يجلس عليه عطية كبرى لا بد أن يدفع ثمنها عشرات السنين يقضيها بين جدران السجون، وعدد من رفاقه يشي بهم لرجل المخابرات ليكونوا ضحايا سيجارته، وأسرار هامة يتبرع بها لأجهزة المخابرات.

ان الكثير ممن أفرغوا ما في جعبتهم من معلومات وأودعوا في السجون يعزون انهيارهم لأسباب تافهة (فالضرب القاسي هو من نصيب الجميع) كأن يقولوا بأنهم اعترفوا بسبب حرمانهم من الجلوس مدة طويلة، أو حرمانهم من التدخين، أو لأن المحقق وجه له إهانات تمس شرفه وعرضه وصوناً للعرض ، قرر إباحة نفسه وتنظيمه وكل ما يعرف. وآخرين قدموا ما لديهم بعد أن استحلفهم المحقق بالقرآن أو بدينهم أو بصلاتهم وصيامهم، وبالتالي انهار خشيته من الحرام ، وبعداً عن الكذب الذي حرمه الله فتح كنوزه المغلقة. بعضهم يعزي اعترافاته بعد أن هدده المحقق بجلب أخته ، أو أمه أو زوجته أمام الغرباء، والأتفه من كل ذلك أن بعض المعترفين قد أدلوا بما لديهم بعد أن طلب منهم المحقق أن يتعروا من ملابسهم ويكشفوا عوراتهم.

 لهذه الأسباب وغيرها ارتضى هؤلاء لأنفسهم أن يكونوا خدماً للمخابرات على الأقل طوال فترة التحقيق وربما استمروا في ذلك. وبعدها قضاء ما تيسر من السنين في ظلمة السجون وما يتبع ذلك من إجراءات أخرى.

 إن الانهيارات والاعترافات هي مأساة الحركة الوطنية الفلسطينية كلها وبكل فصائلها بدرجة من الدرجات، وهي أقوى سلاح استخدمه واستثمره العدو في مكافحة وتقزيم وتحجيم الحركة الوطنية الفلسطينية.

وكانت الانهيارات والاعترافات اللامحدودة سبباً في ازدحام المعتقلات بآلاف المناضلين، والأحكام العالية التي نالوها والاجراءات القاسية التي اتخذت بحقهم وحق أهليهم، وليس غريباً أن نجد في معتقلات العدو الصهيوني العشرات الذين اعتقلوا من فترة واحدة، بل ومنظمات كفاحية بأكملها (20،40، وحتى 60) انهارت كلها معاً نتيجة انهيار فرد واحد أو بضعة أفراد أو تسلسل الاعترافات من المعتقل الأول الذي يشي بخمسة آخرين، وبعض من الخمسة يشي بعشرة آخرين وهكذا حتى الاجهاز الكامل على منظمة بكاملها. عدا عن الخلايا  المكونة من خمسة أو عشرة والتي تندثر مرة واحدة بسبب اعتقال واحد منها وانهياره.

لقد تعرض جميع المعتقلين للتحقيق بصورة من الصور، صمد بعضهم كلياً أو جزئياً (كحقائق واقعية) وتخاذل بعضهم، هذا البعض الذي تخاذل أودى بعشرات ومئات المناضلين في السجون، هؤلاء كان ممكناً لهم أن يحتفطوا بكرامتهم الوطنية والشخصية، ويكموا أفواههم لتظل نشاطات الحركة الوطنية لغزاً أمام العدو، فيبقى في الساحة مناضلون يمارسون مهامهم، ويواصلون التجربة ، ويطوروها إلى المستوى الكفاحي اللائق بها.

هذا مع العلم أن ليس الفرد المنهار وحده هو الذي يتحمل المسؤولية ، فكما ذكرنا في البداية فإن المناضل امتداد لواقعية الصراع نفسه.

وهكذا فإن الانهيار في التحقيق، وبكلمة أكثر دقة التعاون مع المحققين والادلاء بالمعلومات التي تتعلق بالمناضل ورفاقه ، وكل ما لديه من معلومات أو بعضها ، ينشأ عن جملة من العوامل التي يمكن التغلب عليها جميعاً على النطاق الفردي والجماعي، ويمكن لأي شخص مهما كانت بنيته الجسدية وحتى لو كان جريحاً جراحاً بالغة (كما حصل مع العديد من المناضلين) أن يفلت من أثرها مهما تعرض لصنوف التعذيب الجسدي والمعنوي.

وبالرغم أنه بمقدور أي شخص مهما كان انتماءه ومهما كان وعيه أو حتى من غير انتماء سياسي (كثير جداً من اللصوص والمجرمين يجتازوا التحقيق بسلام) أن يجتاز مراحل التحقيق بنجاح، إلا أننا سنلخص هنا جملة من العوامل التي تجعل المناضل ينهار، وجملة أخرى تكفل له الوقاية.

فأسباب الانهيار عند أعضاء الحركة الوطنية تكمن فيما يلي:

1- عفوية الانتماء وضعفه : حيث أن الكثير من المناضلين لا يشعرون بمعنى عضويتهم في هذا التنظيم أو ذاك، ولم يصلوا إلى درجة الانتماء السياسي ولا حتى الانتماء الوطني الحقيقي الواعي.

ان الانتماء هو الانحياز التام للثورة ، للطبقة والوطن ، فكرياً وعملياً وربط المصير الشخصي كلية بمصير الحزب المعبر عن هذا الانتماء وهو درجة متطورة من الوعي السياسي والفكري المرتبط بالكفاح اليومي من خلال الأدوات النضالية المعبرة ، وبالتالي فإن الانتماء من أفضل الأسس المحفزة للصلابة والصمود، وهو يتضمن أعظم درجات الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء ويجعل المناضل عميق الارتباط بالحزب والثورة من أجل القضايا التي يناضل من أجلها مما يجعل محاولات رجال التحقيق لفك هذا الارتباط صعبة ومستحيلة.

وترتبط عفوية الانتماء وضعفه لدى العديد من المكافحين الوطنيين بنقطة أخرى هي:

2- ان الاطار التنظيمي (العديد من الأطر الفلسطينية) في كثير من الأحيان لا يضبط عملية انتماء الأعضاء، واختيارهم، ويبذل قليلاً جداً من الجهد لاعدادهم سياسياً وتنظيمياً وفكرياً لخوض معركة النضال. ان العضو المنتمي لعديد من الأطر الوطنية لا يختلف عن أي شخص عادي ليس له أي انتماء. وفي أحيان أخرى نجد أن بعض المواطنين العفويين في انتمائهم الوطني أشد التصاقاً بالقضية، وتعمقاً فيها من بعض آخر من المنتسبين أو المحسوبين على بعض المنظمات. 

وفي هذه الحالة فإن عملية الصراع العقائدي في أقبية التحقيق تكون من طرف واحد قوي ومتبلور هو رجل التحقيق مقابل الطرف الآخر الضعيف الارتباط والانتماء.

3- ان عدم الاعداد الكافي وأيضاً عدم تثقيف الأعضاء بحقائق الوضع السياسي والنضالي، والفكري عموماً وعدم تثقيفهم بواقع التحقيق يجعل الصراع يجري من جانب المناضل ضمن محدوديته الفكرية وأنماط سلوكه، ونوازعه، وتكوينه الفردي والنفسي، الذي أفرزه المجتمع المتخلف الذي قبع سنوات بل قرون عديدة تحت ظلم الطغاة المتخلفين (الأتراك، بريطانيا) وعاش طويلاً في انعدام التحدد القومي والوطني والانسحاق الطبقي. أن سمات المجتمع المتخلف التي تشكل خلفية المكافح العفوي ، في ظل مرحلة متفجرة ثورياً قد تنعكس على مجابهة المحقق الذي وعى هذه الظروف وتعامل معها بأفق حضاري أرقى ، ومواقف فاشستية عنصرية.

إن ضعف الاعداد وتدخل السمات الشخصية بصورتها المتخلفة الموروثة ، تجعل المناضل يقف أمام المحقق موقفاً دفاعياً، ليس هذا فحسب بل تجعل دفاعه ينحصر في أحواله الذاتية الآنية بالتحديد حيث ينصرف للتفكير بالخلاص من ورطة الاعتقال ، بل وفقط من ورطة التحقيق ، التي لا تنتهي ، ولا تنتهي أساليب العنف والتطبيقات المستخدمة فيها إلا وفقاً لقرار المحقق في النهاية ، بغض النظر ان هذا القرار مستندً إلى موقف المناضل في التحقيق، أو شخصية المحقق نفسه، وعليه يصبح توجه المناضل لكسب رضى المحقق الذي لا يمكن أن يتم، دون تقديم المعلومات له.
_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.