في رحيله: محمد الأسعد … لا تجتثُّوا وفاءه، عادل سماره

لكل كاتب أو مفكر أو شاعر حقه في الكتابة على: هواه، عقيدته، تهويمه، صحوه، سكرهِ، عشق سيده، مناخ إنشباكه…الخ، ولكن ليس له الحق في إغفال وطنه، أو وطنية غيره. ذلك لأن للوطن وجودان:

  • الوجود المادي، الحيّ.، الذي لا يُباد
  • والوجود الحدث، الأحداث، التاريخ والذي يُغفل ولكن لا يُباد.

لذا، من يكتب عن راحل عليه إنصافه ونقده معاً، أما أهم إنصاف فهو الإضاءة على عشقه للوطن، وإغفال هذا مؤلم وخطير لا سيما إذا كان لمديح اي شخص أو حزب أو طبقة أو نظام.

رحل محمد الأسعد الكاتب والشاعر الفلسطيني يوم 21 ايلول الجاري في الكويت غاضباً مغترباً ، وهو بشكل خاص الوفي النقي،. كُتب عنه ورُثي الرجل وذُكرت ربما مختلف أعماله، لكن أثراً آخر له، لم يُذكر ، في حدود ما وجدت، وهو كتابه: محمد الأسعد مديح البياض: في الخطاب الفلسطيني الممنوع”. ويقع في 60 صفحة.

والكتاب مخصص، دون أن يَقُل ذلك الأسعد، في قرائته لناجي العلي في مستويين متلاحمين: “الإبداع والاغتيال”. ومن يُعلي الإبداع، والإبداع عالٍ بذاته ولذاته ، ويُخفي الاغتيال فقد قتل الحدث بقتل التاريخ، وهذا لا يستقيم ولا يبقى.  أسميت محمد الأسعد بالوفي النقي لأنه بقي فلسطينياً نقياً في من لم يعد لها ولا لنا، وبقي وفياً لمن يستحق الوفاء، لناجي الفلسطيني.

 لعل خلاصة الكتاب هي دليل أبدي  إلى فلسطين، رغم التعتيم، عبر التزام وإبداع ناجي العلي.

يبدأ الكتاب بقصيدة ، ومقتطفين لبلال الحسن ومحمود درويش في وصف منه لمن أسميه “المثقف المنشبك” الذي يطمس وطناً ويعبد رجلاً. وهنا ليس السؤال في الرجل المعبود، بل في الكاتبين من جهةن  وفي من يروجون المثقف المنشبك ويطمسون المثقف المشتبك ، ناجي العلي خاصة ومحمد الأسعد وغيرهما.

ذلك لأن ما علينا نقله للناس هو الحدث وهذه أمانة التأريخ كي يستقيم التاريخ.

لذا، فإن إبراز وجه واحد للمثقف المنشبك، اي إبداعه الجمالي، في حالة محمود درويش، وتغطية كونه منشبكاً ومطبِّعاً (لم يتردد محمود درويش في رثاء إميل حبيبي ببدء مرثيته ب “يا معلمي”) هو في الحقيقة محاولة إغتيال وطن وليس حتى مجرد إغتيال حدث، وكليهما يمكن اغتياله للحظة فقط لأنه ما من أمة تموت دون أن تكرِّس مفاتنها في التاريخ، وجهها وليس عجيزتها.

أورد الأسعد ما يلي في بداية النص الذي كتبه:

نحن المثقفين الفلسطينيين نعاهدك 

بأن نكون سيف الإصلاح في يدك 

فاضرب بنا يا أبا عمار

 بلال الحسن ، فلسطين الثورة ، 21/4/1984 

هو شرط حياتنا ، مجرد حياتنا الآن ، 

وهو شرط طريقتنا في الموت ، 

وعليه أن يكون ، 

فاما أن يكون الآن وإما ألا نكون

محمود درويش ، عرفات والبحر ، افتتاحية الكرمل ، العدد 10 ،1983

وكنت قبل ايام قد استمعت صدفة لقصيدتين فخمتين لشاعرين منشبكين:

“مديح الظل العالي لمحمود درويش” قدمها للراحل ابو عمار وقد اذهلني اغتباط الحضور بها وهي مثابة “مناحة” كونها تبكي الخروج من بيروت، والتضحية بالصمودلسبعين يوما والخروج إلى اللاعودة وبالطبع شتم العرب حتى التعب. ولم أفهم وجود الحكيم بين الحضور وكان بادٍ عليه بأنه خارج كل تلك المسرحية. وأقول: لماذا حضرت….لماذا”!!!

والقصيدة الثانية لأمير الشعر المنظوم، محمد مهدي الجواهري واسمها “يا سيدي اسعف فمي” في مديح الراحل الملك حسين.

■ ■ ■

قصيدة محمد الأسعد في مقدمة كتابه المذكور أعلاه:

ناجي العلي

أنت َ خلَّيتني في اللغات ِ جميلا ً

أنت َ خلَّيتني

ومضيت َ

أليس قليلا ً إذا ما انزوى الموت ُ عنا

أليس قليلا ؟

أيها المدهش ُ المتجاهل ُ أن لنا موعدا ً

في التقاويم ِ

أبسط َ ممّا اجترحت َ

لماذا تغيّرُ كوني

وتطلعُ مثل مناخ ٍجديد ٍعلى الأرض ِ

تمحو

وتمحو

وتوجز حتى يصير المقدّس ُ

جرحا ً طويلا ؟

أنت خلَّيتني في العراء ِ وحيدا ً

وسمّيت َ

حتى تخيّلت ُ أرضا ً سوى الأرض ِ

شعبا ً سوى الشعب ِ

حتى تعدّدت ُمثلك َ

عدت ُ جميلا ًكما لم أكن ْ

ذات يوم ٍ جميلا ..

يا ندى البسطاء ِ

ولون َ البلاد ِ البعيدة ِ

والنار ِ

وهي تقاوم جيلا ً فجيلا

أيها الأبيض ُ المطلق ُ المستثار ُ

إذا ارتبك العارفون

وأضحى الرماديُّ

عصرا ً طويلا

أيها الغجريُّ الذي طاردته القبائل ُباسم ِ الأفول ِ

فهيّأ فجرا ً لنا

وأصيلا

أيها الغجريُّ الذي لم تكن قبله لغة ٌ للجمال ِ

ولا لغة  للبهاء ِ

وكان اختلاط ٌ

على مسرح ِ الكائنات ِ

يسيّد ُ ضبعا ً

ويرفع ُ فيلا

وحدك َ الآن في قفص ِ الكائنات ِ

تراقب ُ عصرا ً

ذليلا

وحدك َ الآن تفضح كذب َ الرواة ِ

وتغري بعصر ِ المسوخ ِ الحجارة َ

والمستحيلا

كنت َ حلما ً

وواصلت َ حلمك َ حتى نهايته ِ

قاتلا ً أو قتيلا

لم تصل ْ ..

كيف لي أن أكون ُ شهيدا ً

وحيدا ً

على بذرة ٍ

تستقرُّ بها أمة ٌ

وضمير ٌ

يودّع ُ جيلا ويبعث ُ جيلا ؟

                              محمد الأسعد-1987

■ ■ ■

وفي ص 48 من الكتاب كتب محمد الأسعد ما يلي:

“… بعد اغتيال ناجي أيضاً، وهو يكاد يكون اغتيالاً معلناً لأن أوساطاً عريضة كانت تتوقعه، وتتوقع الجهة التي ستقوم عليه، تتالت أحداث غريبة. فقد كتب إليَّ من لندن باحث فلسطيني اسمه “عادل سمارة” يقول أنه دهش دهشة بالغة حين قرأ ما كتبته عن اغتيال ناجي وسط هذه الحملة الشرسة ضده حتى بعد اغتياله بأقلام كتاب وشعراء فلسطينيين. وقال لي”أدهشني أن يقف إنسان هذا الموقف الشجاع المدافع عن ناجي وفنه … وحيداً”. (ص48)

وسأنشر رسالته لي.

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.