وهل كان العالم بلا حرب! د. عادل سماره

يبدو أن الخطاب السياسي والأكاديمي والثقافي وطبعا الإعلامي وحتى الفلسفي في هذا العالم يجب أن يتغير. فالعالم محتل على يد الغرب بخطاب الغرب الذي يصف فترة ما بالحرب وفترة ما بالسلام! وهذا بناء على وضع الغرب نفسه وما فيه من تطورات داخلية تزعم أنظمته الرأسمالية أن بلدانها كانت أحياناً بلا حرب، وهي نفس الأنظمة التي كانت حتى خلال هذا الزعم تقوم بحرب طبقية داخل بلدانها وعدوان استعماري ضد العالم.

وبسبب احتلال الغرب الرأسمالي كل من الخطاب والمصطلح وحتى مجمل اللغة، فإن الغرب يفرض على بقية العالم أن يتخيل نفسه وحاله كما هو الحال في أوروبا بل المركز الرأسمالي العالمي.

ولذا نشهد في كتابات كثيرين من مثقفي بلدان المحيط من يكتب في بلده ولكن ليس عن بلده نفسها لأنه يفكر كما أراد له أي كما صمّمه السيد الغربي فصار تابع في طريقة التفكير واستدخال الهزيمة الذهنية العقلية فأنتج هزيمة فكرية وثقافية هي خطاب مهزوم وأخذ يروِّج ويسوِّق تبعيته هذه في مجتمعه ليخلق جيلاً تابعا مفتوح العيون فاغر فمه وبالتالي مشوه الوعي.

يقول سجل التاريخ والذي يرتكز على منطق التاريخ بأن العالم أو تاريخ العالم هو تاريخ صراع الطبقات. اي منذ دخول أو انتقال المجتمعات البشرية من المشاعية البدائية إلى مجتمع الطبقات القائم على الملكية الخاصة غدت تعيش هذه المجتمعات علاقات جوهرها الحروب ولم يكن السلام سوى استثناء هنا أو هناك فقط لحظات سلام نسبي من حيث الزمان والمكان ولا ندري إن حصلت. وبالطبع لم تنتقل مختلف المجتمعات من المشاعية إلى أنماط الإنتاج الأخرى انتقالا متوازيا متزامنا لكن المهم أن الانتقال حصل وإثر ذلك الانتقال كانت الحروب ولم تتوقف حتى اليوم.

كان نمط الإنتاج العبودي، واسمه واضح، مثابة حرب متواصلة سواء داخل المجتمع طبقياً أو بين مجتمع أو دولة وأخرى بل دولة ودول أخرى. فالإمبراطوريات لم تُحارب دولة واحدة أو دولة بعد أخرى بل خاضت سلسلة حروب ضد سلسلة دول أو شعوب وأمم لم تصبح دولاً بعد. وأوضح مثال حروب وغزوات الإغريق التي وصلت الوطن العربي وفارس، ولاحقاً الإمبراطورية الرومانية التي اتسعت لتنقسم إلى غربية وشرقية. فالمجتمع العبودي هو حرب طبقية بين الأسياد والعبيد دون فارق بين “ديمقراطية اثينا” وبين روما بعدها فالإمبراطوريات هي حروب مزدوجة داخلية وعلى الشعوب الأخرى.

ولا يختلف الحال في مرحلة الإقطاع بين الإقطاعي/النبيل والأقنان، أو في مرحلة نمط الإنتاج الخراجي (امين وتيرنر) ولا في نمط الإنتاج الآسيوي ربما المُتخيَّل عند ماركس حيث الصراع الطبقي وكذلك القومي هو السائد. بل إن الصراع القومي بين دولة وأخرى حتى لو اتخذ شكل أو إعلان الحرب القومية هو صراع عدواني من طبقة حاكمة مالكة في بلد ما ضد مجتمعات أخرى بأكملها، فهي اساساً طبقية من حيث المنشأ والدافع وقومية في كونها عدوان ضد آخرين.

ومع أن المجتمعات التي يهيمن فيها نمط الإنتاج الرأسمالي سواء المتقدم الاحتكاري في المركز أو نمط الإنتاج الرأسمالي المحيطي /التابع هي ايضا مجتمعات طبقية لم تتوقف فيها الصراعات الطبقية من جهة كما أن الحروب بين الدول لم تتوقف قطعا ايضا.

قد يختلف عالم راس المال عن المجتمعات أو التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية السابقة في إخراج صورة هذه المرحلة بشكل زائف وكاذب. وهذا الزيف هو إنشاء أو خطاب الأنظمة الرأسمالية الغربية أو الثلاثي، كما أشرنا.

ما نقصده هو أن الإعلام والخطاب الغربي حين يصف فترة بأنها فترة سلام، فهو يقصد أن هناك سلاماً في أوروبا أو في المركز متجاهلاً كافة أرجاء العالم التي يقوم الغرب ضدها بعديد أنواع أو انماط الحروب.

وحتى داخل الغرب نفسه، فالصراع الطبقي يأخذ أو يتصف بوتائر بطيئة وضعيفة، ولكنه من جهة:

·       موجود في داخل ذلك المجتمع

·       وبوتائر غير ساخنة لأن كل المجتمع، ومنه الطبقات الشعبية، مرشية بما تم ويتم نهبه من بلدان المحيط أي العالم الثالث حيث يتم استخدامها لتبريد شدة الصراع الطبقي بنيلها بعض ما تم نهبه.

بالنسبة للغرب فإن عدم احتراب الغرب ببعضه أو عدم تعرُّض الغرب لحرب من خارج جغرافيته فذلك يعني بالنسبة له أن العالم في سلام! أما قيام اية دولة غربية بحرب وإبادة لأي بلد في العالم فلا تُعتبر حربا، بل تُعتبر سلاما، بل حتى سلام في كل العالم!

في عصر راس المال، لا توجد حرب باردة، بل حروب ساخنة بوتائر مختلفة الشدة.

حينما اعتدت الولايات المتحدة على العراق عام 1991 كتبنا أن العالم انتقل بعد تفكك الكتلة الشرقية، من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة. لكن حقيقة الأمر أن عالم راس المال هو حالة الحرب الدائمة لأن الحرب هي أحد أهم شروط بقاء هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي، اي الملكية الخاصة ومحرك كل هذا هو الوصول إلى التراكم اللامحدود. فخلال الحرب الباردة لم تتوقف الصراعات الطبقية داخل المجتمعات البشرية كما بقيت حرب بين دول وبالطبع فإن الاتحاد السوفييتي لَجَم أو قيَّد وحشية الغرب العدواني بشكل نسبي. ولذا، فالحرب الساخنة موجودة وقد سخَّنت الحر الباردة.

خلال هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي، يصبح من قبيل التزييف الزعم أن هناك سلاماً. إن هذا الزعم مناقض تماماً لقانون التناقض الدائم في مجتمع الملكية الخاصة، بل مناقض لقانون التناقض بمعناه الفلسفي.

صحيح أن حرب الدفاع الروسية هي التي تدور اليوم ويتم الحديث بأنها قد تقود إلى حرب عالمية. ولكن، كما أسلفنا، متى لم تكن هناك حرباً عالمية! سواء شديدة أو بوتيرة أقل.

ألم تكن الآتية حروبا عالمية:

·       غزوة الإغريق حتى فارس؟

·       غزة الرومان للوطن العربي والعالم

·       غزوة هنيبعل حتى حدود روما

·       غزوة العرب من الأندلس إلى حدود فرنسا

·       غزوة فرنجة الإقطاع/الصليبية

·       غزوة العثمانيين لأوروبا

·       غزوة فرنجة راس المال الغربي حتى اليوم

·       وماذا عن مذابح الأوروبيين ضد السكان الأصليين في أمريكا الشمالية وهي اليوم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وفي امريكا الوسطى والجنوبية ؟ أليست حروباً

·       وماذا عن استهداف الوطن العربي منذ ثلاثماية سنة من قبل راس المال الغربي

·       وماذا عن الحرب الإقتلاعية ضد الشعب الفلسطيني منذ قرن ولم تتوقف؟

وهذه مجرد أمثلة، وداخل زمن كل مثال حروب صغيرة متعددة بين الأمم، وحروب طبقية دائمة سواء شديدة أو أقل شدة داخل كل مجتمع.

مثيرة للسخرية عبارة أو مصطلح “القرية العالمية” فهي في الحقيقة استغلال وعدوان جزء القرية المسمى المركز على الجزء المسمى المحيط/الأطراف من هذه القرية، حرب المركز ضد المحيط، حرب الشمال ضد الجنوب. هي حروب عسكرية اقتصادية ثقافية نفسية …الخ. وحين التأزُّم حرب المركز ضد بعضه.

 ومن هنا جرى الادعاء بأن العالم لم يشهد سوى حربين عالميتين. وهذا تزييف.  جرت ما تسمى الحرب العالمية الأولى بين دول المركز الرأسمالي، كما جرت ما تسمى الحرب العالمية الثانية من النازية ضد الاتحاد السوفييتي مدفوعة سراً من قبل بقية المركز الإمبريالي الغربي، بينما بقية دول وشعوب العالم كانت مسارح لحروب الغرب وهدفاً للنهب والاستغلال والتقشيط والتبادل اللامتكافىء الذي كان قبل الحرب وبقي بعدها، بل وفي حالة الوطن العربي فأكثر الأنظمة هي في حرب ضد الشعب الذي تحكمه حيث تنوب في استغلاله بشكل استعماري وإمبريالية نيابة عن الإمبريالية نفسها. فيما يخص المحيط، فالحربين العالميتين المزعومتين كانتا حربا على المحيط وفي المحيط الذي لم يشارك فيها بقراره.

 في أحشاء نمط الإنتاج الرأسمالي تطورات متواصلة مقودة بقانون حركة راس المال التي مبتغاها التراكم الأقصى الذي يفرز بنيته الفوقية كخادمة له على شكل إيديولوجيات عدوانية بطبيعتها وهذه جميعا محركات للحروب، سواء الأورومركزية، الفرانكفونية، الفاشية، العنصرية البيضاء…الخ.

وهذه جميعاً “تزدهر” حينما يبدأ هذا المجتمع الرأسمالي بمغادرة الرفاه أو يغادر دولة الرفاه يدخل النظام الرأسمالي العالمي وخاصة المركز في أزمة جوهرها تدني معدل الربح تدني التراكم فتقفز إلى القيادة قوى فاشية يفرزها مجتمع راس المال من رحمه لأنها جيشه الاحتياطي الذي يلجأ إليه مجتمع الغرب الرأسمالي هذا حين الأزمة.

لم يكن وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في الولايات المتحدة وحده كاشف فاشية هذا النظام، فالمحافظون الجدد طرحوا فاشيتهم بافتخار وكبرياء وهجوم شامل على حريات الأمم. ولأن راس المال هو راس المال، فإن وصول الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى السلطة كان مثابة تبادل للسلطة بين حليفين، لذا واصل جو بايدن العدوان على مختلف بلدان العالم وإن بوتائر أخف ودعاية إعلامية أكبر، ولكن مع بدء حرب الدفاع الروسية فقد فرض على روسيا كافة أنواع الحروب وأرغم أوروبا على دخول الحرب ضد روسيا على ان تكون كبش الفداء للنظام الأمريكي. ومع ذلك يقف في الدورة الحالية للأمم المتحدة أيلول 2022 ويهين جميع الحضور بقوله: “أنا ضد الحرب ومع حماية الدول الصغيرة وهو يمنع عن سوريا الدواء والغذاء…”.

أما تطورات العالم في العامين الماضيين فكشفت بلاغة الكذب والخبث الرأسمالي الإمبريالي وجهزت مناخ تجلّي بل عودة الفاشية في أوربا، وهذا ما نراه اليوم بوصول سيدة فاشية لرئاسة وزارة بريطانية والتي على تحالف مع الأوليغارشية المتمسكة بالسياسات النيولبرالية، ووصول الفاشية في إيطاليا إلى سدة الحكم قبل ايام.

إن الحرب الجارية في أوكرانيا وهي حرب الناتو ضد روسيا الاتحادية ومع الناتو مختلف البلدان التابعة للمركز الرأسمالي الغربي، ومختلف الطبقات في الغرب التي لا تواجه هذا العدوان بالرفض ومختلف المثقفين والإعلاميين الذين يروجون لهذه الحرب بأنها دفاع عن الديمقراطية.

يؤكد التاريخ وواقع العالم اليوم بأن السلم الغائب لا يُسترد إنسانياً دون تجاوز البشرية لنمط الإنتاج الرأسمالي وعلاقاته بالطبع نحو نمط إنتاج آخر وعلاقات إنتاج وتوزيع مختلفة تماماً. قد تٌسمى اشتراكية، أو ما بعد رأسمالية، أو شيوعية…الخ لا مشكلة لأن المهم هو الجوهر أي إنهاء الملكية الخاصة.

وحين يحصل سقوط الرأسمالية سوف يتبعها سقوط خطابها، ويتبعها تجاوز البشرية لهزيمة المرأة التاريخية، وتجاوز العنصرية و…الخ.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف. ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.