السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو – سياسية (الجزء الثامن)، مسعد عربيد

  • تقسيم فلسطين في لعبة القوى العظمى

انتقال الصهيونية إلى أحضان الإمبريالية الأميركية

دخلت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها المسرح الدولي الذي كان يشهد ملامح تكوّن نظام عالمي جديد تبلور في أعقاب تلك الحرب. وقد أعطى هذا التطور المشروع الاستيطاني الصهيوني والمسألة الفلسطينية أبعاداً جديدة، إذ توافق مع تغيّر في سياسة الولايات المتحدة التي أخذت تولى اهتماماً كبيراً لمنطقة المشرق العربي (التي تُسمى في الخطاب الغربي “الشرق الأوسط” و”شرق البحر الأبيض المتوسط”)، بعد أن كانت تعتبرها من مسؤولية بريطانيا.

من العوامل والمتغيرات الهامة التي شهدتها تلك الفترة والتي أسهمت في صياغة الموقف الأميركي في دعم المشروع الاستيطاني الصهيوني من ناحية، وانتقال الحركة الصهيونية وأنشطتها إلى الولايات المتحدة من ناحية ثانية، كان العاملان التاليان:

1) برنامج بـِلتمور

2) تعاظم دور الصهيونية والجالية اليهودية في الولايات المتحدة.

(1)

مؤتمر بـِلتمور

‏عقدت الحركة الصهيونية مؤتمراً في فندق بـِلتمور في نيويورك في مايو 1942 (يطلق عيه اسم مؤتمر أو برنامج بـِلتمور). وتكمن أهميته هذا البرنامج في أنه بلّور بوضوح معلن هدف الصهيونية بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وحسم انتقال الحركة الصهيونية من الاعتماد على الإمبريالية البريطانية إلى الإمبريالية الأمريكية. كما أسهم هذا المؤتمر وبرنامجه في تحديد الموقف الأميركي من قرار التقسيم وفي تعاظم تأثير ودور الحركة الصهيونية والجالية اليهودية في سياسة الولايات المتحدة حيال الأهداف الصهيونية.

في نوفمبر 1942، صادق المجلس الصهيوني الضيق على برنامج بـِلتمور، كما أقرته الوكالة اليهودية وأكثرية الأحزاب في فلسطين. وكان من نتائج المصادقة على برنامج بـِلتمور على مستوى قيادة الحركة الصهيونية أن وضَعَ بن غوريون في مكان القيادة بدل ڤايتسمان وعمّق الشقة بين الوكالة اليهودية وبريطانيا.[1]

(2)

تعاظم دور الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة

ازداد نشاط الحركة الصهيونية ونفوذ الجالية اليهودية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، كونها أكبر وأغنى طائفة يهودية في إطار الحركة الصهيونية، خاصة وأن أوضاع الطوائف اليهودية في أوروبا تدهورت نتيجة المحرقة النازية. وكان هذا من العوامل الهامة التي أثرت في صياغة الموقف الأميركي من قرار تقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية فيها.

وقد تجلى النفوذ الصهيوني في أربعينيات القرن العشرين بازدياد التأييد الأميركي للحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين، وشهدت تلك الفترة العديد من أنشطة الشيوخ والنواب في الكونجرس الأمريكي في دعم المطالب الصهيونية. ففي عام 1944 تقدم عدد كبير من الشيوخ والنواب في الكونجرس الأمريكي بمشروع قرار يدعو إلى إقامة الدولة اليهودية وهجرة يهودية غير محدودة إلى فلسطين. وفي معركة انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة في خريف 1944، نشر الشيخ (سيناتور) واغنر نص رسالة كتبها الرئيس الأمريكي روزفلت وأعلن فيها “تأييد فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية غير محدودة واستيطان كولونيالي يؤدي إلى إقامة دولة يهودية ديمقراطية وحرة في فلسطين”.[2]

النفاق الأميركي: دولة يهودية … وسيطرة على منابع النفط

مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، جمع مؤتمر يالطا (4-11 فبراير 1945) الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع زعيمي الاتحاد السوفييتي وبريطانيا: جوزيف ستالين وونستن تشرشل. وبعد اختتام هذا المؤتمر وفي طريق عودته إلى الولايات المتحدة، التقى الرئيس الأميركي روزفلت في 14 فبراير 1945 بالملك بن سعود على متن سفينة يو إس كوينسي USS Quincy التي كانت راسية في قناة السويس، وأبرما اتفاقية سرية توفر بموجبها الولايات المتحدة الأمن العسكري للمملكة العربية السعودية (مساعدات عسكرية وتدريب وقاعدة عسكرية في الظهران) مقابل تأمين الوصول إلى مواقع النفط وإمداداته والسيطرة عليها. وقد كانت فلسطين ومستقبلها حاضرة في هذا اللقاء حيث أعرب الملك السعودي عن تعاطفه مع محنة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية، ولكنه قال إن إقامة وطن لليهود في فلسطين سيكون غير عادل للفلسطينيين. وفي الرد قال روزفلت في رسالة لاحقة إنه “لن أتخذ أي إجراء قد يكون معادياً للشعب العربي”. وقد تجلت ازدواجية السياسة الإمبريالية الأميركية ونفاقها في لقاءات الرئيس روزفلت مع القادة الصهاينة في الولايات المتحدة حيث كان يؤكد لهم أنه يشاركهم في هدفهم إقامة الدولة اليهودية، وفي الوقت ذاته كان يعد ابن سعود ملك السعودية بأن لن يقوم بأي إجراء يضر بالقضية العربية.[3] وجدير بالذكر هنا، أن الهجرة اليهودية غير المقيدة إلى فلسطين شكّلت العمود الفقري لمقومات الدولة اليهودية، وهو ما ركزت عليه السياسية الصهيونية جلّ جهودها في تلك المرحلة.

في هذا الصدد تجدر بنا العودة إلى عام 1942 خلال أتون الحرب العالمية الثانية وإلى ما رواه حاييم ڤايتسمان في كتابه “التجربة والخطأ”، والذي يؤكد المخططات الإمبريالية في فلسطين وتواطؤ الأنظمة العربية العميلة معها، حيث قال إن تشرتشل استدعاه في 11 مارس 1942 وقال له “أريد أن تعرف أن لدي خطة يمكن أن توضع موضع التنفيذ بعد الحرب. أود أن أرى ابن سعود سيد الشرق الاوسط أي سيد الأسياد على شرط أن يتفق معكم، ويعتمد عليكم أن تحصلوا على أفضل الشروط بالاتفاق معه … وسنساعدكم طبعاً. احتفظ بهذا سراً ولكنك تستطيع أن تتحدث مع روزفلت حين تذهب إلى أمريكا. لا شيء لا نستطيع تحقيقه إذا صممنا أنا وهو سوياً عليه”.[4]

خلاصة القول، إذن، أن الإمبريالية الأميركية أدركت أهمية قيام الدولة الصهيونية في فلسطين في خدمة مشاريعها ومصالحها، ولهذا رمت بثقلها في جهود توسيع الاستيطان الصهيوني وقيام تلك الدولة. ومن هنا كان تصويتها لصالح قرار التقسيم كمقدمة لبناء الدولة اليهودية. ولكنها حرصت، في الآن ذاته، على إرساء علاقتها مع المملكة السعودية على أساس ضمان السيطرة على منابع النفط، من ناحية، وارتباط هذا النظام بالتبعية للولايات المتحدة التي توفر له الحماية وتحافظ على أمنه وبقائه. وهكذا اخذ الصراع مع الصهيونية بعداً جديداً، إذ لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية المتخلفة آنذاك، ولا الأنظمة العميلة والتابعة والعاجزة أن تدركه او تعطيه أهمية.[5]

الموقف السوفييتي من المنظور الأميركي

قبل خطاب أندريه غروميكو في الأمم المتحدة (مايو 1947)، واتضاح الموقف السوفييتي من تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية على أرضها، كان موقف الإمبريالية الأميركية (مؤسسات صنع القرار فيها: مثل وزارة الخارجية الأميركية، مجلس الأمن القومي، وزارة الدفاع (، يتمحور، كما تشير بعض التحليلات، حول الاحتمالات والتوقعات التالية:

أ) كانت الولايات المتحدة تراهن على أن الاتحاد السوفييتي سوف يعارض تشكيل دولة يهودية في فلسطين أو جزء منها، لأن السوفييت يعتبرون الصهيونية أداة للغرب وستكون هذه الدولة معادية للاتحاد السوفيتي؛ ولأن السوفييت، كما قدّر الأميركيون يفضلون استقلال فلسطين بأغلبية سكانها العرب الحاليين. وفي هذه الحالة ستصوت الولايات المتحدة لصالح قرار التقسيم.

ب) أمّا إذا أيد الاتحاد السوفييتي قرار التقسيم، فسيكون غرضه من ذلك، وفق التوقعات الأميركية، خلق حالة من الاضطراب والفوضى قد تؤدي إلى حرب يستغلها السوفييت لصالحهم، لأن زرع الفتنة والخلاف في البلدان غير الشيوعية، كما رأى الأميركيون، يلائم الأهداف السوفيتية ويسهل استغلال الأوضاع الناتجة عن ذلك في خدمة المصالح السوفييتية وتوسيع نفوذها.

من ناحية أخرى، يرى بعض المحللين أن تأييد الاتحاد السوفييتي لقرار التقسيم والاعتراف بالكيان الصهيوني، من منظور الحسابات السوفييتية، كان يهدف إلى إحداث شرخ في العلاقات الأميركية – العربية في فلسطين: فمن الجانب السوفييتي لم هناك ما يخسروه لأنهم لا يملكون شيئاً، على عكس الولايات المتحدة التي ستخسر الكثير مع حلفائها العرب من جرّاء دعمها للكيان الصهيوني.[6]

هناك أيضاً بعض التحليلات التي تعمل على إثارة الشكوك حول طبيعة وحقيقة الموقف الأميركي من الكيان الصهيوني والاعتراف به، والترويج لمقولة إن الاعتراف الأميركي بهذا الكيان كان مدفوعاً بالمخاوف من أن الاتحاد السوفيتي قد يفعل ذلك أولاً. وليس هناك من شك بأن الإمبريالية الأميركية كانت ترصد بحذر وخشية مواقف وتحركات الاتحاد السوفييتي ودوره في المشرق العربي والمسرح العالمي بأسره، ولكن الحقيقة، التي لا يرقَ إليها الشك، أن موقف الإمبريالية الأميركية كان دائماً وتاريخياً داعماً للمشروع الصهيوني كقاعدة إمبريالية متقدمة في المشرق العربي وكمدخل للهيمنة على الوطن العربي وثرواته. ولتعزيز هذه المقولة (أي أن الموقف الأميركي جاء رداً استباقياً على الموقف السوفييتي المتوقع) يشير أصحابها إلى إنه خلال الاجتماع الذي قرر فيه الرئيس الأميركي ترومان الاعتراف بالكيان الصهيوني، قدم مستشار البيت الأبيض كلارك كليفورد حجة مفادها أنه من خلال الاعتراف بإسرائيل يمكن للولايات المتحدة أن تسبق الاتحاد السوفييتي.[7]

الموقف الأميركي بعد صدور على قرار التقسيم

في حين ظلّ الاتحاد السوفييتي على دعمه لقرار التقسيم، أخذت الولايات المتحدة (التي صوتت لصالح هذا القرار) تتراجع عن فكرة التقسيم وأعلنت استحالة تنفيذه واقترحت وصاية دولية “مؤقتة” (بإشراف الأمم المتحدة) على فلسطين بدلاً من تقسيمها. ففي 19 مارس 1948، أعلن ممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة وارن أوستن أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن موقف الولايات المتحدة هو أن تقسيم فلسطين لم يعد خياراً قابلاً للتطبيق. وفي اليوم التالي (20 مارس 1948) أعلن وزير الخارجية الأميركية جورج مارشال أن الولايات المتحدة ستسعى للعمل داخل الأمم المتحدة لتحقيق تسوية سلمية لفلسطين، وأن اقتراح وصاية الأمم المتحدة المؤقتة على فلسطين هو الفكرة الوحيدة التي يتم النظر فيها حالياً. وقد جاء الرد السوفييتي، الذي أكد دعمه لقرار التقسيم، على لسان غروميكو الذي هاجم بتاريخ 20 أبريل 1948، الاقتراح الأمريكي البديل الذي يدعو إلى وصاية الأمم المتحدة على فلسطين باعتبارها فكرة من شأنها أن تضع فلسطين “في حالة من العبودية الاستعمارية الفعلية”، وكرر (غروميكو) أنه فقط تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، عربية ويهودية، من شأنه أن “يرضي التطلعات المشروعة للشعب اليهودي، الذي عانى الكثير في ظل نظام هتلر”، محذراً من مغبة التصويت على الوصاية الدولية على فلسطين، وأنه إذا ما تم التصويت لصالحها، فإن الاتحاد السوفيتي سيصوت بـ “لا” [8] وسيعارض موقف الولايات المتحدة التي اعتبرت الإشراف الدولي على فلسطين الطريقة الوحيدة للحل.[9]

“إسرائيل تنزلق” نحو أميركا!

أكد حاييم ڤايتسمان، بعد تنصيبه كرئيس للكيان الصهيوني (من فبراير 1949 حتى وفاته عام 1952)، لجيمس ماكدونالد، أول سفير للولايات المتحدة، أن “شعبنا ديمقراطي ويدرك أنه فقط من خلال تعاون ودعم الولايات المتحدة يمكن أن يصبحوا أقوياء ويبقون أحراراً”. أمّا بن غوريون، فأكد في كلمة ترحيبه بهذا السفير، على موقف الكيان الصهيوني من الاتحاد السوفييتي قائلاً إن “إسرائيل” ترحب بالدعم الروسي، لكنها لن تقبل هيمنة سوفيتية. إسرائيل ليست غربية في توجهها فقط، بل شعبنا ديمقراطي ويدرك أنه لا يمكن أن يصبح قوياً وأن يبقى حراً إلا من خلال التعاون مع الولايات المتحدة”.[10] وفي تأكيده على الموقف الصهيوني، كتب ماكدونالد أنه: “عندما اضطرت إسرائيل إلى اتخاذ خيارها، كان هذا الخيار دائماً تقريباً مؤيداً للغرب”.

أمّا ما يستدعي الاستغراب حقاً، فكان ما قاله بافيل يرشوف، السفير الأول للاتحاد السوفييتي لدى للكيان الصهيوني، الذي وافق على هذا الرأي معرباً عن أسفه لأن “إسرائيل” أخذت “تنزلق أكثر فأكثر نحو الموقف الأمريكي” و “قد تستسلم تمامًا للأمريكيين، لتصبح أداة لتحقيق خططهم التوسعية”.[11] يبدو وكأن هذا السفير، الذي كان الممثل الأول للاتحاد السوفييتي لدى الكيان الصهيونية بعد قيامه عام 1948، قد استفاق فجأة ليرى في هذا “الانزلاق” الصهيوني كان أمراً غير متوقع، وهو ما يشير إلى خلل في فهم الصهيونية ومشروعها في فلسطين، من ناحية، والارتباط العضوي للكيان الصهيوني بالإمبريالية وكونه أداةً لخدمة مصالحها في الوطن العربي.

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….


[1] إميل توما، “جذور القضية الفلسطينية”، ص 288-289.

[2] إميل توما، المرجع السابق، ص 288.

[3] إميل توما، المرجع السابق، ص 289.

[4] إميل توما، المرجع السابق، ص 301.

[5] ناجي علوش، “الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية 1882- 1848″، ص 291.

[6] عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، المجلد (3)، ص 173.

[7] مقال Martin Kramer: “Who Saved Israel in 1947?

[8] مقال Martin Kramer في المرجع السابق.

[9] مقال “ستالين: بين دعم إسرائيل وقمع اليهود” لدومينيك فيدال.

[10]مقال Martin Kramer في المرجع السابق.

[11] للاستفاضة راجع:

1) U.S. Administration on the Partition of Palestine: Timeline of Events, 9 September 2013

2) The Question of Palestine, UN website, https://www.un.org/unispal/history/