نشرة “كنعان”،9 ابريل 2023

السنة الثالثة والعشرون – العدد 6516

في هذا العدد:

ما كل نووي يتفكك ذاتياً، عادل سماره

تونس في مُفْتَتَح سنة 2023، الطاهر المعز

✺ ✺ ✺

ما كل نووي يتفكك ذاتياً

عادل سماره

لم يتفكك الاتحاد السوفييتي لعوامل ذاتية بحتة بل بديالكتيك تراجعي أو هابط تواشجت فيه عوامل ذاتية وعوامل خارجية لنسمي الخارجية النظام الرأسمالي العالمي. صحيح أن الغرب لم يهاجم السوفييت حربياً، لكن حاصره اقتصاديا وبمساعدة توابع الغرب وخاصة السعودية. هل سيأتي يوم تفعلها دول النفط العربية ضد الغرب والكيان، هذا سؤال أكبر من التكهنات.

فهل هذا النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي مرشح لتفكيك أو ترك الكيان وشأنه؟ أو للضغط عليه كي يصل إلى حل وسط مثل جنوب إفريقيا؟ ربما لا هذه ولا ذاك ولا تلك.

بل إن الهرم هنا معكوس بمعنى أن انهيار الإمبريالية في الوطن العربي هو بوابة التخلي الاضطراري عن الكيان، أي العجز عن مواصلة حماية الكيان. أما النووي، فإن امتلاكه لا يقود إلى صدام نووي بين الكيان وأي بلد نووي سواء عربي أو إيراني. فالنووي، حتى اليوم على الأقل، هو صمام أمان أكثر منه باب صراع مميت.

ولكن، كيف تخرج أو تضعف الإمبريالية في وطننا؟ هل يحصل هذا ذاتياً وطوعاً أو طبقاً لرغائبنا؟ هذا مع العلم أن الإمبريالية لا تُخلي شبرا دون هزيمة لها.

ومن الذي يهزم الإمبريالية أو الذي مهمته هذه؟

لعل الجواب: هو ضحيتها.

فتفكيك الوطن العربي هو المدخل الذي من خلاله جرى إيلاج الكيان في فلسطين، وإصرار الغرب الإمبريالي والكيان على احتجاز أي نهوض عربي هو ضمانة بقاء الكيان حتى حينه.

هذا يعني أن اي معركة مع الكيان هي عروبية مع الإمبريالية دائما.

والسؤال: هل نحن في هذا الوضع اي الصدام مع العدو المزدوج؟

بمعزل عن دور ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة، لسنا في الموقف المطلوب.

بل بمقدار وجود ا.ل.م.ق.ا.و.م.ة هناك الدور السلبي للأنظمة العربية التي:

* طبقت سياسات تجويف الوعي لتجريف الثروة

* تورطت في التطبيع مع الكيان.

* وتقوم بدور الإمبريالية في أقطارها نيابة عن الإمبريالية وخدمة لنفس الإمبريالية.

لا يرى هذا كثير من المتحمسين للهدنة الإيرانية السعودية.

لهم شأنهم، ولكن لننظر إلى أن اشتداد التناقض داخل الكيان يتمتع بتغطية هشاشة الواقع العربي الرسمي المفكك وغير المعادي للكيان. بل الواقع الذي أجهض الحواضر العربية المركزية الثلاث: القاهرة بالتهبيط والعراق بالتدمير وسوريا بحروب تدميرية لم تتوقف بعد. وهذا تأجيل لغروب الكيان بالتحرير.

هذا يعني بلا مواربة بأن التفكك الذاتي للكيان من داخله ليس امراً مقنعاً، لكن واقع عربي قوي وموحد يفرض على النظام العالمي، إذا بقي طويلا، الاستسلام والتخلي عن دعم الكيان مما يجعل التحرير أقل كلفة.

إن قراءة لمجريات وتطورات الحرب في أوكرانيا تبين أن الحرب بالاقتصاد ليست أقل تأثيراً من حرب المدافع. وبأن قوة روسيا الذاتية من حيث ثلاثي: السلاح والنفط والقمح يسمح لها بالصمود أمام الحرب الاقتصادية الواسعة ضدها. هذه الحرب يمكن أن تكون عربية في حالة وطن عربي مختلف يستخدم سلاح الاقتصاد ضد حُماة الكيان.

وحينها لا يعود هناك من حل سوى إعادة فلسطين إلى وطن عربي واحد أو موحد ويكون للمستوطنين في أغلبهم الرحيل فهم بين من يحمل جنسية أخرى وبين من يسعى للحصول عليها. ومن يبقى لا يبقى لا في بيت أحدنا ولا على املاك أحدنا.

وحينها أيضاً، لا يعود شعار الحل الديني مقبولا ولا يتمتع بإمكانيات، لأن الصراع ليس دينيا حتى يكون الحل دولة ثلاثية الأديان لأن من يملكها العرب بمسلميهم ومسيحييهم وفقط.

هل نركن إلى التحليلات المتشائمة لبعض الصهاينة؟ كلا، ولكن يجب أخذها بالاعتبار لا أخذها كواقع قريب التجلي.

نعم، يمكن هزيمة الكيان ولكن عمليا فقط عبر واقع عربي موحد وتقدمي على الأقل. نظام واحد وليس 22 رئيس بلدية.

لقد ناقشت إمكانية هزيمة الكيان بدون حرب عسكرية في كتابي “التطبيع يسري في دمك/2010 “. لكن ذلك أساسه الشرط العروبي.

✺ ✺ ✺

تونس في مُفْتَتَح سنة 2023

الطاهر المعز

صَدَر مُقتطف من هذا المقال بالعدد 1522 من مجلة “الهدف” (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) بتاريخ الأول من نيسان/ابريل 2023، بعنوان “لمحة عن الوضع في تونس”، حاولتُ خلاله احتر​​ام شروط هيئة تحرير المجلة، ومنها اقتصار المقال على 1400 كلمة (أو أكثر قليلاً)، وفيما يلي النسخة الكاملة من المقال الذي تم تحريره منتصف شهر آذار/مارس 2023.

تقديم

سجّل اقتصاد تونس نموًّا بنسبة 4,3 سنة 2021 و 2,4 سنة 2022، وفق البيانات الرّسمية، فيما يواجه المواطنون ضغوطات اقتصادية متزايدة قبيل شهر رمضان، تتمثل في الزيادات المستمرة لأسعار السلع الأساسية، ما رَفَعَ معدل التضخم السنوي إلى 10,2% خلال شهر كانون الثاني/ يناير وإلى 10,4% خلال شهر شباط/فبراير 2023، وهو أعلى مستوى منذ ثلاثة عقود، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء التي أظْهَرت ارتفاع أسعار المواد الغذائية (الخضروات والفواكه والزيوت النباتية واللحوم والبيض…)، بشكل لا يتناسب مع متوسّط الدّخل، ناهيك عن الدّخل المُتَدَنِّي أو المُنعدم، مع زيادة أسعار مجمل السلع والخدمات التي يحتاجها الإنسان يوميًّا، ويتوقع أن يَزداد الوضع سوءًا لأن الحكومة أعلنت رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية قريبًا، بالتوازي مع تراجع مستوى الإنتاج الغذائي ومجمل السلع، نظرًا لارتفاع أسعار المواد الأساسية وتراجع قيمة العملة الوطنية، وضُعف حجم الحتياطي العملات الأجنبية الضّرورية للتوريد ولتسديد حِصص الدّيُون…

قبل أسبوع واحد من بداية شهر رمضان، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو 16% مقارنة بالعام السابق، وكانت الزيادة قياسية في أسعار السلع الغذائية، إذ ارتفعت أسعار البيض بنسبة 32% واللحوم بنسبة 29,9% والدواجن بنسبة 25,3% والزيوت بنسبة 24,6%، فضلا عن فقدان أو ندرة بعض المواد الأساسية، حيث يتذمّر المواطنون من نقص أو غياب الحليب واللحوم الحمراء والبيض والدجاج والفواكه وغيرها من المواد الأخرى، وكانت الحكومة قد منحت شركات القطاع الخاص امتيازات ضريبية لاستيراد بعض المواد الغذائية…

تُشير كافة التوقعات إلى استمرار ارتفاع التضخم بسبب رفع الدعم بعد شهر رمضان، وفق الجدول الزمني الذي التزمت به الحكومة مع صندوق النقد الدّولي للوصول إلى “الأسعار الحقيقية” بحلول سنة 2025، وِفْقَ ما أشار له التقرير الذي صدَرَ عن وزارة المالية بعنوان: “إطار متوسط الميزانية 2023/2025” من مزيد ارتفاع الأسعار والتضخم الذي يُتوقّع أن يتجاوز 12% بنهاية 2023، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 20% بنهاية العام 2023…

ظروف انتخابات تونس 17 كانون الأول/ديسمبر 2022

يولي العديد من أصدقائنا ورفاقنا وأحبائنا مسألة الإنتخابات أهمية تفوق قيمتها الحقيقية ورَمْزِيّتها، ولذلك نستهل هذه الورقة بالتساؤل حول أسباب عُزُوف المواطنين عن المُشاركة في هذا “العُرس الدّيمقراطي” المزعوم، فقد كانت مُشاركة المواطنين ضعيفة لانتخاب 161 نائبًا بالبرلمان الجديد، يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2022، ولم تتجاوز 8,8% من المُسجّلين، وفق الهيئة المُشرفة على الإنتخابات، وتُشير نِسْبَةُ المُشارَكة الضعيفة إلى غياب الرّهان أو إلى عدم الإيمان بجدوى الإنتخابات، وفق قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل، وليس استجابة لنداء المُقاطعة الذي أصدره الإخوان المسلمون وحلفاؤهم، أو بعض التيارات الأخرى التي تُعارض شكل الحُكْم الحالي. أما بالنسبة للسلطة فإن الإنتخابات تُمثّل أحد شُرُوط الدّائنين، لإضفاء شرعية على السّلطة ومؤسّساتها، قبل الإفراج على القسط الأول من قَرض أقَرّه صندوق النقد الدّولي يوم 15 تشرين الأول/اكتوبر 2022، بقيمة 1,9 مليار دولار…

تُشكّل البطالة والفقر وارتفاع الأسعار أهم مشاغل أغلبية المواطنين، فقد قاربت نسبة التضخم الرّسمية المُعْلَنة 10% واختفت بعض السّلع الغذائية الأساسية من السّوق كالحليب والسّكّر والطّحين (الدّقيق) والأرز، وقد يتفاقم الوضع إثْرَ التطبيق الصّارم لشُرُوط الدّائنين، وفي مقدّمتهم صندوق النقد الدّولي الذي فَرَضَ “توسيع القاعدة الضريبية” أي تحصيل المزيد من الضّرائب المباشرة ( منها فرض ضرائب على القطاع الموازي) والضرائب غير المباشرة على الخدمات واستهلاك السِّلَع، بدَل زيادة ضريبة الممتلكات والعقارات وأرباح المصارف والشّركات وأصحاب المِهَن المُسمّاة “حُرّة”.

يقدر مكتب العمل الدولي أن القطاع الرسمي يستوعب أكثر من نصف العمال التونسيين، ويُمثّلُ نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وأظْهَرتْ تجربة الدول الأفريقية أن فرض الضريبة على هذا القطاع غير فعال، ولا يولد سوى عائدات ضريبية قليلة للدولة، ومن الأفضل فرض ضرائب على الميراث والممتلكات المادية، وإلزام الشركات والمحامين والمحاسبين وأطباء الأسنان والتجار أو الشركات الخاصة الأخرى بتسجيل جميع إيراداتها وموظفيها لدى الضمان الاجتماعي.

يُعَدُّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي مؤشرًا على توجه البرنامج الاقتصادي في عهد قيس سعيدن إذْ يتماشى مضمون الاتفاقية مع الاتفاقات السابقة التي أبرمها صندوق النقد الدولي مع حكومات تونس والبلدان المُماثلة، والتي تتضمّن تخفيض حجم رواتب القطاع العام (أي خفض عدد الموظفين) وخفض أو إلغاء الدعم للسلع والخدمات الضرورية والأساسية وتخفيض الضرائب والرُّسوم الجمركية وغيرها من “الهدايا” “المُسمّاة “حوافز” للشركات والأثرياء… باختصار، لا تعني “الإصلاحات “التي يفرضها صندوق النقد الدولي للمواطن سوى زيادة في تكلفة المعيشة وخفض الإنفاق الحكومي في مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة وخصخصة القطاع العام جزئيًا أو كليًا…

أعلنت وزارة الاقتصاد التونسية، ارتفاع ميزانية البلاد بنسبة %14,5 سنة 2023 لتصل إلى 69,6 مليار دينار (22,3 مليار دولار )، وتستوجب تغطية العجز قُرُوضًا خارجية بقيمة 4,53 مليار دولارًا، ويُتَوَقَّعُ أن تسجل خدمة الدين العمومي زيادة بنسبة 44,4% مقارنة بالعام 2022 باعتبار ارتفاع نفقات تسديد أصل وفائدة الدين، بحسب وكالة تونس إفريقيا للأنباء بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2022…

إن إلقاء نظرة سريعة على ميزانية العام 2023 (التي لم تنشُرها وزارة المالية، إلى غاية الأسبوع الأخير من سنة 2022) تُؤَكّد ما ينتظر المواطنين من تدهور الدّخل، مقارنة بارتفاع الأسعار، وإن العام 2023 سيكون أكثر صعوبة، وفق وثائق الحكومة التونسية التي أقَرّت أن نسبة النمو لن تتجاوز 1,6% سنة 2023، وأن الوضع لن يختلف عن العام 2022، بل قد يكون أَسْوَأَ، بعد رفْع قيمة الضريبة غير المباشرة (ضريبة الإستهلاك أو “القيمة المضافة”) ورفع الدّعم عن المواد الأساسية، وارتفاع أسعار المحروقات التي زادت خمس مرات، بين شَهْرَيْ شباط/فبراير وتشرين الثاني/نوفمبر 2022، كما ورد في وثيقة مشروع الميزان الاقتصادي: “إن سنة 2023 هي السنة الأولى لتطبيق الإصلاحات الإقتصادية للمخطط التنموي 2023/2025…” الذي يتوقع ارتفاع المخاطر والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وتباطؤ النشاط في قطاعات الفلاحة والصناعات الموجهة للتصدير، وتراجع إنتاج قطاع المحروقات، كما أكدت وثيقة المشروع على حاجة الحكومة لمبلغ لا يقل عن 1,675 مليار دولارا من أجل “تحسين مناخ الأعمال والمبادرة الفردية بما يسمح بتوفير بيئة استثمارية جاذبة وملائمة لاستقطاب الاستثمارات الوطنية والأجنبية”، أي مزيدًا من “الهدايا” المَجانية لرأس المال المحلِّي والأجنبي، من خفض الضّرائب والرسوم الجمركية والمِنَح في شكل عقارات مجانية وتهيئة عمرانية وبُنْيَة تحتية تُنفذها الدّولة من ضرائب المواطنين، لتستفيد منها الشركات المحلّيّة والأجنبية، بينما تتواصل معاناة المواطن من ارتفاع الأسعار، منها أسعار الكهرباء وماء الشُّرْب، ومن شحّ الوظائف…

تونس، مَحْمِيّة الإتحاد الأوروبي؟

زار وفد من الاتحاد الأوروبي البلاد التي ارتفعت ديونها وقَلّت مواردها المالية والإنتاجية، وتواجه أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية حادّة، واحتد الخلاف بين فئَتَيْن رجعيّتَيْن، بين الإخوان المسلمين وحلفائهم، والفئات التي دعمت الرئيس قيس سعيد منذ 25 تموز/يوليو 2021، فيما تعيش معظم فئات الشعب وضعًا اتّسم بارتفاع أسعار المواد الغذائية وشح المعروض من الطحين والأرز والحليب والزيت والسّكّر والقهوة والبيض، بينما تحاول الحكومة توقيع اتفاق نهائي للحصول على قرض بقيمة 1,9 مليار دولار (كانت تأمل الحصول على أربعة مليارات دولار) من صندوق النقد الدّولي الذي اشترط رفع الأسعار وإلغاء الدّعم وتسريح خمسين ألف موظف عمومي على مدى خمس سنوات، واشترط قُبُول الإتحاد العام التونسي للشغل مثل هذه القرارات، بشكل مسبق… ولذلك بقي الإتفاق مُعلّقا…

نظرًا لتبعية الإقتصاد للإتحاد الأوروبي، سمح “جوزيب بوريل” (مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي ) لنفسه بالتصريح، يوم الإثنين 20 آذار/مارس 2023، إثر اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بروكسل: “إن الوضع في تونس خطير للغلية… (ما يثير) قلق الإتحاد الأوروبي إزاء تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في تونس ويخشى انهيارها”، وأوضع المسؤول الأوروبي خلفية قَلَقِهِ، فهو لا يهتم بما يُعانيه الشعب التونسي من ضائقة مالية، بل يتخوف من تدفّق المُهاجرين، حيث أعلن: “إن انهيار تونس يُنْذِرُ بتدفق المهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي والتسبب في عدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. نريد تجنب هذا الوضع”.

تجدر الإشارة أن ثلاثة ملايين من فقراء بلدان إفريقيا الواقعة تحت الصحراء كانوا يعملون بليبيا قبل تخريبها وتفتيتها من قِبَل حلف شمال الأطلسي، ويحاول هؤلاء، كما كل فُقراء العالم، البحث عن مكان آخر يوفِّرُ لهم عملا ودَخْلا يُعيلون به أُسَرَهُم، وتقع تونس على البحر الأبيض المتوسط، قريبا من جنوب إيطاليا، ويوجد بها باستمرار أكثر من 21 ألف مهاجر إفريقي، وفق الإحصائيات الرسمية، وبسبب الموقع الجغرافي لتونس، يحاول عشرات الآلاف من المهاجرين غير النّظاميين من التونسيين ومن سكان إفريقيا جنوب الصحراء عبور البحر الأبيض المتوسط في محاولة للوصول إلى السواحل الأوروبية التي تبعد نحو 150 كلم فقط عن تونس، وتُشير إحصاءات الإتحاد الأوروبي إلى وُصُول نحو 32 ألف مهاجر إلى السواحل الإيطالية، سنة 2022، قادمين من الضفة الجنوبية للمتوسط وأساسا من ليبيا وتونس، لكن تصريحات “جوزيب بوريل” تجاوزت موضوع الهجرة غير النظامية نحو أوروبا، وتطرقت إلى موضوع آخر حسّاس، حيث أعلن: “لا يمكن للإتحاد الأوروبي مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي”، واشترط على الرئيس قيس سعيد “توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ الشروط كاملة، وإلا فإن الوضع سيكون خطيرا للغاية بالنسبة لتونس”.

أثارت لهجة التصريح، زيادة على مُحتواه، ردّ فعل الحكومة التونسية، حيث عبرت وزارة الخارجية التونسية يوم الثلاثاء 21 آذار/مارس 2023 عن رفضها لتصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي الذي تحدث عن مخاوف من “انهيار” الوضع في تونس واعتبرتها “غير متناسبة”.

سبق أن أثارت تصريحات قيس سعيّد ( شباط/فبراير 2023) عن “التواجد الكبير لمهاجرين غير قانونيين في تونس (ضمن) مؤامرة لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد”، موجة من الانتقادات من قبل منظمات ودول إفريقية وصفتها “بالعنصرية”، كما أثارت حملة الإعتقالات لبعض رموز المعارضة السياسية والإعلام ورجال الأعمال والنّقابيين، وغيرهم تخوفات بشأن العودة إلى الدّولة البوليسية.

يلتقي وفد الاتحاد الأوروبي الذي يزور تونس بالعديد من الوزراء يوم الثلاثاء 21 آذار/مارس 2023، لإجراء “مباحثات حول الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تونس وكيف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يواصل تقديم أفضل دعم للشعب التونسي في الوضع الحالي… ستكون الزيارة فرصة لمناقشة التعاون بين الاتحاد الأوروبي وتونس بشأن الهجرة وتحديد سبل ملموسة لمعالجتها”، وفْقَ بيان صادر عن بعثة الاتحاد في تونس.

إن التصريحات التي تنتقدها وزارة الخارجية تعكس علاقات الشراكة غير المتكافئة وعلاقات التبعية (تبعية النظام التونسي) تجاه الإتحاد الأوروبي. (عن وكالة الصحافة الفرنسية 21 آذار/مارس 2021 ).

ميزانية الدّولة لسنة 2023

تضمّنَ مرسوم ميزانية الدّولة لسنة 2023 التّأكيد على زيادة الضريبة على دَخل الأُجراء (التي تجبيها الدّولة مُباشرة من الرواتب) وزيادة الضريبة غير المباشرة (ضريبة الإستهلاك أو ضريبة القيمة المُضافة) التي لا تُفرّق بين الثّري والفقير، ما يجعلها غير عادلة، فيما ركّزت وسائل الإعلام على أصحاب تَذَمُّر أصحاب المهن “الحُرّة” ( تُجّار الصّحّة كأطباء القطاع الخاص وتجار الكلام كالمُحامين وتُجّار الأرقام كالمُحاسبين…) المُستفيدين من “النّظام التّقديري”، أي الإعتماد على “حسن النّيّة” في تصريحاتهم الجبائية التي تعتبرها جمعية الاقتصاديين التونسيين (دراسة صدرت سنة 2015) غير واقعية، ولا تعكس مستوى عيشهم وإنفاقهم وممتلكاتهم من عربات وعقارات، فهم يُصرّحون بإيرادات تقل قسمتها عن خط الفقر المُدْقَع، ما يجعل من سياسات حكومة قَيْس سعَيِّد امتدادًا للسياسات الإقتصادية والإجتماعية للحكومات السابقة طيلة أكثر من أربعة عُقُود، والتي تميّزت بتخريب القطاع العام وخفض قيمة العُمْلَة (الدّينار)، ما يُؤَدِّي إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأُجُور، وتخريب قطاعات الإنتاج، وبالأخص قطاع الفلاحة الذي أصبح ينتج لتلبية احتياجات أسواق أوروبا، ما يُؤَدِّي إلى استيراد السلع الغذائية التي يمكن إنتاجها مَحَلِّيًّا، كما تميزت ميزانية 2023 بالزيادات الكبيرة في ميزانية وزارة الدّاخلية ووظائف الأمن (أمْنُ مَنْ؟)، وهي ميزانية مرتفعة مقارنة بوزارات الصحة والفلاحة والشؤون الإجتماعية، وتميزت بخفض قيمة دَعْم السلع والخدمات الأساسية، في إطار سياسة “التّقَشُّف” التي اشترطها الدّائنون، لتتمكّن الدّولة من تسديد الدُّيُون، إذ ارتفعت حصة تسديد الدّيون وفوائدها من نحو 23,6% من إجمالي النفقات الحكومية سنة 2022، إلى نحو 30,2% من إجمالي النفقات الحكومية لسنة 2023، ونحو 45% من إجمالي الموارد، في ظل انخفاض قيمة الدّينار وارتفاع نسبة الفائدة على القُروض الدّاخلية التي تستفيد منها المنظومة المالية (المصارف)…

يمكن تلخيص أهم خصائص ميزانية الدولة التونسية لسنة 2023 في زيادة ميزانية “الأمن”، وخفض دعم الخدمات والسلع الأساسية لتوازِيَ أسعارها في السوق المَحَلِّيّة أسعار أسواق أوروبا وأمريكا الشمالية، ما يُؤَدّي إلى ارتفاع أسعار مشتقات الحبوب (الخبز والطحين والعجين) والزيوت النباتية والسّكّر والقهوة، وسوف لن تستثمر الدّولة في القطاعات الإنتاجية، رغم ما يُرَوِّجُهُ وُزراؤها، مع  ارتفاع حجم الدّيون الداخلية والخارجية وفوائدها التي تلتهم جزءًا هامًّا من موارد الدّولة، بدل إنفاقها على غذاء وصحة وتعليم وسكن المواطنين.

الواقع يُفَنّد التصريحات الجوفاء

أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير التشغيل، يوم الرابع من كانون الثاني/يناير 2023: “إن تونس بلد منتج ولا تعيش على العطايا والهبات”، بينما تحاول حكومته الحصول على قرض بقيمة 1,9 مليار دولارا (على أربع سنوات) من صندوق النقد الدّولي الذي يشترط “إصلاحات”، ويعرف الجميع مضمون هذه “الإصلاحات” التي أدّت إلى انتفاضة 1983/1984، وانتفاضة 2010/2011… في حين أعلن محافظ المصرف المركزي: “إن الوضع الاقتصادي صعب في كل دول العالم ولكنه أصعب في تونس لأننا لا نمتلك إمكانية الحصول على تمويلات خارجية”.

أما وزير الاقتصاد والتخطيط، فيتمنى تحقيق معدل نمو بنسبة 2,1% ( تتراوح توقعات صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي بين 1,6% و 1,8% ) سنة 2023، وهي نسبة ضعيفة في بلد غير مُصَنّع ويفتقر إلى القطاعات التي تُحقق قيمة زائدة مرتفعة، في ظل تفاقم العجز (العجز الجاري والعجز التجاري) وتراجع نسب الادخار و الاستثمار…

يُعتَبَرُ محافظ المصرف المركزي، الناطق الرسمي باسم المؤسسات المالية الدّولية (مثل صندوق النقد الدّولي)، وحريصًا على تنفيذ تعليماتها، في البلدان التي فَرَض فيها الدّائنون ما سُمِّيت “استقلالية” المصرف، وأعلن محافظ المصرف المركزي التونسي خطوةً جديدةً في طريق “تحرير” الدّينار (أي خفض قيمته مقابل العملات الأجنبية)، ما يرفع قيمة الدّيون الخارجية وفوائدها ويزيد من الإنفاق على الواردات، وتتضمن الإجراءات الجديدة تهريب الأموال إلى الخارج، من خلال السماح للتونسيين – من الأثرياء وأرباب العمل والتّجّار والسماسرة…- “فتح أرصدة بالعملة الأجنبية”، في إطار “تحسين مناخ الأعمال” الذي يرِدُ في كافة تقارير وشروط صندوق النّقد والبنك العالمي.

تضمّنت إجراءات المصرف المركزي (بتاريخ 30/12/2022) الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية ( لتصل إلى 8%) للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر، ما يؤدّي إلى زيادة الأسعار والتّضخم وأقساط القُروض الاستهلاكية، في واقع يتميز بخفض قيمة الدّعم (تطبيقًا لشروط الدّائنين) وبارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية وبشح أو غياب بعضها من السوق، كالزيت والسكر والقهوة…

سجّل اقتصاد تونس نموًّا بنسبة 4,3 سنة 2021 و 2,4 سنة 210221، وفق البيانات الرّسمية، فيما يواجه المواطنون ضغوطات اقتصادية متزايدة قبيل شهر رمضان، تتمثل في الزيادات المستمرة لأسعار السلع الأساسية، ما رَفَعَ معدل التضخم السنوي إلى 10,2% خلال شهر كانون الثاني/ يناير وإلى 10,4% خلال شهر شباط/فبراير 2023، وهو أعلى مستوى منذ ثلاثة عقود، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء التي أظْهَرت ارتفاع أسعار المواد الغذائية (الخضروات والفواكه والزيوت النباتية واللحوم والبيض…)، بشكل لا يتناسب مع متوسّط الدّخل، ناهيك عن الدّخل المُتَدَنِّي أو المُنعدم، مع زيادة أسعار مجمل السلع والخدمات التي يحتاجها الإنسان يوميًّا، ويتوقع أن يَزداد الوضع سوءًا لأن الحكومة أعلنت رفع الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية قريبًا، بالتوازي مع تراجع مستوى الإنتاج الغذائي ومجمل السلع، نظرًا لارتفاع أسعار المواد الأساسية وتراجع قيمة العملة الوطنية، وضُعف حجم الحتياطي العملات الأجنبية الضّرورية للتوريد ولتسديد حِصص الدّيُون…

قبل أسبوع واحد من بداية شهر رمضان، ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنحو 16% مقارنة بالعام السابق، وكانت الزيادة قياسية في أسعار السلع الغذائية، إذ ارتفعت أسعار البيض بنسبة 32% واللحوم بنسبة 29,9% والدواجن بنسبة 25,3% والزيوت بنسبة 24,6%، فضلا عن فقدان أو ندرة بعض المواد الأساسية، حيث يتذمّر المواطنون من نقص أو غياب الحليب واللحوم الحمراء والبيض والدجاج والفواكه وغيرها من المواد الأخرى، وكانت الحكومة قد منحت شركات القطاع الخاص امتيازات ضريبية لاستيراد بعض المواد الغذائية…

تُشير كافة التوقعات إلى استمرار ارتفاع التضخم بسبب رفع الدعم بعد شهر رمضان، وفق الجدول الزمني الذي التزمت به الحكومة مع صندوق النقد الدّولي للوصول إلى “الأسعار الحقيقية” بحلول سنة 2025، وِفْقَ ما أشار له التقرير الذي صدَرَ عن وزارة المالية بعنوان: “إطار متوسط الميزانية 2023/2025” من مزيد ارتفاع الأسعار والتضخم الذي يُتوقّع أن يتجاوز 12% بنهاية 2023، مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 20% بنهاية العام 2023…

حقوق مُهملة: حق المواطن في التغذية الصحية

تعود فكرة إنشاء صندوق التّعويض (وليس الدّعم) إلى فترة الحرب العالمية الثانية، حيث جندت الدّول المتحاربة شباب بلدانها وشباب مُستعمَراتها من الفلاحين، وسببت الحرب والقصف نقص الإنتاج وشح السّلع، وعملت الحكومات الأوروبية على تقنين توزيع السّلع الأساسية المُتَوفّرة طيلة فترة الحرب، وبعدها ببضعة سنوات. أما في البلدان حديثة الإستقلال فقد كان الهدف توفير غذاء متوازن وصحّي بأسعار تُناسب دَخْل الفُقراء، ودعم البذور والإنتاج، خلال الأزمات، لكي يستمر الفلاحون في إنتاج الغذاء.

أنشأت حكومة الهادي نويرة سنة 1970 صندوق التعويض، بالتوازي مع إقرار سياسات ليبرالية تستهدف اجتذاب الإستثمارات الأجنبية وتصدير الإنتاج المحلي، فيما سُمِّيَ “انفتاحًا” تميّز بزيادة الإستثمار الأجنبي في السياحة وفي قطاعات الصناعات التحويلية كالنسيج وتركيب الميكانيك والإلكترونيك لإنتاج سلع مُعدّة حَصرًا للتّصدير، بدعم من البنك العالمي، منذ سبعينيات القرن العشرين (للإستثمار في البنية التحتية) وصندوق النقد الدّولي، منذ عقد ثمانيات القرن العشرين، مع الشّروط المُجحفة التي تُرافق هاتين المُؤسّستَيْن المالِيّتَيْن المُنْبَثِقَتَيْن عن مؤتمر “بريتن وودز” (1944)، وخصوصًا خلال الأزمة المالية وأزمة الدّيون التي عانت من نتائجها معظم شُعُوب بلدان “الجنوب”، وكانت “انتفاضة الخبز” بتونس، خلال الأيام الأخيرة من سنة 1983 والأيام الأولى من سنة 1984، إحدى مظاهر غضب المواطنين ضد سياسة “حقيقة الأسعار”، أي إلغاء تعويض الفلاحين والمستهلكين، وتحويل صندوق التعويض إلى صندوق “دَعْم الأسعار” بشكل مُؤَقّت، قبل إلغاء الدّعم (الذي كان مُقَرّرًا منتصف العقد الأخير من القرن العشرين) وإلغاء سياسة تحديد الأسعار، إلى جانب خفض قيمة العُمْلَة المحلّية، كواحد من شروط الدّائنين، ومن شروط اتفاقيات الشراكة مع أوروبا، وتوجيه الإستثمارات نحو إنتاج السّلع القابلة للتّصدير بأسعار منخفضة، بدل إنتاج السلع التي يحتاجها المواطنون، وأدّت هذه السياسات إلى تخصيص مساحات من الأراضي الخصبة للزراعات الكبرى التي يُصدّر إنتاجها إلى الخارج، مقابل تقلص الإستثمارات وحجم الأراضي المُعَدّة لإنتاج الحبوب وعلف الحيوانات وللرّعي وتربية المواشي، لتصبح البلاد من مُستَوْرِدِي مشتقات الحبوب ومشتقات الألبان واللحوم المُجَمّدة، والعديد من الإنتاج الغذائي “الصناعي” غير المُتوازن وغير الصّحّي، وهي سلع مرتفعة الثمن ومُستورَدَة بالعملات الأجنبية، وتدعمها حكومات أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا وغيرها من الدّول الرأسمالية المتقدّمة، وهي نفس الأطراف التي تَفْرِض إلغاء الدّعم، وخاصة دعم قطاع الفلاحة في بلدان “الجنوب” ( الحبوب وعلف الحيوانات والمنتجات الغذائية…)، في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، بهدف تقويض أُسُس السيادة الغذائية، وبهدف ربْط هذه البلدان (الأسواق) بالسوق العالمية، وتَحويل الغذاء إلى سلعة، وإلغاء تدخّل الدّولة لتحديد الأسعار وللمحافظة على التوازن بين مستوى الدّخل ومستوى الأسعار، وتمز العقدان الأخيران للقرن العشرين بفَرْض نمط عيش يُعَمِّق التّبعية (نقيض الإستقلالية والسيادة)، عبر برامج “الإصلاح الهيكلي”، وأدّى تطبيق “قوانين السوق” إلى عجز صغار الفلاحين عن ممارسة نشاطهم الفلاحي وعن إعالة أُسَرِهِم، ما دفع العديد منهم إلى النّزوح والهجرة وتعزيز صفوف العَمالة الهَشّة والمُفَقَّرَة…

أزمات متتالية منذ أربعة عقود

ذكرنا آنفًا بعض أسباب انتفاضة 1983/1984، وأهمُّها زيادة أسعار المواد الغذائية، تطبيقًا لشروط الدّائنين، ولم يكن تراجع الحكومة سوى إجراءً ظَرْفِيًّا لتفادي الغضب الشّعبي، وبعد إقصاء محمد مزالي، عادت حكومة رشيد صفر للحديث عن ضرورة تطبيق “برنامج الإصلاح الهيكلي” للخروج من الأزمة الخانقة، وتتالت الأزمات وارتفعت معها قيمة الدُّيُون الخارجية ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، وما يُرافقها من تفريط في ممتلكات البلاد وفي ثرواتها وما ينجر عنها من بطالة وفقر الخ، ولا يزال صندوق النقد الدّولي يدّعي (ومعه أرباب العمل وأعضاء الحكومة وخبراؤها وزبانيتها) أن عدد الموظفين مرتفع وحصة رواتبهم “من أعلى المعدلات في العالم”، مقارنة بحجم الناتج المحلِّي الإجمالي، ويشترط تطبيق “حقيقة الأسعار”، أي إلغاء الدّعم، فهو “حلال” في الدّول الرأسمالية الإمبريالية و”حرام” في دول الجنوب الفقيرة، مثل تونس، وهو نفس الخطاب، منذ عُقود، وفي كل البلدان، أي إن وَصْفَةَ صندوق النقد والبنك العالمي “صالحة لكل زمان ومكان”، وتتضمن (بين 1983 و 2022) نفس الشروط، من بينها خصخصة مؤسسات القطاع العام وبيع أُصُول الدّولة (وهي ممتلكات الشعب) وتسريح الموظفين وخفض قيمة العملة المحلية وتوجيه الإنتاج نحو التصدير وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية، وغيرها من الإجراءات التي تَضُرُّ بمعيشة وصحة وحياة الأُجراء وصغار الفلاحين والفُقراء، مقابل ارتفاع ثروة فئة قليلة من الأثرياء ووُكلاء رأس المال الأجنبي الذين يستفيدون من “تحسين مناخ الأعمال” و “مُرونة التّشغيل” وخفض الضريبة على الثروة (مقابل زيادة ضريبة القيمة المُضافة)، ومن تعزيز “الشراكة بين القطاعَيْن العمومي والخاص” الخ.

أدّى تطبيق هذه الشّروط إلى انتشار الفقر والأمية والبطالة، وإلى أزمات عديدة في بلدان أمريكا الجنوبية (الأرجنتين خصوصًا، في بداية القرن الواحد والعشرين) وفي آسيا، وآخرها سريلانكا التي أعلنت التّوقّف عن السّداد، وفي العديد من البلدان الإفريقية، ومنها تونس ومصر التي لا يزال يتهدّدها شبح التّوقّف عن السداد، أو ما يُسمّى العجز أو “الإفلاس” (في الواقع لا تفلس الدّول كما تفلس الشركات أو الأفراد)، ما يُبرّر رفضها (شعْبِيًّا ) والثورة ضدها وضدّ الحكومات التي تُنفّذها ومُحاسبة من يُبرّرها ويُدافع عنها…   

لمحة عن الوضع في تونس

يلخص السيد صلاح الدّين الثابتي، عضو مجموعة “حتى ينتصر الشعب” التي تدعم الرئيس بشكل مطلق دون أي تَحَفُّظ، الوضع السياسي بعد ارتفاع معدّل الإمتناع عن المشاركة في عملية التصويت إلى حوالي 90%، بقوله: حتى لو بلغت نسبة المُشاركة 0% سنستمر في تطبيق برنامجنا […] إنه برنامج الإرادة الشعبية ” (من استجواب أجرتْهُ معه محطة موزاييك إف إم التي يمتلكها رجل ثري مُعتَقَل)

أصبح الوضع الاقتصادي بتونس (قرابة 12 مليون نسمة ، منهم أكثر من 1,6 مليون في الخارج) أسوأ مما كان عليه قبل انتفاضة 2010/2011، حيث تجاوزت نسبة التضخم 10% وتميَّز الوضع بنقص المواد الغذائية الأساسية (الحليب والسكر والأرز والزيت والقهوة) وبارتفاع مُشِطّ للأسعار، بلغ معدل البطالة 18,6% ويقدر معدل الفقر بـ 22% من السكان، الأمر الذي أدى إلى زيادة الهجرة غير النظامية، وكذلك الهجرة المُنَظّمة للأطباء والمهندسين والعمالة الماهرة وفَنِّيِّي الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إلخ.

بدأت، منذ حوالي ثمانية عشر شهرًا، مُفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدّولي، ولم تتقدم تلك المفاوضات حيث كانت الحكومة ترغب في اقتراض أربعة مليارات دولارا لسدّ العجز، وأخيرا وافق الصندوق – من حيث المبدأ – على قرض بقيمة 1,9 مليار دولارا، منذ شهور، ولم يُفْرج عن أي قِسْط من القَرْض، بانتظار تطبيق الشروط القاسية، وفي الأثناء، خفضت وكالة موديز الأمريكية (28 كانون الثاني/يناير 2023) تصنيف الدين طويل الأجل للبلاد، معلّلَة ذلك “بارتفاع مخاطر التخلف عن السداد” (من قبل الدولة).

على صعيد الحريات الفردية والجماعية، شملت الإعتقالات والتّرهيب فئات عديدة من المواطنين، سواء من دائرة الإخوان المسلمين وحلفائهم، الذين حكموا البلاد من 2012 إلى منتصف 2021، أو من الإعلاميين والقُضاة والنقابيين والمواطنين الذي عبّروا عن رأي مُخالف أو ناقد للحاكم الحالي للبلاد، وكان اعتقال مسؤول نقابي في شباط/فبراير 2023 بتهمة “التورط في تنظيم إضراب لعمال الطرق” قد اضطرّ قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) إلى الخروج عن “الحِياد” وإلى التعبير عن مُعارضة بعض جوانب سياسات الحكومة الحالية…

يُعتبر الإتحاد العام التونسي للشغل أقدم وأقوى منظمة نقابية للأجراء في إفريقيا والوطن العربي، وساهم مؤسسوها سنة 1946 في النضال ضد الإستعمار الفرنسي، ويضم الاتحاد حاليا حوالي مليون عضو – في بلد يبلغ عدد سكانه 12 مليون نسمة – ونظم الإتحاد مظاهرة يوم الرابع من آذار/مارس 2023، للمطالبة بالديمقراطية واحترام الحقوق الاقتصادية وإطلاق سراح المُعتَقَلِين السياسيين، ووضع حد للحملة العنصرية ضد فُقراء إفريقيا جنوب الصحراء الذين يعبرون تونس قبل التوجه إلى أوروبا، ومنعت السلطات قادة النقابات الأجنبية من دخول تونس للتعبير عن مُساندتهم للإتحاد العام التونسي للشغل الذي يعلن معارضته لرفع الدعم عن المنتجات الأساسية مثل الغذاء والطاقة والوقود، وهي تدابير تعتبرها الحكومة ضرورية لتأمين قرض بقيمة 1,9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، ويُعْتَبَرُ الاتحاد العام التونسي للشغل من أقوى المنظمات في تونس ومن المنظمات القليلة التي يمكنها تحدي سياسات الحكومة بشكل علني وفعال، في ظرف تميّز بمضاعفة الرئيس قيس سعيد الاستفزازات ضد الإتحاد النقابي، بما في ذلك التشكيك في حق الإضراب، مؤكداً أن “الحق في التنظيم لا يمكن أن يكون له أهداف سياسية”، وذلك إثر إضراب عمال الطرق السريعة (30 و 31 كانون الثاني/يناير 2023)، حيث سمح العمال لسائقي السيارات بالمرور دون تسديد الرُّسُوم، في حين صرّح قيس سعيد  إن “الطرق كانت مغلقة” واعتقلت الشرطة رئيس نقابة هذا الفرع، ولا يزال رهن الاعتقال حتى منتصف آذار/مارس 2023.

لمحة عن الوضع العام

يواجه المواطنون صعوبات اقتصادية عديدة، جراء ظروف موضوعية منها ارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية والجفاف ونقص السيولة في خزائن الدولة، ما يفسر جزئياً هذه الأزمة، لكن لا يجب إهمال سياسات السلطات السياسية ومخطّطاتها فهي مسؤولة على سير شؤون البلاد والمواطنين، ويتميز الوضع الحالي بغياب المنتجات الغذائية الأساسية التي أصبحت مفقودة من أرفف المتاجر التي تفرض التقنين على مشتريات العجين (المعكرونة) والحليب والأرز والسكر والقهوة، وبخصوص نقص الحليب، يستهلك المواطنون التونسيون في المتوسط 1,8 مليون لتر من الحليب يوميًا، بينما لا يتجاوز الإنتاج المحلي 1,2 مليون لترا، وفقًا للبيانات الرسمية (بعد تخريب قطاع الفلاحة وتربية المواشي، تبعًا لأوامر صندوق النقد الدّولي) ولذلك يتوجب على الدّولة أو الشركات الإحتكارية الخاصة تَوْرِيد ما لا يقل عن ستمائة ألف لتر في اليوم، لكن أدّى نقص العملات الأجنبية إلى تفاقم نقص الحليب منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022، فتم تحديد المبيعات بلِتْرَيْن إثنَيْن لكل زبون، في محلات السوبر ماركت، فيما ظل الإنتاج المحلي يتراجع منذ عدة سنوات، عندما قدم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قروضاً مشروطة بإنهاء الدعم الحكومي للمزارعين، وما الحليب سوى واحد من المنتجات التي غابت من رفوف المتاجر، إلى جانب الأرز والقهوة والسكر والزيت، وتفاقمَ النّقص في المعروض منذ الحرب في أوكرانيا، حيث ارتفع سعر الحبوب بنسبة 40% بين آذار/مارس وتشرين الأول/أكتوبر 2022، وتضاعف سعر العلف وغذاء الحيوانات (تضاعف ثمانية مرات خلال عشر سنوات)، واضطر العديد من مربي الماشية إلى بيع المواشي بأسعار منخفضة، فانخفض حجم القطعان التونسية بنسبة 30% سنة 2022، كما تفاقمت هذه الصعوبات بفعل الجفاف وانخفاض منسوب المياه في السدود التي لا تكاد تمتلئ إلا بنسبة 30%، وتجدر الإشارة أن تونس كانت تصدر الحليب حتى عام 2017، ثم انخفض الإنتاج بسبب خفض دعم الفلاحة وأسعار الحبوب وعلف الحيوانات، وخفض دعم الإنتاج (الحليب ومشتقاته واللحوم والبيض…)، وتتفاقم أزمة الحليب الحالية بحلول شهر رمضان ( بداية من 22 آذار/ مارس 2023)، بسبب زيادة الإستهلاك، حيث يُتوقّع أن يصل النقص إلى مليون لتر يوميًا، ويستغل المُضاربون والمُحتكرون شهر رمضان لزيادة أسعار الحليب والبيض والتونة (التّن) والعديد من المواد الغذائية الأخرى.  

كان الوضع الاقتصادي والإجراءات المقيدة للحريات من العوامل التي أثنت المواطنين عن المشاركة في الجولة الأولى (17 كانون الأول/ديسمبر 2022) والجولة الثانية من الانتخابات التشريعية في 29 كانون الثاني/يناير 2023 لانتخاب 161 نائبًا، وربما يعود ارتفاع معدل الامتناع عن التصويت إلى نسبة 90% في كلتا الجولتين إلى نقص السلع، وسمحت هذه الانتخابات بعودة عدة نواب دستوريين، من أتباع زين العابدين بن علي، أو الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس، إلى المجلس التشريعي. أما المواطنون فقد فَقَدُوا اهتمامهم بالأجندة السياسية التي يقودها الرئيس قيس سعيد، كشكل من أشكال الإحتجاج على السلطة ورئيسها الذي وعد بدعم الفُقراء وبمحاربة الظلم والفساد، وبدلاً من ذلك تم تمديد حالة الطوارئ، السارية منذ 2015، حتى نهاية 2023، ما يسمح للسلطة التنفيذية بإصدار أمر الإقامة الجبرية وحظر المظاهرات وممارسة الرقابة على الصحافة، وزاد النظام القائم من مظاهر القمع والتّشدّد، إذ جَمَعَ الرئيسُ وزراءَهُ المسؤولين عن القمع (الداخلية والقضاء والدفاع) وألقى خطابًا شديد الخطورة ضد خصومه، الذين وسَعَ دائرتهم لتشمَلَ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يبدو أنه الهدف الجديد للسلطة، ليصبح العُمال مُستهدَفِين من خلال نقاباتهم.

الجمود الاقتصادي

يقدر مكتب العمل الدولي أن أكثر من 50% من العمال التونسيين ينتمون إلى القطاع غير الرسمي ، الذي يمثل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (وهي نسبة مُشابهة للدول العربية الأخرى)، ولذلك يقترح صندوق النقد الدولي اندماجهم في النظام الضريبي لزيادة إيرادات الدولة، مع عدم زيادة رُسوم وضرائب الشركات الغنية ومتعددة الجنسيات، لكن اتضخ، من خلال تجارب العديد من البلدان الإفريقية، أن فرض الضرائب على الاقتصاد غير الرسمي ليس مربحًا كما يبدو لأن هذا القطاع يشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة الاقتصادية، والفرق شاسع بين إيرادات التّهريب المُنظم، وإيرادات الباعة الجائلين، وفي الواقع فإن أولئك الذين لا يدفعون ضرائب كافية هم المحامون والأطباء وأطباء الأسنان والمحاسبون وعدة آلاف من المهنيين والشركات المتخصصة في التهرب الضريبي، والقطاع الخاص بشكل عام الذي يسعى إلى نهب المال العام، مع عدم المُساهمة في إيرادات الدّولة، بالإضافة إلى ذلك ، فإن عشرات الآلاف من العمال غير المهيكلين لا يحصلون على دخل يُعادل الحد الأدنى للأجور، وبالتالي سوف يتم إعفاؤهم من دفع الضرائب، بعد تجنيد عشرات الموظفين وآلاف الساعات من العمل لاستقبالهم وإرشادهم وتسجيل بياناتهم ومراقبة دَخْلِهم، وتسجيلهم رسميًا لدى إدارة الضّرائب، في حين تمتلك القطاعات الأكثر ربحًا وسائل عديدة للإفلات من الضرائب، وذلك بفضل الروابط السياسية والإمكانيات المالية، التي تسمح لهم بدفع رواتب المحاسبين والمحامين الذين يدافعون عنها، والرّشاوى لكبار موظّفي الدّولة…

إن ترسيم العمال غير النِّظَاميين لدى مصلحة الضرائب لا يؤدي تلقائيًا إلى دفع الضرائب، فقد طلب صندوق النقد الدولي تسجيل العمال غير الرسميين في العديد من البلدان الأفريقية لدى السلطات الضريبية، وأظهرت التجربة إن دَخْلَ أكثر من نصفهم لا يبلغ الحد الأدنى المطلوب لتحصيل الجباية وبالتالي فهم مَعْفِيُّون بحكم القانون من تسديد الضرائب، رغم نفقات الحكومات لتسجيلهم ومراقبة إقراراتهم الضريبية، وعمومًا، تَضَرّرَت الفئات الأشدّ فقرًا من استراتيجيات فَرْض الضرائب على القطاع غير الرسمي، بشكل غير متناسب، نظرًا لأن الأعمال غير الرسمية والهَشّة تكون ظاهرة للعيان، مقارنة بغيرها، فالمحامي الذي يعمل كمستشار قانوني لشركة ما، وغالبًا ما يعمل عن بُعد، لا يتعرض للرقابة الضريبية، وما هذا سوى مثال من عشرات الأمثلة الأخرى، فالعدالة الجبائية تتطلب استهداف الأثرياء وأصحاب الدخل المرتفع الذين تظهر عليهم، بالعَيْن المَجَرَّدَة، علامات الثروة ومستوى معيشة مرتفع، من خلال السكن والسيارات الفاخرة ونمط الإستهلاك والرحلات إلى الخارج وما إلى ذلك.

وفي باب الجباية، تفرض البلديات التونسية ضرائب على الشركات والباعة غير الرسميين من خلال مجموعة متنوعة من الأدوات، مثل فرض رسوم على المواقع في الأسواق أو فرض رسوم على “الاستخدام التجاري للأماكن العامة”، ولذلك فإن الأولوية بالنسبة للعاملين في القطاع غير الرسمي هي الحصول على التأمين الصحي والاجتماعي، والإندماج في برنامج حكومي (وجب ابتكاره) لمكافحة الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية.

إفراغ البلاد من مواردها البشرية

تمر تونس بصعوبات اقتصادية خطيرة، ومن مظاهرها ارتفاع الدّين العمومي، وضُعْف أو جُمود النّمو الذي لا يمكنه خلق فرص عمل، ومن نتائج هذا الوضع أن نحو 50% من شباب البلاد يريدون مغادرتها، وفقًا لعدة استطلاعات، وهاجَرَ أكثر من 40 ألف مهندس وأكثر من 3300 طبيب، خلال السنوات الخمس الماضية، إلى كندا أو الدول الأوروبية أو دويْلات الخليج، وفقًا لعدة تقديرات موثوقة، منها عمادة الأطباء، وعمادة المُهندسين وغيرهما، ومنحت ألمانيا رسميًا 2558 تصريح عمل رسميًا للتونسيين سنة 2020، وارتفع العدد إلى 4462 سنة 2021 وإلى 5474 تصريح عمل، خلال عشرة أشهر، بين كانون الثاني/يناير وتشرين الأول/أكتوبر 2022، لأن ألمانيا، أقوى اقتصاد أوروبي، دولة ذات معدل مواليد منخفض للغاية ولديها “احتياجات هائلة من العمالة، في مجالات الصحة وتكنولوجيا المعلومات، والفنادق والمطاعم والإنشاءات وزرع الألياف الضوئية أو قيادة مركبات البضائع الثقيلة “، بحسب مدير مكتب الهجرة ( Get in Germany ) وأنتج ارتفاع الطلب الألماني على الخبرات، ارتفاعًا في الطلب على دورات اللغة الألمانية في تونس خلال السنوات الأخيرة، من قِبَلِ الشباب المؤهلين تأهيلا عاليا والذين يتوقعون أن يحظوا بالاحترام والتقدير وبراتب جيد في بلاد المَهْجَر، خلافًا لما يلاقونه في تونس، حيث يبلغ المتوسط الوطني للرواتب 1000 دينار (حوالي 320 دولارًا)، وتستغل بعض الدّول الأوروبية أو كندا هذا الوضع لاستقطاب العديد من الخريجين الشباب التونسيين (أو من بلدان فقيرة أخرى) عن بعد، أو بعد اختبار يتم في تونس، حيث يتقدّم أضعاف الأعداد المطلوبة من الشباب المؤهلين الذين أنفقت الدّولة مبالغ طائلة لتعليمهم ولتأهيلهم لكي يُفيدوا اقتصاد ومجتمعات سويسرا أو كندا وألمانيا أو غيرها، ويأمل هؤلاء الشّبان والشابّات الحصول على راتب جيد وظروف عمل ومعيشة أفضل، وهي طموحات معقولة ومشروعة، يُفْتَرَضُ أن يتمتعوا بها في بلدهم …

خاتمة

فاقم استيراد المواد الغذائية مع شح العملات الأجنبية الوضع الإقتصادي السّيّء بالبلاد، بينما كانت البلاد تنتج الحبوب والمشتقات الألبان واللحوم، ويمكنها تحقيق الإكتفاء الذّاتي من الإنتاج المَحَلِّي، لولا توجيه سياسات البلاد نحو الإنتاج والتصدير لتلبية طلب الأسواق الأوروبية، وليس لتلبية الطلب المحلّي، وارتهان البلاد، خاصة منذ حوالي خمسة عُقُود للدّائنين وشُرُوطهم المُجْحِفَة والمُذِلّة، وتُشكل هذه السياسات قاسمًا مُشتركًا بين مختلف الحكومات منذ الهادي نويرة (1970 – 1980) حتى السّيّدة نجلاء بودن ( وما هي سوى ناطق باسم الرئيس قيس سعيد)، ولا شيء يوحي باتجاه تغيير هذا التّوجُّه…

تُشكل السياسات الرامية لتحقيق السيادة الغذائية أساس الإستقلال الإقتصادي والخروج من وضع التّبَعِيّة الغذائية، وهي بالأساس قرارات سياسية لا تجرؤ على اتخاذها سوى سُلطة وطنية تقدّمية أو ثورية، وديمقراطية بالضّرورة، لأن تحقيق السيدة الغذائية يفترض مُشاركة الفلاحين عبر جمعياتهم ونقاباتهم ومنظماتهم في إقرار وتنفيذ وتقويم المُخَطّطات والبرامج، ويفترض مُساهمة المواطنين من الوسط الرِّيفي والحضَرِي، بصفتهم مستهلكين لهم رأي بشأن جودة الإنتاج ومُلاءمته لحاجاتهم، ويَفْتَرِض هذا البرنامج تمتين الروابط مع الجمعيات والتعاونيات بالخارج وبمنظمات الفلاحين بالبلدان الأخرى، وتبادل التجارب والخبرات…

من الضروري وضع خطط لتحقيق السيادة الغذائية التي هي أساس الاستقلال الاقتصادي، عبر وضع حدّ لاستيراد المواد الغذائية الأساسية، بالعملات الأجنبية، ووجب التّذكير بأن اتخاذ هذا النّوع من الإجراءات يتطلّب الصّمود وعدم التراجع أمام ما يمكن أن تتخذخ الدّول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارّات من أعمال انتقامية، كما يفترض تحقيق السيادة الغذائية إعداد برامج وخطط ليُساهم صغار المزارعين وصيادو الأسماك ومربو المواشي، من خلال جمعياتهم واتحاداتهم ومنظماتهم، في تصميم وتنفيذ وتقييم هذه الخطط والبرامج، ونقدها وتقويمها، الخ

بالنسبة للطبقة العاملة ، من الضروري ومن المهم النضال من أجل تحسين الأجور وظروف العمل، غير أن القضاء على الإستغلال يتطلب درجة من الوعي الثوري الذي يُحدّد الغرض من الكفاح والنضال في بناء مجتمع يطلب من الجميع جهودًا تعادل قوتهم وقدراتهم، ويُوَفِّرُ للجميع حاجياتهم المادية والثقافية والفكرية. إن الكفاح من أجل الحريات الفردية أو الجماعية، والنضال من أجل ظروف عمل ومعيشة أفضل ÷و أمر مَشْرُوع وضروري ولكنه غير كاف. إنها خطوة في طريق النضال الجماعي والمنظم من أجل مجتمع يُحقِّق العدالة (الاقتصادية والاجتماعية) والمساواة للعمال والشرائح الشعبية، ولكافة المواطنين…

لم تكن ثورة 2010/2011 في تونس (أو في مصر) أول ثورة شعبية فاشلة. لم تتحول إلى ثورة بسبب غياب أداة ثورية ، منظمة غير راضية عن تغيير في الواجهة ولكنها تهدف إلى تغيير النظام ونمط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية … حان الوقت لتعلم الدروس وإعداد الأدوات اللازمة لتحويل “الجولة” القادمة من الثورات الشعبية إلى تغيير للنظام وليس تغيير الناس ، على رأس النظام …

________

تابعونا على:

  • على موقعنا:

https://kanaanonline.org/

  • توتير:
  • فيس بوك:

https://www.facebook.com/kanaanonline/

  • ملاحظة من “كنعان”:

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.

  • عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
  • يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org