التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة كورونا (الجزء الثالث)، عادل سمارة

التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة كورونا

(الجزء الثالث)

عادل سمارة

 

رابط الجزء الأول:

 

https://kanaanonline.org/2020/04/14/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%85%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d9%83%d9%88/

رابط الجزء الثاني:

 

https://kanaanonline.org/2020/04/15/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%85%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d9%83%d9%88-2/

 

التنمية بالحماية الشعبية كحالة دراسة

 

مقدمة:

عانى نموذج التنمية بالحماية الشعبية الذي ابدعته الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، عانى من تقصير كل من راس المال المحلي وقيادة م.ت.ف على حد سواء حيث لم تقوما بمتابعة نهج مقاطعة منتجات الإحتلال وبالتالي الإستثمار على نطاق يغطي الممكن ومن ثم المتطلبات الإجتماعية الناجمة عن قيام الطبقات الشعبية بمقاطعة منتجات الإحتلال. فالخطوة الواسعة الأولى في المقاطعة التي بدأتها الطبقات الشعبية منذ الأيام الأولى للإنتفاضة الأولى أثبتت أن القيادة السياسية والقمة المالية ليستا في وارد المقاطعة وبالتالي التنمية. لا بل إنهما، كما سنبين لاحقاً ولعدة مرات، لعبتا دوراً مركزياً في إنهاء المقاطعة عبر محادثات مدريد-أوسلو ولاحقاً بعد مجيء السلطة إلى الأراضي المحتلة. وهذا أكد التناقض الإجتماعي بين مصالح الطبقات الشعبية وراس المال وخاصة الكمبرادوري، مما يطرح على مشروع التنمية بالحماية الشعبية تحدي الإعتماد على الذات، ومواجهة خصم داخلي في نفس الوقت له اقتصاده الخاص. وهذا يؤكد أن مشروع التنمية بالحماية الشعبية لا بد أن يعمل بانفصال عن إقتصاد الكمبرادور/وسلطة راس المال من جهة، وأن يعمل على إخضاعه لاحقاً من جهة ثانية. وهذا يتطلب شرحاً موجزاً للفوارق بين الإقتصادين.

إشترط خضوع المناطق المحتلة 1967 لإحتلال استعماري استيطاني على مشروع التنمية بالحماية الشعبية أن يمر عبر حقبتين في علاقته باقتصاد الإحتلال:

تمثلت الحقبة الأولى في مبادرة الطبقات الشعبية بمقاطعة أماكن العمل في قطاعات الإقتصاد الصهيوني داخل الخط الأخضر، ومقاطعة منتجات ذلك الإقتصاد، والمبادرة باستثمارات إنتاجية صغيرة خاصة بهم كاللجوء لتربية بعض الماشية والعودة لاستغلال حديقة المنزل وزراعة محاصيل للمتطلبات الأسرية، وإقامة تعاونيات إنتاج المتطلبات المنزلية…الخ كانت هذه المقاطعة بقرار شعبي عفوي، سواء من عملوا داخل الخط الأخضر أو من المواطنين عامة.

في الحقبة الأولى من الإنتفاضة الأولى تضمنت التنمية بالحماية الشعبية التشغيل الذاتي، وإدارة ذاتية للمشاريع الصغيرة، ومقاطعة المنتج الأجنبي، والاستهلاك الواعي. وهذا بالمناسبة مختلف عن الإنتفاضة الثانية حيث المقاطعة غير مطروحة! هذا ما حصل عملياً.

لكن ما حصل عملياً في الحالة الفلسطينية لم يُستكمل. فالتطور الطبيعي لمشروع التنمية بالحماية الشعبية هو أن يستمر الهجوم الطبقي لمشروع التنمية بالحماية الشعبية إلى أن تضطر السلطة لتأميم المصانع، وأن تحل الإدارة البيروقراطية لتحل محلها الإدارة العمالية  وهذا لم يكن ممكناُ في الحالة الفلسطينية تحت الإحتلال.

فلا يمكن لمشروع التنمية بالحماية أن يظل محصوراً في المشاريع الشخصية والأسرية، لا بد أن يتوسع على حساب القطاع الخاص ولا سيما المرتبط بالأجنبي والممثل له. كما لا بد أن يغير من طبيعة القطاع العام الخاضع للحكومة بحيث يصبح قطاعاً عاماً حقيقياً. لا بد للحماية الشعبية من التخطيط لإلحاق هذه القطاعات بها، وهذه مسألة في نطاق الصراع الطبقي حيث لن تتم ببساطة، ولكنها تتم من خلال دمج الأكثرية الشعبية في نموذج الحماية مما يرغم الخاص على تكييف نفسه معها وتلبية متطلباتها ثم الخضوع لشروطها سواء من حيث إنتاج الأساسيات او الفكاك مع الأجنبي، أو التحول أكثر للقطاع الإنتاجي. وفي هذا المستوى يمكن لقطاع الحماية الشعبية اعتماد التوعية والتثقيف بمخاطر الأجنبي وبمقاطعة المحلي المتخارج.

قطاع التنمية بالحماية الشعبية هو بمبادرة وقيادة وتمويل وتشغيل العمال والفلاحين أنفسهم. يُدار بشكل جماعي وذاتي في كل مكان عمل وبمجالس عمالية على المستويين القطاعي والوطني. وتكون الإدارة كالعمل المباشر نفسه تتم على يد وبمشاركة كل عامل والتي تصبح سهلة وممكنة نظراً لانتشار التعليم وتوفر أجهزة الكمبيوتر، اي لم يعد العلم حكراً على زمرة من المثقفين.

 

ورغم وجود الإحتلال، كان المفترض أن تُتبع المرحلة أو الخطوة الأولى لمشروع التنمية بالحماية الشعبية خلال الفترة الأولى من الإنتفاضة الأولى بخطوة مكملة من قبل راس المال المحلي وقيادة منظمة التحرير التي كانت في تونس آنذاك، اي قيام راس المال المحلي بمبادرة لإنشاء مشاريع على نطاق أوسع من الإستثمارات الصغيرة كبداية لاستقلال اقتصادي وطني  وفك الإرتباط مع اقتصاد الإحتلال. فقيادة م.ت.ف والراسمالية المحلية كانتا مثابة الدولة التي عليها الاضطلاع بنقل المشروع إلى المرحلة الثانية، لا سيما حينما تهيأت فرصة مناسبة حيث هجر المواطن طوعاً نزوعه لاستهلاك منتجات الإحتلال، بعد أن كان قد أدمن ذلك. وهجر عادة الاستهلاك أمر يحتاج لجهد طويل لو كان بقرار حكومي أو تنظيمي. وعليه، كانت هذه الخطوة من المواطين مثابة تقديم السوق المحلية إلى راس المال المحلي على طبق من ذهب. كما كان على قيادة م.ت.ف أن تقوم بتقديم قروض ميسرة للفلاحين والقطاع التصنيعي للمباشرة بإقامة مشاريع زراعية وصناعية لإنتاج الأساسيات. ولو حصل هذا، لما كان اصلاً خارجاً عن نطاق الملكية الخاصة لهؤلاء، لكنه كان سيعمق الفكاك مع إقتصاد الإحتلال ليس أكثر.  وبتقصير راس المال الخاص داخلياً والقيادة السياسية في الخارج، كان هدم الإنتفاضة قد بدأ مع ولادتها. فلم يكن ممكناً تكامل اقتصاديْ الحماية الشعبية وراس المال التابع!

 

الفارق بين اقتصادي التنمية بالحماية الشعبية والإقتصاد الراسمالي المستعمَر

 

برز اقتصاد التنمية بالحماية الشعبية مع الإنتفاضة الأولى، حيث مارس وخلق حالة من مقاطعة منتجات وأماكن عمل الإحتلال، وحتى بعض من منتجات الأنظمة الرأسمالية الغربية الداعمة للإحتلال، بينما كان الإقتصاد الرأسمالي وظل يمارس التطبيع مع اقتصادات الاحتلال واقتصادات الدول الداعمة له باعتبار هذا الإقتصاد جزءاً مندمجاً في النظام العالمي ومنسجماً مع سياسة الباب المفتوح، وإقامة شركات التعاقد من الباطن وأخذ والتنافس على إمتياز توزيع منتجات الإحتلال والدول الأخرى. وهي السياسة التي استمرت بالطبع بعد التسوية “أوسلو” وخلال الانتفاضة الثانية.

وعليه، كان الإختلاف واضحاً بين توجه كل طبقة اقتصادياً، مما يعزز اعتقادنا بأن الإقتصاد الوطني هو حالة مفترضة، تتحقق بشكل نسبي وفي حالات محدودة تاريخياً، هي حالات المقاومة الشاملة والمقاطعة الشاملة. أما تحققها الفعلي فليس إلا في حالة الإشتراكية. وبغير هذا، فالقائم فعلاً في المجتمعات هو الإقتصاد القائم على الطبقات، إقتصاد الطبقة[1]. فالعلاقة بين الكمبرادور الذي يستورد المنتجات الآجنبية وبين الطبقات الشعبية لا تعني إقتصاداً موحدا بالمعنى الإنتاجي الموحد وبمعنى أخذ كل مواطن قدر ما فعل وأنتج، بل تعني علاقة سوق بين الطرفين قائمة على الإستغلال المعمق والموسع. نتحدث إذن عن علاقة اقتصادية بين الطبقات وليس عن إقتصاد مشترك، او عمل اجتماعي مشترك. صحيح أنه في الإقتصاد الإنتاجي تكون الطبقات الإجتماعية أقرب مما هي في إقتصاد التبعية وهيمنة الكمبرادور، ولكن حتى في الإقتصاد الإنتاجي والمتطور والقادر على المنافسة على صعيد عالمي، يبقى هذا الإقتصاد إقتصادات لطبقات. وعليه، فإن اقتصاد التنمية بالحماية الشعبية، يعمل بالتوازي مع اقتصاد رأس المال، ويتعامل معه بحذر ويقترب منه كلما اقترب الإقتصاد الراسمالي من نموذج الحماية الشعبية، وليس العكس. وهذا يعني أن يمارس اقتصاد الحماية الشعبية ضغطاً أكثر على السلطة الحاكمة بحيث تقترب من نموذج الحماية، لا أن تبتعد عنه باتجاه الاستيراد من الأجنبي والانفتاح الإقتصادي، والخصخصة…الخ. لكن نموذج الحماية الشعبية الجنيني في الإنتفاضة الأولى، وبعد أن قاطع منتجات وأماكن عمل العدو لم يكن من القوة بمكان بحيث يرغم إقتصاد راس المال المحلي على الإلتحاق به، ومن هنا توقف النموذج العملي، والذي نحاول استكماله نظرياً[2].

 

مكونات وخطوات التنمية بالحماية الشعبية

 

إشتعلت الإنتفاضة الفلسطينية الأولى يوم 9 كانون الثاني عام 1987، حينما داست سيارة عسكرية إسرائيلية ستة مواطنين فلسطينيين من مخيم جباليا لللاجئين بقطاع غزة، وهذا ما أدى إلى اندلاع التظاهرات مباشرة في المخيم وسرعان ما انتشرت إلى مختلف أطراف المناطق المحتلة ودفع المواطنون بغضبهم ليشمل مقاطعة منتجات الإحتلال ومواقع العمل  الإسرائيلية. وبهذا تكون الإنتفاضة قد دفعت الطبقات الشعبية الفلسطينية لتذهب باتجاه فك الإرتباط بالإقتصاد الإسرائيلي وذلك في أعقاب فترة طويلة من الإلحاق القسري باقتصاد الإحتلال.

حصل ذلك على شكل إنسحاب إلى الداخل في مستوى الإستهلاك كبداية لتوسع ذلك إلى مختلف الأنشطة والمجالات. وبالطبع لم يكن هذا على اساس مخطط سلفاً من قبل الجماهير. لقد كان رد فعل شعبياً عفوياً وإيجابياً على تشديد القمع من قبل الإحتلال. وانتشر إجماع شعبي على مقاومة الإحتلال حتى دون تحديد خطة معينة للمنحى الذي سيأخذه  هذا الحراك الجماعي.

أُتبعت هذه الخطوة بقرار العمال داخل الخط الأخضر بانسحاب جماعي إلى الداخل من مواقع العمل في الكيان الصهيوني، وكذلك لم يكن هؤلاء مقودين بقرار قيادي من أحد. وهكذا قادت الطبقات الشعبية وخاصة العمال انفسهم بأنفسهم. ولا شك أن هذه الإنسحابات إلى الداخل هي اشكال جديدة من المقاومة ومن حرب الشعب. كانت مقاطعة منتجات الإحتلال بداية عملية هي اسهل للبدء بها مقارنة مع البداية بإعادة تشكيل قطاعات إنتاج الإقتصاد المحلي.

كانت الطبقات الشعبية هي التي وجهت الإستهلاك صوب المنتجات المحلية، وهذا كان بدوره حافزاً لمستحدث المحلي كي يستثمر في بدائل للمنتجات التي قوطعت، أو وقف تدفقها إلى اسواق المناطق المحتلة. فكل مقاطعة لسلعة ما هو مثابة حافز استثماري لبديل لها، حافز تنموي.  والاستثمار بدوره بداية لإعادة تشكيل البنية الإنتاجية لقطاعات الإنتاج المحلي.

وكان الإنسحاب إلى الداخل إستهلاكياً مثابة بداية التغيير في نمط الإستهلاك. وهنا لعبت النساء، بما انهن مديرات خزينة الأسرة، دوراُ بارزاً في تعويد الأولاد على نمط استهلاك جديد موجه للإنتاج المحلي على حساب الإنتاج الصهيوني. لقد طوعت وكرست النساء البنية البطريركية بشكل تقدمي وذلك باستغلالهن لدورهن في المنزل ليوجهن ويُعدن توجيه قرار الإستهلاك.

والسؤال المترتب هنا: هل حقاً مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وأماكن العمل هناك هي خطوة أو درجة في حرب الشعب كما اشرنا اعلاه؟

هذا تطور ومساهمة جديدان. فحرب الشعب بما هي جزء من النظرية الشيوعية بشكل عام، مفتوحة لمختلف المساهمات الفكرية والتطبيقية. فقرار الطبقات الشعبية بالمقاطعة هو مساهمة شعبية في نظرية حرب الشعب.

 

  1. الإنسحاب إلى الداخل استهلاكياً

مع بدء الإنتفاضة باشرت الطبقات الشعبية تقليص استهلاكها من منتجات الإحتلال مما مهد الطريق لفك اندماجها وتبعيتها لإقتصاد الكيان الصهيوني الإشكنازي. إن هذا، وإن كان قراراً اقتصادياً، إنما هو نضال سياسي من الطراز الأول. كما أنه قرار تنموي دون مواربة لأنه يقاطع منتجات الآخرين، وهذه المقاطعة هي بحد ذاتها قرار استثماري لأن المقاطعة تتطلب تعبئة فراغ السوق من منتجات ما، اي وجوب خلق بديل. هذا هو قانون استدعاء أمر لآخر. وهذا القرار الشعبي، طالما هو شعبي، ليس شرطاً أن يكون بوسع البرجوازية استغلاله لشراء منتج آخر بديل له لتلبية ما سُمي  حرية المستهلك في الإختيار. فما تسمى حرية المستهلك في الإختيار هي في الحقيقة حرية عمياء محفوزة بشره عالٍ للإستهلاك (أنظر لاحقاً). أما هذا الإنسحاب فتم كما يلي:

 

  • على الصعيد المحلي:

بدأت الطبقات الشعبية بتقليص استهلاكها بشكل عام مدفوعة بعدم معرفة المرء بما ستؤول إليه الأحوال في الأيام والأسابيع الأولى للإنتفاضة. وبالتوازي مع تخفيض درجة الإستهلاك، اخذت الطبقات الشعبية في تشكيل تعاونها الذاتي بمساعدة بعضها البعض اقتصادياً مما شكل أرضية لتعاونياتها. وفي تلك الفترة تحديداً، بدأت تظهر على الكثير من المنتجات المحلية عبارة “منتجاتنا الوطنية”…الخ وقد توسع هذا الإنسحاب وتطور ليصبح نشاطاً سياسياً/وطنياً تمظهر في مقاطعة المنتجات الصهيونية، اي اتخذ حالة موسعة هي انسحاب المستهلك إلى الداخل.

 

ب. على الأساس الطبقي

بدأ العمال الفلسطينيون في أماكن العمل في الإقتصاد الصهيوني انسحابهم إلى الداخل فور بدء الإنتفاضة حيث توقفوا عن العمل في تلك المواقع. في السنة الأولى للإنتفاضة توقف 70 بالمئة من ال 155,000 عامل عن العمل في مواقع اقتصاد الإحتلال. كانت هذه مثابة قرار قاعدي بفك الإرتباط ، وهو قرار يناقض “تصائح” كثير من الإقتصاديين الفلسطينيين الذين طالما وعظوا بأن فك الإرتباط سوف يُضر إضراراً كبيراً بالإقتصاد المحلي، مؤكدين على لذة الإستنامة في حضن التبعية. ليثبت هؤلاء المثقفين أنهم دوماً ضد المبادرات الشعبية ولا سيما تلك التي تبادر بها الطبقات الشعبية، بما هي نقيضتهم. ولا شك أنه لو قامت الطبقات الشعبية بحساب لقرارها المقاطعة على المدى القصير، وبالحسابات الراسمالية للكلفة والفائدة لكانت قد اختارت الإستمرار في الخضوع. وفي حقيقة الأمر، كان على هؤلاء المثقفين أن يعملوا على تشجيع إقامة مشاريع لتشغيل العمال الذين غادروا العمل في مواقع اقتصاد الإحتلال، بدل الوعظ باستمرار التبعية.

أدت مقاطعة العمال هذه إلى وضع الكيان الصهيوني في إشكالية البحث عن عمالة بديلة. وهو الأمر الذي طالما تحدثت أدبيات الكيان عن ضرورة توفيره لمنع تدفق العمالة الفلسطينية إلى مواقعه الإقتصادية[3]. لكن دُعاة التبعية كانوا ، ولا زالوا، يفضلون الإنتظار إلى أن يطرد الإحتلال عمالنا، وهو ما حصل حقاً، في وقت لاحق، اي بعد مجيء السلطة الفلسطينية بموجب اوسلو، وقيام الإحتلال ببناء جدار التوسع الاستيطاني. وعليه، تزايد عدد العمالة الفلبينية والرومانية  والتايلندية…الخ ليصل إلى قرابة ربع مليون شخص. وهو عدد مساوٍ لعدد العاطلين عن العمل من الإسرائيليين أنفسهم. فطالما اشغل الإحتلال نفسه في حرب استنزاف ضد الفلسطينيين اقتصاداً وشعباً. فقد اثبتت الإنتفاضة الثانية أن الإحتلال طالما طبق سياسة المركز تجاه المحيط، وذلك بمنع حركة العمال إلى المركز بينما هو يقذف بمنتجاته وخدماته لتباع في المحيط. وابعد من ذلك، فلم يبق الإحتلال مجالات عمل لفلسطينيين في اقتصاده سوى تلك التي يرفضها العمال اليهود، أو لا يتقنها ولا يمكن أن يشغلها العمال الأجانب الذين لا يملكون ورشاً خاصة بهم، ومن بينها ورش الألمنيوم، والأثاث والحدادة والنجارة والزراعة والبناء. إن اسعار هذه السلع التقليدية مرتفعة في السوق الدولية ويمكن إنتاجها في المناطق المحتلة بكلفة وأجرة ضئيلتين.

إن الإنسحاب إلى الداخل وطنياً وطبقياً، هي من المكونات الأساسية لمشروع التنمية بالحماية الشعبية وهو المكون الذي يقود إلى الدرجة الأعلى منه وهو إعادة تشكيل او تركيب الإقتصاد المحلي، أي البدء بالاستثمار الإنتاجي. في هذا المناخ، كان واضحاً أن الطبقات الشعبية ممعنة في إتجاه حالة من الديمقراطية الإقتصادية الشعبية حيث تقر بنفسها مجالات أنماط الإستهلاك، ومجالات الإستثمار، والإنتاج والتسويق. أنها حالة المقاومة الإجتماعية/الإقتصادية إلى جانب أشكال المقاومة الأخرى.

تهمنا الإشارة إلى أن المبادرة إلى هذا النموذج حصلت في غياب سلطة طبقية محلية، دون دولة، ودون اي جهاز سلطوي وقبيل أن تمتطي الأمر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي طالما إدعت أنها هي التي فجرت الإنتفاضة! وبالطبع، كان غياب السلطة غياباً نسبياً، بمعنى أن سلطة العدو كانت موجودة، ولكن الانتفاضة، بما هي شعبية، شاغلت الإحتلال إلى درجة معقولة عن التنبه للمشروع التنموي، وهو الأمر او الوضع الذي بوسعنا تسميته “المناخ الديمقراطي النسبي” الذي ترتب على إنشغال العدو وليس على تسامحه. فتدفق الجماهير إلى الشوارع أشغل الإحتلال عن المعركة التنموية حيث لم يكن بوسع الإحتلال متابعة الإنشطة التنموية، والتظاهرات السياسية اليومية في عموم أراضي الإحتلال الثاني 1967.

لم تتمكن المؤسسات البلدية في الأرض المحتلة أن تلعب دور سلطة أو قيادة للإنتفاضة، ونظراً لكون فصائل م.ت.ف قد فوجئت بالإنتفاضة، فقد ملأت الجماهير الفراغ القيادي هذه المرة بتشكيل اللجان الشعبية في مختلف المناطق السكنية، حيث مارست هذه اللجان احتضان وتطوير المبادرات الشعبية على مستويات المقاطعة وتطوير الإقتصاد المحلي. وفي هذا المناخ شعرت الطبقات الشعبية أنها حرة في  الإستثمار في إستراتيجياتها للبقاء بعيداً عن التدخل المباشر من الإحتلال وبعيداً عن آلية سلطة بيروقراطية محلية مساومة للعدو. وهو السلوك الذي قامت به لاحقاً، 1993، قيادة م.ت.ف وبه أنهت المقاطعة والانتفاضة معاً. كان النشاط التنموي هذا مثابة إجماع شعبي بدون هيمنة سلطة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمجتمع مدني فعلي، المجتمع المدني للطبقات الشعبية التي تقود نفسها بنفسها في الإنتاج والموقف السياسي. انها الديمقراطية الحقة، حيث الدولة البيروقراطية غير موجودة، وحيث السلطة بيد الذين يقاومون. هذه هي التنمية بالحماية الشعبية التي نبتت في غياب قبضتين معاً: قبضة العدو المحتل، وقبضة السلطة الطبقية المحلية. وحيث كانت الطبقات الشعبية قبل الإنتفاضة محرومة من كسب استقلالها السياسي، قررت إقامة مجتمعها المدني بطريقتها، وبقيادتها للمستوى الإقتصادي التنموي والمستوى السياسي الاجتماعي النضالي اليومي، بعيداً عن القيادة البرجوازية البيروقراطية.

هو نموذج مجتمع مدني خُلق اثناء النضال الطبقي/الوطني ولم يُمنح أو يُصمم على يد المجتمع السياسي، خُلق عبر دور الطبقات الشعبية في ممارسة قرارها السياسي والاقتصادي. لكنها، بالطبع، لم تكن تعلم أن القيادة السياسية في تونس، كانت منذ الأيام الأولى للإنتفاضة تخطط لتحصيل مكاسب سياسية بحتة ومحصورة من وراء كل هذا النضال. كما أن الطبقة الراسمالية المحلية، في معظمها، وخاصة شريحة الكمبرادور وشريحة التعاقد من الباطن، امتنعت عن الإضطلاع بدور البرجوازية الوطنية ذات التوجه الإنتاجي (كما بينّنا سابقاً وكما سنرى لاحقاً).

كان نضال الإنتفاضة نضالاً وطنياً وقومياً في آن. وهو بعكس التعريف الدارج للمجتمع المدني حيث يشكل مواطنون جمعيات طوعية  ومجموعات وحركات بشكل حر، لا لغرض الربح، ولكن للفائدة العامة وتتوسط بين المواطنين  من جهة والدولة (المجتمع السياسي) من جهة ثانية لتحافظ على مصالح الشعب التي لا يتم صونها عبر ديناميات الصراع الطبقي. في حالة كهذه، تكون هناك حاجة للدولة كمظلة لتغطي بمسألة المجتمع المدني مشروعها في الهيمنة كبديل لمشروعها في السيطرة الإجتماعية التي هي جوهرياً سيطرة طبقية على المجتمع المدني نفسه الذي يعتقد بأنه لم يُدنّس بالهيمنة.

في الحالة الفلسطينية هذه، وفرت إنتفاضة الطبقات الشعبية البيئة المناسبة لهذه الطبقات لخلق المجتمع المدني الشعبي بعيداً عن أجهزة الدولة وهيمنتها. وهو الأمر الذي لم يسمح به لا الإحتلال ولا برجوازية م.ت.ف. وقد يكون هذا ما دفع كلاً من الإحتلال من جهة، وقيادة م.ت. ف من جهة ثانية، وإن كان كل على حدة، للإسراع بعقد محادثات مدريد ولاحقاًً اتفاق أوسلو لتطويق هذا الحراك الشعبي الجذري. كما كانت الأنظمة العربية الحاكمة قلقة بدورها من ظاهرة الانتفاضة وانتشارها إلى الشعب العربي.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

 

[1]  أنظر مقالة عادل سمارة، الإقتصاد الآخر للإنتفاضة: إقتصاد الطبقة، في كتاب الإنتفاضة مبادرة شعبية، دون دار نشر، 1990.

[2]  ما أبدعته التجربة الشعبية للإنتفاضة يمكن تطبيقه على المنطقة العربية، مع أخذ فارق الاستقلال الشكلي عن الإحتلال الإستيطاني الأجنبي. ومما يقرَّب الحالتين أخذ طبيعة أنظمة الحكم في الوطن العربي بالاعتبار، بما هي حالات من الإحتلال الداخلي الذي يقبض على السلطة بالقوة والقمع، ويستمد وجوده من التجزئة السياسية وتفكيك السوق العربية  ومنع الإندماج والتكامل الإقتصادي. وإذا لم تكن هذه صفات احتلال فما هو الإحتلال!

وعليه، فإن تبني الطبقات الشعبية في الوطن العربي لفك الإرتباط الشعبي مع إقتصادات الأجنبي، ولا سيما المعادي هو مشروع تنمية بالحماية الشعبية، ولا يغير من طبيعة هذا التوجه اختلاف درجة الإحتلال التي تصل في فلسطين 1967 إلى الاستيطان.

 

[3]  وفيما يخص السياسة الإسرائيلية للتخلص من العمال الفلسطينيين، أنظر عادل سمارة، من إحتجاز التطور إلى الحماية الشعبية، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق 1990. علينا التذكربأن إسرائيل هي كيان استعماري إستيطاني بنت طبقتها العاملة على أرضية عنصرية “العمل العبري”، وحينما اضطرت إستثناءً لتشغيل عمالة عربية، كان ذلك لحاجتها إلى عمالة من جهة وقابلة بأجور ضئيلة من جهة ثانية.