“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف: محمود فنون، الحلقة 20

  1. فلان قال كل شيء 

    لماذا تقوم السلطات باعتقال مزيد من الناس؟ غالبا ما يكون الاعتقال بسبب واحد من العوامل التالية: 

أن يُضبط في عمل جماهيري معين مثل مظاهرة، اعتصام أو إضراب 

أن يُضبط وهو يوزع منشورات 

أن يُضبط وهو بصدد القيام بعمل نضالي ما فيقبض عليه الجيش. 

نتيجة لشبهة لسبب وجوده في مكان ما 

لسبب وشاية من العملاء والمتعاونين مع رجال السلطة 

لسبب اعتراف أو وشاية أحد رفاقه الذي اعتُقل وأدلى بمعلومات عن نشاط المناضلين الذين معه. 

لسبب بوحه هو لأسراره أمام الآخرين فتصل بطريقة أو بأخرى لأجهزة الأمن 

لسبب مداهمة بيت معين وهو موجود فيه أثناء ذلك 

رسالة أو مستمسك كتابي يسقط بيد المخابرات على الجسر أو مع شخص ما واسمه الصريح مكتوب فيه. 

يُعتقل الفلسطيني لأنه قريب فلان أو صديق علان من المناضلين 

بالإجمال، هناك عدة أسباب إذا توفر أحدها فإنه يكفي لأن يُقبض على المواطن الفلسطيني ويُزج به في السجن ويُقاد إلى التحقيق. وبمعنى آخر، فإن الاعتقال بالصدفة ودون ترتيب مسبق من المخابرات لاعتقال الشخص ممكن الحدوث، غير أن اقتياده إلى أقبية التحقيق والتركيز في التحقيق معه بشكل منظم لا يأتي نتيجة اعتقال بالصدفة ودون سابق معلومات. 

إن الذين تعتقلهم السلطات نتيجة لمشاركتهم في مظاهرات واعتصامات ونشاطات جماهيرية لا يتعرضون للتحقيق الذي يجري مع من قُدمت ضدهم وشايات أو أدلى زملاؤهم عنهم بمعلومات. والذين يعتقلون لسبب مشاركتهم في النضالات الجماهيرية العامة، إنما يطلب منهم الاعتراف باشتراكهم في هذه النضالات فقط، وعلى أكثر حد تُطلب منهم معلومات عن هذا النشاط ومن نظّمه ومن دفع هذا الشخص أو ذاك للاشتراك فيه، وهذه غايات قد لا يدركها المحققون أبدا، وقد لا يزيد كسبهم عن اعتراف بوجودهم في مكان الحدث، وحتى هذا يمكن إنكاره رغم أنه قُبض على الشخص مع التجمع الذي كان يقوم بالنشاط. 

إن التحقيق حول أنشطة كهذه محدود الهدف رغم أن المواطن قد يتعرض لقسوة الضرب والتعذيب من قبل الجيش وحرس الحدود كنوع من الإرهاب والانتقام. أما النوع الثاني، وهم الذين يُقبض عليهم وتتوفر لدى السلطات معلومات أو شكوك أو تقديرات عن انتماءاتهم ونشاطاتهم. أما أولئك الذين يُقبض عليهم في مكان تم فيه حدث نضالي مثل إلقاء قنبلة أو اشتباك مسلح أو شيء مشابه، فإنهم يتعرضون لتحقيق منظم وهادف وغاياته غير محدودة ونتائجة مرتبطة تماما بموقف المناضل ومدى صموده أو مدى انهياره. 

وفي غالب الحالات التي تمت فيها اعتقالات من هذا النوع فإن الوشاية والاعتراف من قبل الغير تشكل أكثر الأسباب شيوعا في تاريخ الاعتقال الفلسطيني من قبل أجهزة المخابرات مباشرة.  

وبمعنى آخر، من المحتمل جدا بالنسبة لأي معتقل يساق إلى أقبية التعذيب الخاصة بالمخابرات، أن يكون قد اعتقل بسبب اعتراف أشخاص آخرين معتقلين عنه وعن نشاطه أو انتمائه واحتمال نشاطه. فهل هذا النوع من المعتقلين مطالبٌ بالصمود؟! 

إن الذي يعتقل ويد المخابرات فارغة بالنسبة له يمثل هو بنفسه السور أو الجدار الذي يحيط به ولا يمكن خرقه إلا من الداخل. فالمخابرات لا تملك أية معلومات أو مستمسكات وتعتمد على ظنون أو افتراضات، أو أنها تريد أن تتحقق من علاقة المواطن من نضال معين وقع في مكان تواجد هو فيه. وقد يكون مواطن كهذا منتميا للثورة وقد لا يكون، وإن كان منتميا لإحدى الجهات فقد تتهمه المخابرات بالانتماء لجهة أخرى. وهكذا يكون صمود المناضل حرزه الوحيد والأمين على انتمائه ونضالاته وحزبه وشخصه. ومن حسن الحظ أن هذا النوع من المعتقلين لا يملك أي تبرير للبوح بأسراره ورجال السلطة لا يجدون مدخلا يواجهونه به سوى الادعاء بمعرفة كل شيء وأن الطبخة مكشوفة، بالإضافة إلى حزمٍ من العصي يوقعونها على جلده. 

إن موقف هذا النوع من المعتقلين سهل للغاية قياسا بأولئك الذين في حوزة المحققين عنهم وشايات واعترافات ومستمسكات. ويزداد الأمر صعوبة عندما يعتقل مناضل وطني بسبب اعتراف زميل له عليه. 

قلنا في مكان سابق في هذا الكراس أن المناضل يواجه المحققين في قبو التعذيب كفرد وكحالة فردية، وهو نفسه موضوع التحقيق أمام الجلادين، وهو نفسه مركز الصمود أو الانهيار، وإن كل العصي التي وقعت على جلود الآخرين والتي يمكنه أن يتصورها لم تسبب له أنّة ألم واحدة، وأن جوعهم وعطشهم لم يجففا جلده. إن فرديته المتميزة عن غيره والمستقلة استقلالا تاما كوحدة بشرية في ارتباطاتها السياسية والحزبية والعقائدية هي التي تواجه التحقيق. وما كل المعلومات والشهادات التي تملكها أجهزة التحقيق ضده إلا وسائل تستعملها حين تشاء لمحاصرته ومهاجمته لدفعه للاعتراف والسقوط وهي بالتالي تزيد من حراجة الموقف. إن وجود أدلة ما ضد المناضل لا يمكن أن تحرك لسانه ميكانيكيا لينطق بما هو مخفي. إن لسان المناضل هو الذي يتحرك أو يصمت وهو يفعل ذلك إراديا، وبالتالي لا معنى للقول إن فلانا اعترف لأن آخراً اعترف عليه. فسيّان كانت المعلومات من زميل أو عميل فـ (الخلاص) يكمن في الصمود وليس في الانهيار أمام صفعات المحققين، ما كان منها بالعصا أو باللكمات أو بالمستمسكات. 

عندما يكون أحد الزملاء قد اعترف بما عنده من أسرار، فإنه إنما يكون قد قدم خدمة للعدو، وهذا لا يمكن أن يشكل مبررا للمعتقلين الآخرين ليقدموا هذه الخدمة مهما كانت الظروف المحيطة بمناخ التحقيق. 

والآن لننظر للمسألة من داخلها: عندما يقدم معتقل (أ) معلومات واعترافات تؤدي لاعتقال (ب) فإن هذه المعلومات والاعترافات المشينة إنما شكّلت عاملا مهما أدى إلى إضعاف حلقات في عمل المنظمات ومن بينها اعتقال مناضلين ما كانت السلطات تعرف عنهم شيئا لو لم يقدم عنهم الأخبار الضارة. وبالتالي أصبح (ب) في قبضة التحقيق. فإذا كان عمله هذا مشينا وضارا كما أسلفنا فلا يصلح لأن يكون قدوة يحتذى بها. ومن ناحية ثانية، فإن انفراط إحدى (حلقات المسبحة) من وجهة نظر المناضل الثوري، يعني مزيدا من المسؤولية والتضحية من أجل الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه ليكون المناضل (ب) في هذه الحالة سدا لا تقوى سلطات التحقيق على النفاذ منه بحال من الأحوال. الأمر إذن يتطلب (حامياً للحمى) وليس شخصا يشكل صيدا سهلا ويجهز على البقية الباقية من شرف وعزّة. وبالتالي، فإن ادعاء (ب) في حالة انهياره بأنه دفع ما لديه للمحققين لأن (أ) اعترف عليه إنما يدل فقط على جبنه ونذالته وسقوطه كما هو الحال لدى الأول بالضبط. 

إن ظاهرة الاعتراف السهل من قبل أحد المناضلين المقرونة باعتراف آخر عليه قد شكلت لفترة غير قصيرة غطاء ممزِّقا لعدد من المناضلين الذين اعترفوا بما أدلى به عنهم رفاقهم، وتبرعوا من عندهم بما يمكن التبرع به وتقديمه لرجال التحقيق. إن كون سلطات التحقيق تعرف هذه المسألة أو تلك لا يشكل ممسكا لا رادّ له، وإن أفضل المخارج في هذه الحالة وفي كل الحالات في التحقيق هي نفي وإنكار أي معطيات تفصح عنها المخابرات. 

وكذلك الأمر بالنسبة لاعتراف معتقل عن غيره ومواجهته بما يعرف عنه أمام المحققين: 

  • المعتقل، أي معتقل، غير مجبر في الواقع على الإدلاء بشهادة مواجهة على غيره لأن المحقق يخشىى أن تسير الأمور أثناء المواجهة على غير ما يرغب. فقد يشعر المعتقل بالأسف على نفسه ويتراجع في اللحظة الأخيرة وبدلا من أن يساعد المحققين يخذلهم. ومن ناحية ثانية، ولو جرب المحققون إرغام المعتقل على المثول أمام رفيقه، فإن بإمكانه أن يقول ما يساعد رفيقه بدلا من توريطه ومحاصرته، لأن المحقق لا يستطيع تحريك اللسان في النهاية. 
  • يمكن أن تشكل المواجهة المباشرة عاملا محفزاً لكلا المعتقلَين على الصمود فيتحول المعترِف إلى منكِر أمام زميله حيث يشعر بمشاعر تصلّب موقفه فيستمد العزم من زميله الصامد. 
  • تخشى المخابرات أن تكون نتائج المواجهة تعريفا للمعتقل الصامد بالحدود التي وقف عندها المعتقل المعترِف. 
  • مواجهة المعترِف بغير المعترف لا تزيد أو تقلل من الوضع العام في التحقيق، بل قد تكون احيانا لصالح المعتقل غير المعترف، لأن المخابرات تكون قد رمت بورقة لديها فإذا فشلت لا تكون قد خسرت ورقة هامة. والذي يفشلها هو استمرار صمود المعتقل وعدم تأثره وتأثر مواقفه بالمعطيات القديمة. 

    وبالطبع، ليست قليلة الحالات التي يبادر فيها المعتقل الصامد إلى الهجوم بالضرب على المعتقل المعترف بعد أن يُفرغ قذارته بدلا من الانهيار والاعتراف. 

    وهكذا تفقد التبريرات التي يقدمها المعتقلون، المعترفون عن وضعهم، وزنها وقوتها أمام الوقائع والتجربة وأمام الموقف الإنساني البطولي، ولا يتطلب إلا الصمود والثبات وموقف الدفاع الحديدي عن المنظمات المناضلة وشخوصها. 

  • ليس جاسوسا بل اعترف في التحقيق! 

    شخص، يقال له الصباح، اعتقل وأدت اعترافاته إلى ضرب واعتقال ستين مواطنا دفعة واحدة. وأثناء التحقيق معهم واجههم وأبلغهم أن (كل شيء قد انتهى ولا فائدة من الإنكار) ومعظمهم اعترف بما عنده. وفي السجن تردد اسمه على الألسنة تفسيرا وتحليلا لموقفه، فردّ بعضهم على من اعتقد بأنه متعاون مع السلطات بأنه ليس متعاوناً، إنه فقط اعترف بما عنده وانهار، فلماذا التشويهات ضده، إنه ليس عميلاً. هكذا، وبكل بساطة، حسم صاحبنا الموقف وأعطى تفسيرا محببا ومقلوبا عن ظاهرة حدثت عشرات المرات، وعن شخص سلّم سلطات التحقيق ستين مواطنا نشيطا ضد الاحتلال. وقد يبدو هذا التفسير مقبولا لمن يرغب في الالتفاف على الحقائق بدلا من مواجهتها بعلمية، وخاصة أنه يريح صدر الكثيرين ممن فعلوا هذه الفعلة عبر سنوات الاحتلال والاعتقال والتحقيق.  

    لقد أجمع كل الثوريين في كل أنحاء العالم بأن الاعتراف لسلطات القمع بالأنشطة السرية وتقديم المعلومات لها عن المنظمات السرية وأسرارها ونشاطاتها وأعضائها وكيفية تفكيرها من خلال التحقيق، إنما هو مساعدة لهذه السلطات وتقوية لها وتنفيذا لمآربها، وضد الحركات الثورية ومعادٍ لها ومثبط لنضالاتها.. هذا من الناحية العامة. أما من الناحية الخاصة، وعلى مستوى الفرد الذي يواجه التحقيق، فإنه باعترافه وإدلائه بالمعلومات إنما يقف في صف الرجعية والأعداء ضد الرفاق والحركة الثورية. إنه يفقد ثوريته، يتخلى عنها ويتحول إلى ذليل لمجرد استعداده للاعتراف، ويتحول إلى عدوٍ موضوعيا منذ أن يبدأ بالتقيؤ إرضاء لأسياده المحققين أو خوفا من الضرب والتعذيب. إنه يتحول من ثوري إلى عدو للثورة، يتحول من مناضل من أجل الحرية والاستقلال إلى باحث عن خلاص ذاتي أناني ليحمي جلده، وفي غالب الأحيان لا يستطيع توفير هذه الحماية، لا حماية جلده ولا حماية نفسه من الاعتقال. وها هي الحقائق القاسية تتكلم عن نفسها فبقدر ما يسجن وتتخذ ضده الإجراءات القمعية الأخرى حيث لا ينفع الندم بعد أن يثبت للمرء أن خير حماية كانت، وحتى على المستوى الفردي الأناني، هي الصمت المطبق عن أي اعتراف مهما كان الثمن. 

    لقد ذكرت في مكان سابق من هذا الكراس حقيقة أن نسبة كبرى ممن يقبعون الآن في معتقلات العدو قد أوقع بهم زملاء لهم، اعترفوا عنهم وعن نشاطاتهم وأن الدخول إلى السجن بالمجموعات الكبيرة كانت ظاهرة قائمة وإن تكن قد تقلصت هذه الأيام لأسباب عديدة. خلال النصف الثاني من عام 75 أودع في سجن الخليل 83 سجينا جاءوا على شكل مجموعات كما يلي: 24، 16، 9، 7، و11. أما في سجن رام الله: 9، 9، 13، و17 وفي سجن جنيد 44 شخصا في مجموعة واحدة سنة 76، و60 في مجموعة واحدة، ولم يكن حظ سجن نابلس وطولكرم قليلا أما سجن غزة فقد أودعت فيه عشرات المجموعات التي تعدّ الواحدة بالعشرات أثناء سنوات 69-70-71 وبعد ذلك أيضاً. 

    وقد شكلت اعترافات كهذه ضربات مميتة للمنظمات المناضلة كانت ولا تزال سببا في تخلفها عن القيادة السياسية التامة للساحة رغم استعداد الجماهير الذي لا ينضب. 

    فإذا كانت اعترافات كهذه تشكل ضربات قاتلة، فإنها أيضا ضربات معادية وبالتالي فإن المنهار هو متعاون بدرجة من الدرجات مع الاحتلال لأسباب خاصة وفي ظروف خاصة. ويعطي تعاونه هذا أقبح وأسوأ النتائج في جميع الظروف. وكما هو موضح أثناء عرض أساليب التحقيق، فإن الاعترافات تبدأ في مناخ (التعاون) الذي يخلقه المحقق بينه وبين المناضل؛ هذا التعاون الذي يتطور بالتدريج ويتضمن بالتالي إنهاءً للصراع لصالح المحقق، والانسجام بين المحقق والمعتقل، وخلال ذلك يسكب المعتقل معارفه على رجل التحقيق ويغمره بها لتشكل له نيشان النصر. فالاعتراف إذن والانهيار والتساقط، هي حالات تعاون بين رجل المخابرات والمواطن، ضد المنظمة وأعضائها وممتلكاتها، وهذا ما يقوم به أي متعاون مع سلطات الاحتلال خارج أو داخل السجون. وهكذا تسمى الأشياء بمسمّياتها عندما نواجهها مواجهة الخبير العارف، مواجهة الجريء الناقد. 

    وعلينا أيضا أن نسمي الأشياء بمسمياتها وبدون مواربة، حينما يعتقل مناضل وطني مارس نضاله بحيوية وفاعلية وحماس قبل اعتقاله وقدم خدمات جليلة للحركة النضالية في ميادين متعددة، ثم يتهاوى في التحقيق ويضرب كل شيء ويشي بكل ما يعرف ويكشف للعدو حقائق وأسرار فإن هذا يعني أنه كان مناضلا ثم تحول إلى ذليل وخسيس. انتقل من ساحة النضال مع الثوار إلى ساحة أخرى، ساحة ضرب الثورة ومساعدة أعداء الثورة. لقد قدم خدمة جليلة للثورة حينما كان في صفوفها، وعندما انفرد به المحققون لم يحفظ شيئا من ارتباطاته الثورية، ولم يضع نصب عينيه حماية نضاله وتاريخه ونضاله الثوري، بل تساقط تحت ضربات العصي وخان نضاله وتاريخه وكفاحه الثوري. وبعد أن كان قد دوّخ العدو في ساحة الكفاح المفتوحة، دوّخ الحركة الوطنية باعترافاته ووشاياته حينما انتقل إلى أقبية التحقيق وقام بهذا الدور بالضبط مثله مثل مناضل آخر يشتريه العدو لسبب من الأسباب أو عميل مدسوس في صفوف الثورة ويعمل معها، ويقوم بكل ما يطلب منه ليقوم في اللحظة المواتية بتسليم كل شيء لأسياده. ليس من فرق في النتيجة بين هذه الأصناف، وإن كان هناك فرق فهو فقط في ماضي كل منهم. هذا ماضيه نضالي وذاك لا. إنه سقوط صعب، بل سقوط من قمة عالية ونتيجته التحطيم.. الساقط يتحطم وما يسقط عليه يتحطم أيضاً. 

    إن النضال عملية متواصلة، ويمر بمراحل متداخلة ومتنوعة ومتغيرة، وكذلك المناضل الذي يعيش الحالة النضالية بتنوعها ويتربى على هذا الأساس. فإذا ما دخل في امتحان صعب وهب نفسه للنضال أكثر فأكثر ليتعمد ليس فقط في نضالاته بل وفي نضالات شعبه وحركته الثورية.. وإلا تكون النهاية.  

    إن الاعتراف في التحقيق هو سقوط مشين وإدانة وعار في الجبين. 

     
  • المساومة والبيع 

    حينما يعتقد المحقق أن في إمكانه الحصول على أكمل المعلومات التي يحتاجها من المعتقل قيد التحقيق، وحينما يظن أن استمرار الجلد والتعذيب قد لا يعطي الثمار المرجوة وحينما يدرس شخصية المناضل الذي أمامه ويلاحظ انشداده القوي لذاتيته الفردية وخوفه على نفسه ومصيره ومستقبله، وخوفه على جسده. وبعد أن يلاحظ المحقق أن الانتقال المفاجئ للمناضل من حياة النضال الرحب في الساحة إلى أقبية التعذيب والزنازين قد فعل فعله في الحالة النفسية والمعنوية للمعتقل، يلجأ إلى عقد صفقة مشبوهة، سواء كانت وهمية من جانبه أو حقيقية؛ أي سواء قصد بها تضليل المعتقل والحصول منه على ما يشاء وامتصاصه وقذفه في النهاية كما تقذف النفايات، أو بقصد البداية الهادفة إلى إحكام تساقط المعتقل وتحويله إلى أداة دائمة بيده يضرب بها جسم الثورة كلما استطاع. 

    إن المحقق الذي خبر التحقيق جيدا، ويستطيع الاستفادة من حقيقة كونه السلطة المسلحة بالأدوات القمعية الفاشية.. إن محققا كهذا يسعى في الغالب لنجاح مزدوج: إنجاز مهمة التحقيق والحصول على المعلومات والاعترافات على أكمل وجه، وتحطيم شخصية المناضل ومثله ومبادئه وارتباطاته الثورية. هذا هو دوره القمعي وعلى هذا يمارس وظيفته. 

    في سياق عمله، يلجأ المحقق للترهيب وأيضا للترغيب، وكلا الممارستين يحتاج لتحقق أثرهما إلى شروط محددة تتعلق بالمعتقل ومدى تجاوبه للترهيب أو الترغيب. والمحقق يفترض الحالة ويجرب، يجرب الترهيب مثلا فلا يعطي ثمارا وفي وقت آخر يجرب الترغيب، أو التقليل أو التكثير أو التشكيك أو أي شيء يعتقد أنه يمس صمود المعتقل وأن الحالة الحاضرة للمعتقل قابلة للتأثير عليه. وهذا يعني أن الترهيب أو الترغيب ليس الهدف النهائي، وإن يكن نهجا، وإنما هو في حقيقة الحال وسيلة لإخضاع المعتقل والحصول على ما يخبئه في صدره. فحينما يقول لمعتقل هات ما عندك وسأفرج عنك، لا ينطلق من شفقته على وضع هذا المعتقل وإن تظاهر بذلك كحالة الصياد والعصافير وحينما كانت عيناه تدمعان ويداه تذبحان، إن المحقق إنما ينفذ مهامه الملقاة على عاتقه في عملية التحقيق. 

    كثير من المناضلين يصلون غرفة التحقيق والخوف قد طغى على كيانهم سلفاً، بعضهم يتجاوز حاجز الخوف ما يعني اجتياز حالة الخطر ووضع القدم الأولى في طريق التغلب على كل صعاب التحقيق. إن هؤلاء الذين تستمر عندهم حالة الخوف هم المتوقع سقوطهم في براثن ألاعيب المحققين، وهم الذين يمارس عليهم الجلادون أساليب الترهيب والترغيب والتهويل بغية الإحكام التام على خناقهم والإجهاز التام على أعصابهم وقدرة تحملهم وهم الذين يشاهدون المحقق كمن يشاهد الرهبة والغلظة. إنهم يعتقدون أن المحقق قدر محتوم يصيب بكل سوء رهيب لا يمكن تحمله، ويعتقدون أنه كالرب على كل شيء قدير يقبض ويبسط ويحبس من يشاء ويطلق سراح من يشاء، يعذب من يشاء ويعفو عمّن يشاء في يده القوة والجبروت وهو على كل شيء قدير. 

    في ظل أجواء الرهبة هذه والتي يعززها المحقق قدر ما يستطيع، تذبل شخصية المعتقل ويتضاءل حجمه كمناضل، وإذا ما انصرف إلى ذاتيته تقع الطامة الكبرى ويأخذ المحقق في مساومته وحجم المساومة يعتمد على العناصر التالية:  
  • نوعية المعتقل ووضعه النفسي ودرجة تماسكه 
  • نوعية القضية التي يحقق بشأنها المحقق 
  • النتائج المتوقعة من اعتراف المناضل 
  • الهدف النهائي تجاه المعتقل نفسه وهل يرغبون في اعترافاته فقط أم أن اعترافاته مقدمة لكسبه لصفّهم. 

    إن غاية المحقق من المساومة هي تدمير المناضل وإسقاطه والحصول على كل الأسرار التي لديه والحصول على تعاونه جزئيا أو كليا. وقد يخفي المحققون أحد أهدافهم كتعزيز لإمكانية الوصول إلى أهداف أخرى. فهم قد يكتفون بتحويله إلى جاسوس في البداية مقابل وقف التعذيب والإفراج عنه، لأن الحصول على المعلومات فيما بعد سيكون سهلا وعلى شكل تقارير يقدمها المتساقط نفسه. أو قد يحصل العكس فيحلبون كل المعلومات التي لديه ولا تستمر المساومة بل تؤجل إلى حين آخر وليكن بعد الحكم بالسجن أو حتى بعد خروجه من السجن وقضاء مدة محكوميته. وقد تكون المساومة محدودة جدا بأن يكفوا عن ضربه تعبيرا منهم عن (حسن النية) وتقديم سيجارة له وهو بالمقابل يقدم ما لديه. وقد تكون المساومة بأن يعترف هو كل الأشخاص الذين يعرفهم مقابل تعهد صوري بأن يخفوا أمر اعترافه عن زملائه ويوهمونهم بأن شخصا آخر هو الذي وشى بهم. 

    وفي جميع الأحوال، ومهما كان حجم المساومة، ومهما كانت الحالة التي تمّت بها فإن هدفها الحصول على تعاون المناضل مع أعداء الحياة وجرّه إلى مستنقعهم وإسقاطه فيه. إن مجرد قبول المساومة قد يكون كافيا من وجهة نظر المحقق يبني عليها ما يشاء من تصورات وأحكام، ومجرد قبول المساومة يعني بداية السقوط الوطني والانهيار. 

    إن حقيقة كون المحقق لا يلتزم بما يتعهد به للمناضل مقابل إعطائه الاعترافات، وزج (المناضل) المساوم في السجن وإخضاعه لكل العقوبات التي يتعرض لها المناضلون الذين لم يساوموا لا تعفي المساوم من حجم مسؤوليته، ولا تعيد له نفسه الوطنية. إن المساوم إنما يسقط من الصف الوطني ويتحول إلى خرقة بالية سواء استمر في خدمة الاحتلال أم أهمله رجال التحقيق ولم يعودوا إليه، ونفسه تظل في العذاب وهو يظل في ثوب الخزي والعار.  

    هناك مساومات جزئية جدا وحقيرة جدا وتدل على مدى سذاجة المعتقل واستعداده للسقوط. فأحدهم وأثناء التحقيق معه طلب من المحققين أن يكفوا عن تعذيبه وهو بدوره سيسلمهم أسلحة لديه مقابل (شرط) أن لا يهدموا بيته لأن بيته جميل وبناه بعرق جبينه. والمحقق وجد طريقة سهلة بل أكثر سهولة من السابق وهو الذي كان يظن أنه لن يحصل على شيء. إن دفع هذا المسكين إلى الكلام لا يحتاج لأكثر من تقديم وعد وليكن حتى مشفوعا بالقسم بالشرف العسكري ليطمئن صاحبنا. وعندما قدم معلومات عن مصدرها وعن الأشخاص الذين جلبوها مع أنهم وعدوه في السابق بأن لا يسألوه هذه الأسئلة، وبعد أن وشى بهم كان عليه أيضا أن يقنعهم بالاعتراف ويواجههم بما لديه من معلومات وإلا (فإن الضابط المسؤول لن يقتنع بالعفو عن البيت الجميل). وبعد ذلك لا بد له أن يقدم إفادة توضح انتماءه ونشاطاته هو، فهذه الأسلحة مستعملة وإن لم يوضح (فلا يستطيعون حماية بيته الجميل هذا). وبعد أن فرط كل المسبحة وقدّم كل ما لديه نسفوا بيته ثم أقنعوه أن نسف البيت خير له، فما داموا قد نسفوا بيوت أصحابه فمن غير المعقول أن يبقى بيته وإلا يشك فيه أصحابه. هم، حرصاً على مصلحته وصوناً لسمعته، لم يجدوا أمامهم سوى أن ينسفوا البيت وفي هذا الخير العميم له. وفي الأساس، فإنه لن يحتاج هذا البيت في الوقت الحاضر لأنه يقضي في السجن عقوبة بالسجن المؤبد بتهمة حيازة أسلحة والقيام بعمليات ونشاطات. إن غالبية المساومات، بل 99 بالمئة منها، تواجه هذا المصير. وعودٌ وتعهدات من قبل المحققين ينتهي مفعولها عشرات المرات أثناء التحقيق وتجدد ثم ينتهي مفعولها في نهاية التحقيق. 

    غير أنه في حالات أخرى، يلجأ المحققون لمساومة مناضل وجدوا في حوزته مستمسكات مادية أو يعرفون عنه معلومات هامة تؤكد أن لديه أسراراً كثيرة، ولكنه يصمد في التحقيق ولا يعترف بشيء. وحينما يلاحظ المحققون أنهم فشلوا، أو يكادون، يلجؤون لطرح أوراق المساومة لعلها تجدي وهي في هذه الحالات تواجه آذانا صماء، بل تزيد المناضل صلابة وثباتا. 

    إن المناضل الثوري الملتزم، المنتمي، المؤمن بقضيته التي يناضل من أجلها لا يمكنه أن يتصور نفسه في وضع يساوم فيه على الثورة وأسرارها وعلى تضحياته وتاريخه النضالي. إنه يدخل إلى التحقيق وهو مدرك أنه مقبل على معركة تحدٍّ، يحتقر ضباط التحقيق بسبب لا أخلاقيتهم ولا إنسانيتهم، ولأنهم أدوات قذرة في يد سلطة عفنة وعنصرية. إنه لا يجلّهم في نفسه ولا يخشاهم، ويعبر لهم في كل لحظة عن احتقاره لهم واشمئزازه منهم؛ ولا مجال بالتالي للدخول في أي حديث عن مساومة.  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.