“كنعان” تتابع نشر كتاب:” أسرار مارنا هاوس … حكايات من غزة” ، تأليف لوتا شولركفيست، ترجمة وإعداد وليد الهليس، (الفصل الرابع)

تواصل الكاتبة السويدية لوتا شولركفيست في هذا الفصل من كتابها استجلاء ملامح المكان الذي ينوء بأقداره القاسية، ومن عجب أن إسرائيل ليست قدره الوحيد، ولا الأقسى، بل لعل ذلك الشرخ العميق الذي أخذ صورة انقسام دموي لم يشف منه الى الان، لا الشعب ولا بقية البلاد التي لا تني تنحسر كل يوم من تحت اقدامه وعلى مرأى من الجميع، هو القدر الأقسى والطعنة النجلاء التي أصابت القلب ونالت من العقل وأوهنت الإرادة.

المترجم

نخزن أحزاننا في الجرار، لئلا

يراها الجنود فيحتفلوا بالحصار…

نخزنها لمواسم أخرى،

لذكرى

لشيء يفاجئنا في الطريق

فحين تصير الحياة طبيعية

سوف نخزن كالآخرين لأشياء شخصية

خبأتها عناوين كبرى،

فلم ننتبه لنزيف الجروح الصغيرة فينا.

غدا حين يشفى المكان

نحس بأعراضه الجانبية

محمود درويش

حالة حصار (2002)

الفصل الرابع

من مسافة بعيدة عرفت أنه سليمان، يأتي مهرولا إلى مدخل النزل، بجلباب رمادي يصل إلى قدميه وسترة داكنة. نما تكور بطنه قليلا وشاب شعره، لكن الهيأة والابتسامة شيء لا تخطئه العين، بالرغم من مرور سبعة وعشرين عاما على لقائنا الأخير.

كانت نظرته مستطلعة وخجولة بعض الشيء، وهو يخبرني بأنني لم أتغير أبداً منذ آخر مرة تقابلنا. اعترضت بقولي؛ أوه حسناً، لقد صرنا نحن الإثنين، أكبر قليلاً وأكثر حكمةً، والشعر أيضاً تغير لونه.

شرح لي بإيماءة مستسلمة أنه نسي أغلب لغته الإنجليزية منذ أن كف عن العمل قبل سنوات عديدة.

– علينا أن نحاول تدبر الأمر بأفضل ما يمكن. لقد اتصلت بابني، الذي سرعان ما يأتي ليساعدنا، قال لي وألقى نظرة حوله في الحديقة أسفل تلك الشجرة الهائلة التي تشبه شجرة المطاط الهندي شبها كبيرا. كان بعض رواد المقهى المبكرين يجلسون متفرقين إلى الطاولات، مع نرجيلة أو فنجان قهوة.

حدثني خلال انتظارنا عن سبب وجوده في مستشفى الشفاء لحظة اتصالي به. إنه يعاني من مشكلة في ظهره، ويحاول الحصول على إحالة لإحدى المستشفيات المصرية لإجراء العملية. لا يريد أن يغامر بثقته في تلك الرعاية الصحية الغزية التي باتت متدنية، بعد أربع سنوات من الحصار الإسرائيلي.

– كل ما أفعله الآن ملاحقة الأطباء، قال وهو يتنهد بحسرة عميقة.

بقينا نتحدث بالرغم من صعوبة التواصل، تحدث عن شقيقه ياسين المقيم في أوبسالا (بالسويد)، والذي لم يره منذ سنوات عديدة. وياسين هو من يسر اتصالي بسليمان، وهو من اتصل به وأخبره بوصولي. التقيت سليمان لأول مرة في أوبسالا، نهاية السبعينيات، خلال زيارته لشقيقه هناك.

بعد قليل وصل صلاح، ابن سليمان الذي كان صبياً في الثامنة من عمرة عندما رأيته في المرة السابقة. لقد صار الآن رجلا في الخامسة والثلاثين من عمره، يرتدي الجينز وتي شيرت مخططة. رحب بي في غزة وقال إنه يتذكرني تماماً.

– كنتِ وقتها أكثر نحولا، لكنني عرفتك عندما لمحتك، قال وهو يجلس، ثم قدم لي سيجارة.

– خذي هذه العلبة، لا تدخني من تلك، إنها مضرة بالصحة، قال مشيرا إلى علبة السجائر المصرية المهربة التي اشتريتها مؤخراً عندما انتهت سجائري الأخرى. لقد كان محقا، فالسجائر المصرية لها نكهة رديئة ورؤيتها مثيرة للذعر، بصورة إنسان ذي لون أخضر كالح، يضع قناع الأكسجين. ومع ذلك ترددت لأنني أعرف مدى صعوبة الحصول على السجائر هنا.

– ليست مشكلة، فزملائي في العمل ومعارفي يحملون معهم دائما سجائر من إسرائيل، قال بإيماءة حاسمة وهو يضع علبته قرب فنجان قهوتي.

يعمل صلاح سائق توصيل لدى منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة، وهي أكبر أرباب العمل في غزة.

على أثر عدة مكالمات تليفونية ومداولات قصيرة بين الابن وأبيه، سألني صلاح عما أرغب في تناوله على الغداء: لحماً أم سمكاً؟ حاولت الاعتراض، لكن الأمر كان قد تقرر، الغداء أمر واقع، وما علي سوى اختيار ما أرغب في تناوله. دجاج، اقترحت لعلمي بسعر اللحم والسمك هذه الأيام. لكن صلاح ارتأى أن السمك هو الخيار الأفضل، فهو واحد من اختصاصاته المنزلية.

سوف ينضم رجلان آخران إلى صحبتنا، هما هشام، ابن عم سليمان، وزير شؤون الأسرى السابق، ومساعده الذي يتحدث بلغة إنجليزية رائعة. سوف يعود الرجلان في الثانية لاصطحابي إلى الغداء عند صلاح.

عندما زرت غزة للمرة الأولى، في ربيع 1982، لم أكن أعرف الكثير عن الحياة والناس فيها. ومع أن بعض معارفي في أوبسالا يعودون بجذورهم إليها، إلا أن رواياتهم لم تترك لدي سوى معرفة غامضة عن الأوضاع السائدة هناك. وكانت معرفتي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي مستمدة أساساً من الأخبار والتقارير الصحفية.

سافرت من القدس إلى غزة بالحافلة. لكنني لا أتذكر الكثير عن الرحلة ذاتها، فالحدود بين إسرائيل وغزة، قلما كانت تسترعي الانتباه في ذلك الوقت. لم تكن هناك أية حواجز أو نقاط تفتيش أخرى، ثم فجأة، يجد الإنسان نفسه في بيئة مختلفة، بيوت متراصة تتفرخ في صفوف على جوانب الطرقات الضيقة، وتفتقر في أغلبها إلى طبقة القصارة الخارجية. كان الجو مليئاً بالغبار والنفايات المنتشرة والبشر المتزاحمين في كل الأمكنة.

التقيت صبري، في محطة الحافلة الأخيرة بساحة فلسطين في وسط مدينة غزة، وهو فلسطيني تعرفت إليه في مدينة أوبسالا. انطلقنا معا إلى ابن عمه سليمان الأشقر الذي يسكن مع أسرته؛ زوجته صبحية وأطفالهما الثمانية، في بيت صغير من غرف ثلاثة ومطبخ في حي الشجاعية، مباشرة إلى الشرق من قلب المدينة القديمة. كان هناك كوخ أسمنتي، في الفسحة الصغيرة أمام البيت، يستعمل كغرفة غسيل مزودة بدوش.

كان في نيتي أن أقيم لدى عائلة الأشقر خلال زيارتي لغزة التي امتدت لخمسة أيام. رحبوا بي وقدموا الشاي والمشروبات الغازية، وجلسنا في الصالون الصغير، على حشيات مرصوصة إلى الجدران المطلية بألوان صارخة. كانت صبحية الموظفة في الأونروا، تتحدث الإنجليزية بطريقة معقولة، وهي التي تولت شرح ما احتاج إلى استيضاح، وقدمتني إلى جيران العائلة ومعارفها، الراغبين، بطبيعة الحال، في التعرف إلى الضيفة التي قطعت كل هذه المسافة لزيارتهم.

تقرر لي أن أنام على سرير الوالدين، مع صبحية وطفلها الأصغر الذي لم يكمل عامه الأول بعد. وإلى جوارها مهد صغير، رقد فيه طفل ابن عامين، وعلى الأرضية فرشات نام عليها بضعة أطفال آخرين. وأما سليمان فقد حظي بالنوم على الحشيات التي في الصالون.

لم أشعر بالارتياح إلى ما أحدثه وجودي من قلب لكيان الأسرة، لكن أحدا لم يعر اعتراضي أذنا صاغية. فلم يكن من الجائز مجرد التفكير في أي مكان آخر لنومي، سوى السرير الأفضل في البيت. وهكذا كنت أستيقظ كل صباح على همسات صبحية وهي تجهز الأطفال الكبار للذهاب إلى المدرسة، وتحملهم حقائبهم المدرسية، وتدس في يدهم بعض الفكَّة لشراء وجبة خفيفة.

كان سليمان ينهض في الخامسة صباحاً ليسافر إلى مكان عمله في مصنع للأسلاك الشائكة في كريات جات داخل إسرائيل. بدت يداه مسودتين وخشنتين وقد تجلفتا من العمل بالأسلاك الشائكة. لقد وجدت صعوبة كبيرة تمنعني من استيعاب قدرته على إنتاج أسلاك شائكة يستخدمها الإسرائيليون في حصار الفلسطينيين. فالمستوطنات والمواقع العسكرية التي شاهدتها في الضفة الغربية كانت محاطة بأسيجة مضفورة من الأسلاك الشائكة التي لا يمكن اختراقها. لكنني لم أكن أملك ما يكفي من الجرأة لأسأل سليمان عن هذا الأمر.

كنت أمضي النهار في غزة مع صبري وبعض معارفه. وفي أحد الأيام زرنا (أبو بشير الغول)، وهو رجل مقتدر يملك منزلا كبيرا وله زوجتان. بعد وجبة سخية من دجاجتين طازجتين وسلطات وأرز متبل، صعدنا إلى السطوح لنسرح النظر ونتناول حليب الماعز الدافئ.

كان المنزل مكونا من شقتين متطابقتين تماما، لكل زوجة بيتها المستقل؛ ولكل زوجة مطبخها، وحمامها، وغرفة نومها، وصالونها. كان الأول مؤثثا بأرائك ضخمة وستائر خضراء سميكة، والآخر مثله ولكن باللون الأحمر. وخلال مشاهدتي للبيتين، أعربت كل زوجة منهما عن رضاها بحياتها. ولكن تعذر علي أن أصدق ذلك تماما، بما لدي من تصورات غربية عن الزواج والحب.

كانت غزة في ذلك الوقت تختلف عن غزة الآن في كثير من النواحي. على الأقل من الناحية الاقتصادية، ففي الثمانينيات والتسعينيات كان آلاف الرجال الفلسطينيين مثل سليمان، يعملون داخل إسرائيل في المصانع ومواقع البناء وزراعة الفاكهة أو سائقين للحافلات أو لسيارات الأجرة. وقد تلاشت إمكانية الحصول على لقمة العيش تلك، عندما أغلقت الحدود، عقب اندلاع الانتفاضة الثانية في خريف 2000.

وعلى أثر فوز حركة حماس الإسلامية في الانتخابات، في بداية 2006، وقعت قطاعات التجارة والصناعة المحلية التي كانت مزدهرة في غزة، كالزراعة والغزل والنسيج وصناعة الأثاث وغيرها من الصناعات الحرفية، وقعت كلها تحت الحصار الاقتصادي والسياسي الخانق، من قبل العالم الخارجي.

وعندما استولت حماس على السلطة في غزة صيف 2007، شددت إسرائيل الحصار، ومنعت دخول المواد الخام وتصدير المنتوجات. وتم تقريبا الإجهاز الكامل على التجارة والصناعة المحلية وفقد آلاف البشر أعمالهم. والآن بات أكثر من نصف الرجال البالغين عاطلين عن العمل، وثمانون في المائة من السكان معتمدين في بقائهم، على المعونة الضرورية.

وقد ازداد نمو القوى المحافظة المتدينة التي أصبحت أكثر قوة مع طول أمد الاحتلال الإسرائيلي وبهذا تفاقمت عزلة غزة خلال العقود الأخيرة. ففي الثمانينيات كان عدد قليل من النساء يرتدي الحجاب، وكان بعض النسوة المسنات يغطين رؤوسهن بشال من الشاش الأبيض يوضع محلولا على الرأس، وبعضهن الآخر يعقدنه حول شعورهن عندما يخرجن من البيت، ولكن نساء كثيرات كن يخرجن سافرات.

واليوم لا يرى في شوارع غزة الصاخبة سوى قلة نادرة من النساء السافرات، حتى أن كثيرات منهن يلجأن إلى إخفاء شكل أجسامهن وراء معاطف أو ثياب واسعة تصل إلى أقدامهن. بل وحتى المسيحيات من نساء غزة، ولم يبق فيها منهن سوى القليل، غالبا ما يرتدين الحجاب خارج المنزل، تفاديا لسماع التعليقات الجارحة. بعض النساء أيضا يرتدين النقاب، وهو حجاب يغطي كل الوجه ما عدا العينين.

بعد ظهر أحد الأيام، وكان يوم جمعة في الأرجح، لأن صبحية بقيت يومها في المنزل ولم تذهب إلى العمل، جاء لزيارة عائلة بيت الأشقر، عدد من نساء الجيران، ليتعرفن إلى المرأة الغريبة التي يستضيفونها.

جلسنا في حلقة داخل الفناء، في مقدمة المنزل، واضطلعت صبحية بدور المترجم. بادرتني بالترحيب، بطريقة تقليدية، امرأة مسنة ترتدي فستانا مطرزا، أسود اللون وعلى شعرها شال أبيض، ثم شرعت في استجوابي بصورة لطيفة ومباشرة، بينما أرهفت بقية النساء السمع باهتمام.

– هل عندك أطفال؟ هذا كان مغزى سؤالها الأول. غالبا ما يكون هذا هو أول سؤال تتلقاه المرأة الأجنبية في العالم العربي، وقد واجهته عددا لا يحصى من المرات خلال محادثاتي مع نساء في شمال أفريقيا والشرق الأوسط على حد سواء.

– نعم، ولد وبنت. وكانت النسوة تهز رؤوسهن بود واطمئنان عند سماعهن لهذا الجواب؛ وعندها أُصبحُ امرأة طبيعية رغم غرابة مظهري.

– وأنت متزوجة؟

ومرة أخرى أرد بالإيجاب، مع أن هذا لم يكن صحيحا تماما، فقد كنت مطلقة وأعيش مع رجل جديد، لكنني كنت أعرف أن هذه مسألة معقدة، يتعذر شرحها.

– أين يوجد أطفالك وأنت هنا؟

– في البيت مع أبيهم.

وجهت المرأة المسنة نظرها إلي، ثم حولت عينيها وذراعيها إلى السماء وقالت:

– الله يحميهم! ألا تشعرين بالقلق لأنك تركتهم وحيدين هكذا؟

أطلقت بقية النساء ضحكة خفيفة، لكنهن عدن إلى سمة الجد عندما أوضحت لهن أن الأطفال مستمتعون بصحبة والدهم وبأنني واثقة من أنه يوفر لهم الرعاية الكاملة.

وبينما كن مستغرقات في مناقشة المسألة فيما بينهن، جلست العجوز صامتة وهي تنظر إلي. ثم أخذت تنزع عنها حليها الذهبية، الأساور والعقد والأقراط ووضعتها فوق موضع الركبة من تنورتها. بعدها وضعت الحمولة الذهبية كلها فوق ركبتي وسألتني باعتزاز إذا كنت أستطيع تقدير وزنها. نصف كيلو على الأقل، قلت لها. ثم سألتني:

– طيب، وأنت أين ذهبك؟ هل تركته في البيت أيضا؟

– لا، أنا لا أستعمل الكثير من الحلي، ليس لدي سوى بضع خواتم صغيرة وأسورة ذهبية، قلت وأنا أتفرج على ثروتها البراقة.

– ولكن ألم يشتر لك زوجك شيئا من الحلي؟ أهو فقير أم بخيل؟

لا هذه ولا تلك، أكدت لها محاولة توضيح أن العائلات في بلادنا تستخدم نقودها في أشياء أخرى غير الحلي، في شراء المنازل والسيارات والإنفاق على الرحلات على سبيل المثال. نظرت إلي العجوز نظرة فضولية مرتابة وأخذت تسترد حليها بهدوء.

ثم قالت بابتسامة كبيرة كشفت وجود عدة فجوات في صف أسنانها:

– لكن هذا حلو، أليس كذلك؟ أرجو أن تحبي غزة.

– أنا أحبها فعلا، أجبتها، دون أن أعرف أن مشاعري هذه سوف تزداد عمقا بمرور الوقت.

ذات يوم انطلقنا جنوبا صوب الحدود مع صحراء سيناء التي كانت إسرائيل تتجهز لإخلائها، بموجب اتفاقية السلام المعقودة مع مصر، بعد مرور خمسة عشر عاما على احتلالها. وشُرع بإنشاء سياج حدودي جديد على طول الحدود الجنوبية مع قطاع غزة. وفضلا عن العدد الكبير من الجنود الإسرائيليين، واجهتنا مجموعة عدائية من الشبان الغاضبين، الذين أخذوا يطلقون صيحاتهم نحونا بلكنة أمريكية، طالبين منا مغادرة المكان. لم أفهم سر عدوانيتهم تلك إلا لاحقا، فهم من المستعمرة الإسرائيلية ياميت التي أقيمت فوق أرض سيناء، والتي يجري إخلاؤها بالرغم من المعارضة الشديدة من جانب هؤلاء المستعمرين.

شهد العام 1982 وجودا دائما للجيش الإسرائيلي في غزة، بمراكز حراسة مسيجة بالأسلاك الشائكة ومنتشرة في جميع المناطق، من مخيمات اللاجئين إلى المدن والقرى. كان الجنود يجولون طيلة الوقت في الطرقات على أقدامهم أو بعربات الجيب، وكانوا على الدوام معرضين لقذف الحجارة من الأولاد على اختلاف أعمارهم.

في ظهيرة أحد الأيام، قبيل عودتي إلى القدس، ذهبت بصحبة صبري وسليمان وأصدقاء آخرين، في نزهة وداعية. عرجنا أولاً على جزار الحي واشترينا شيئاً من لحم الضأن. كانت أسراب الذباب تحوم حول الذبائح المعلقة بخطاطيف في محل الجزارة الصغير المفتوح على الشارع. كش الجزار بسكينه الذباب دون مبالاة وقطع لنا قطعة من اللحم.

مضينا إلى بيارة برتقال على أطراف المدينة، وأوقد الرجال النار بين الشجر الذي ناءت أغصانه بالثمار الناضجة. وبينما كان الشواء ينضج فوق النار، رحنا نجهز المائدة بالخبز والمشروبات الغازية والخضروات، وقطفنا للتحلية حبات أنضجتها الشمس من ثمار البرتقال. كان الهواء مشبعاً بعبير أزهار البرتقال النضرة.

حضر هشام ومساعده إلى النزل ليأخذاني بحسب الاتفاق، على أن نعرج في طريقنا لتناول الغداء لدى عائلة الأشقر، على الأحياء التي ما تزال على حالها من الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على غزة في شتاء 2009.

لم أسترد انتباهي إلا عندما وصلنا إلى ذلك الركن من شارع بغداد حيث تقيم عائلة الأشقر.

ركنا السيارة في ظلال شجرة متوهجة، بالأزهار الحمراء النارية الدانية من التفتح.

لكن ما رأيته وأنا واقفة أمام البوابة الحديدية الزرقاء المطلة على الشارع لم يكن متوافقا مع الصورة التي تحتفظ بها ذاكرتي. فبدلاً من الفناء الصغير والمنزل المستطيل المنخفض السقف، وجدت أمامي منزلاً جديداً من ثلاثة طوابق.

في الطابق العلوي يسكن صلاح وزوجته زكية وأطفالهما الخمسة. وهذه كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بزوجة سليمان الثانية مريم، التي رحبت بي بقبلة على كل خد. وكانت زوجته الأولى صبحية قد قضت في حادث سيارة سنة 1987، وهي في طريقها إلى عملها، وبعد ستة شهور من وفاتها تزوج سليمان من ابنة عمه مريم.

– لقد ساعدتني في العناية بالأطفال، وربتهم تربية صالحة، قال سليمان موضحاً ونحن نجلس في الصالون المؤثث بكنبات وأرائك فسيحة.

فيما كنا نبترد بعصير البرتقال الطازج، راح سليمان يلخص لي ما حدث خلال السبعة والعشرين عاما التي مرت على لقائنا الأخير. لقد أنهى عمله في مصنع الأسلاك الشائكة، وبدلا من ذلك بدأ يعمل في تصريف العملات في غزة. وكان رأسماله الأساسي هو المبلغ التقاعدي الذي حصل عليه من رب العمل الإسرائيلي. كان تصريف العملات يوفر دخلا كافيا لإعالة الأسرة التي التحق بها خمسة أطفال آخرين. وعندما رحلت زوجته عرضت الأونروا على سليمان وظيفة، نوعا من التعويض. وقد بقي في الوظيفة إلى أن تقاعد حين بلغ الستين من عمره، قبل خمسة أعوام. وقد استخدم المبلغ التقاعدي الذي حصل عليه من الأونروا، فأزال المنزل القديم الذي حللت به في زيارتي الأولى. وبعد ثلاثة أشهر أصبح المنزل الجديد جاهزا، بمساعدة الأقارب العاملين في قطاع البناء.

بينما كان سليمان يحدثني، عكفت مريم وزكية على تحضير طعام الغداء في المطبخ، أنواع عديدة من السمك المقلي، وصحون من السلطات البديعة. لكنهما لم يشاركا في الطعام، فالمائدة أعدت لي ولأربعة من الرجال.

بعد الأكل وعندما فرغت المرأتان من أعمال المطبخ، جلسنا على الأرآئك الفسيحة وحضرت فناجين القهوة الصغيرة مع طبق البقلاوة. سألت سليمان عن عمله السابق في مصنع الأسلاك الشائكة الإسرائيلي وحدثته عن الأفكار التي راودتني عندما التقيت به قبل سبعة وعشرين عاما، وكيف كان من الصعب علي أن أفهم كيف استطاع العمل في إنتاج شيء بدا جليا أنه يعود بالضرر على شعبه.

– لم يكن هذا واضحا لنا حينها، بدأ سليمان يشرح لي: كنا نحسب أن الأسلاك الشائكة تنتج لغرض التصدير، خصوصا أن المصنع كان في ذلك الوقت قبلة لكثير من رجال الأعمال الأجانب، من الهند وغيرها. لكن عندما أخذ الاحتلال في تشديد قبضته، بدأ يتجلى لنا نحن العمال الهدف الذي تستخدم الأسلاك الشائكة من أجل تحقيقه، ولهذا قررت أن أنهي عملي هناك.

لكن ابن عمه هشام عقب بقوله إن على الإنسان أن يفرق بين مشاعره وبين ضرورات العيش الأساسية:

– كان العمل داخل إسرائيل هو السبيل الوحيدة لكسب العيش في ذلك الوقت. لم يكن أمام الناس خيار آخر، لم يكن بمقدورهم أن يفكروا كثيرا حول مضمون عملهم. ومن السخرية المرة أن تلك الأيام باتت اليوم في عيون الكثيرين حلما عذبا، يتمنون أن يعود.

حتى أطفال المدارس كانوا وقتها قادرين على العمل في إسرائيل أيام العطل وفي الإجازة الصيفية، ليساهموا في إعالة أسرهم.

تحدث سليمان عن أوقات عمله في إسرائيل بعبارات إيجابية، الراتب وشروط العمل كانت جيدة، وتحدث عن روح الزمالة والعلاقة برب العمل:

– استمر التواصل بيننا طويلا بعد أن أنهيت عملي، كنا نتصل هاتفيا بين وقت وآخر، ولكن مرت سنوات طويلة على اتصالنا الأخير، ثم إنني نسيت معظم ما تعلمته من اللغة العبرية.

وعندما سألته عن أكبر التغيرات التي طرأت على غزة خلال سني حياته التي تربو على الستين أجابني فورا:

– سرعة تردي الأوضاع الاقتصادية. لقد أدى الحصار الاقتصادي إلى انهيار كل المجتمع. من العسير الآن إيجاد أي عمل في غزة مهما كان بسيطا. الأوضاع باتت الآن أسوأ مما كانت عليه سنة 1948، عندما تدفق إلى غزة آلاف اللاجئين من فلسطين المحتلة.

إن الهجوم الإسرائيلي الأخير الذي دمر عدة أحياء داخل مدينة غزة، قد ترك حي الشجاعية القديم، إلى حد ما، دون إصابة. فقد اقتصر القصف على مركز للشرطة ومنزل مجاور له. في تلك الأثناء لزمت عائلة الأشقر منزلها معظم الوقت مترقبة نهاية الحرب. كان من الصعب الحصول على الطعام والوقود، وكان البرد يتسلل إلى المنزل كلما انقطعت الكهرباء.

– غير اننا تدبرنا أمرنا بصورة لا بأس بها، لم يصب أحد من الأسرة بأذى، قال سليمان، بينما صلاح يقدم لي سيجارة.

وعلى أثر تناولي لها، انطلق نقاش حيوي:

– النساء عندنا لا يدخن، قالت زوجة صلاح، وهزت الحماة رأسها مؤكدة.

– بلى، هن يفعلن هذا بالتأكيد، قال صلاح. لكن ليس في الشارع ولا في البيت، هناك عدد من زميلاتي في العمل يدخن داخل موقع العمل، دون علم أزواجهن.

لكن المرأتان أصرتا على أن ذلك يظل أمرا غير معتاد، على أية حال.

خلال حديثنا جلس بعض الأطفال وراحوا ينقرون على حاسوب كان ملقى فوق إحدى الترابيزات الموجودة قرب الأريكة. حدثنا صلاح عن أن لكل طفل من أطفاله بريده الإلكتروني وأنهم بارعون جدا في استخدام الحاسوب.

– يلعب الحاسوب دورا مهما بالنسبة لنا في غزة، فهو يوفر لنا المعرفة والتواصل مع العالم الخارجي، في آن معا، لا سيما للشبان الذين يعني الحاسوب لهم طريقة مهمة في تزجية الوقت، وقناة تواصل مع العالم الخارجي الذي انعزلنا عنه بسبب الحصار. وهناك أشخاص كثيرون من كبار السن تعلموا استخدام الحاسوب، حتى أن بعض الأميين تعلموا القراءة بمساعدة الحاسوب، قال سليمان بينما كان الصغار يتسلقون ركبتيه صعودا وهبوطا.

يوجد الآن نحو أربعمائة من أفراد عائلة الأشقر في غزة، وقد أمضى عبد الرؤوف، ابن عم سليمان سنوات طويلة في جمع الوثائق العائلية، من صور وقصص حياتية ومقابلات مسجلة بالفيديو وخصوصا مع كبار السن في العائلة. وقد تمكن في السنة الماضية من ابتكار شجرة إلكترونيه للعائلة، قام بإنجازها وحده تقريبا، تضم صورا وبيانات شخصية لكل فرد من أفراد العائلة. ويمكن للمرء أن ينقر أسفل بعض تلك الصور الشخصية التي تعد بالمئات، والتي تنتشر فوق قمة شجرة العائلة الإلكترونية، ليشاهد المقابلات المسجلة بالفيديو.

ويكرس عبد الرؤوف، وهو متقاعد أيضا، تماما كسليمان، جانبا كبيرا من وقته للبحث في تاريخ العائلة. وتغطي مادة بحثه الزمن الممتد من 1948، حين أرغمت عائلة الأشقر على مغادرة قريتها زرنوقة الواقعة على مقربة من رحوبوت، في إسرائيل الحالية، وحتى الوقت الحاضر. لكنه ما زال يفتقر إلى صور ومعلومات توثيقية للعديد من أفراد العائلة المشتتين في أنحاء العالم. فهو لم يلتق بكثيرين منهم لسنوات طويلة، أما الصغار فلم تقع عينه عليهم قط، فهو كغالبية أبناء غزة، عاجز عن السفر وممنوع من استقبال الزوار القادمين من البلدان الأخرى. لكنه يحافظ على الاتصال بهم على الشبكة العنكبوتية، ويأمل أن يكون قادرا بنفس الطريقة، أيضاً، على عرض شجرة العائلة الالكترونية أمامهم عندما تصير جاهزة.

وقبيل العصر وصلت واحدة من معارفي القدامى، هي خلود ابنة سليمان، التي أتذكرها أكثر من أي شخص آخر في زيارتي الأولى لعائلة الأشقر. وقتها كانت في الثانية عشرة من عمرها، وكانت تهتم بتفاصيل عملي بفضول كبير. وها هي الآن على أبواب الأربعين، حبلى بالبطن السابع، لكن فضولها القديم لم يفارق نظرة عينيها وهي تسألني إن كنت راغبة في الذهاب معها إلى بيتها. تمشينا لمدة عشر دقائق عبر شوارع صغيرة مليئة بالنفايات، تصطف على جانبيها بيوت متداعية. وكانت خمس من شقيقاتها يقمن في تلك النواحي من المنطقة ذاتها.

كانت خلود متزوجة من قبل وقد أقامت لمدة قصيرة في مدينة اوبسالا، وهي ما تزال تعرف بضع كلمات سويدية. لكن زواجها لم يستمر فغادرت اوبسالا وعادت الى غزة، وهناك تزوجت مرة أخرى بابن عمها يوسف.

منذ عشر سنوات والزوج بلا عمل، والأسرة في حالة من العوز الشديد. يتكون بيتهم من غرفتين باردتين، خاليتين من الأثاث ووسائل الراحة الأخرى. وأما الفناء الصغير فيتقاسمونه مع عائلات أخرى فقيرة مثلهم.

– من الصعب الحياة بهذه الطريقة، أن تظل قلقا كل يوم وأنت تفكر في طريقة لتدبير الطعام للأطفال، قالت خلود وهي تحضر بعض الكراسي البلاستيكية المهترئة استعدادا لتقديم الشاي في الفناء.

– الكلاب ترقد لتنام ثم تصحو وتنهض لتجد طعامها، قال شقيقها صلاح. لكن الإنسان لا يكفيه أن يأكل ليبقى على قيد الحياة يوما بيوم، هذه حياة لا تليق بكرامة الإنسان.

والان يرتب يوسف محاولة للذهاب إلى ألمانيا، فله فيها أخ وابن عم، ولعله يجد عملا هناك. خلود قلقة من فكرة سفره تلك، لكن شقيقها يقول إن عليها أن تتحلى بالشجاعة وأن تكون قوية، فهذه قد تكون فرصتهم للحصول على حياة أفضل. كان يوسف بادي التجهم ولم ينطق بكلمة.

بعد سنة من زيارتي لخلود علمت بأن طلب التأشيرة الألمانية الذي قدمه يوسف قد رفض، وأن وضع الأسرة لم يزل بالغ الصعوبة، فيوسف لم يفلح خلال ذلك الوقت، في الحصول على عمل إلا لأسابيع قليلة. وقد لجأت خلود إلى شقيقها صلاح، حتى تحصل الأسرة على كفاف يومها.

لم يكن بمقدور أخيها صلاح ولا أبيها سليمان القيام بإعالة خلود وأسرتها بصورة دائمة. فهما بالكاد قادران على إعالة أسرتيهما الكبيرتين، كما أن التقاليد ترى أن رب العائلة مسؤول عن إعالة زوجته وأطفاله. وإعفاء يوسف من هذه المسؤولية هو انتقاص من قدره بوصفه رأس الأسرة.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف. ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.