“المنطقة الخضراء”… عام جديد

محمد عارف

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1753)

اليوم يبدأ تنفيذ أول خطوة في الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية، وبموجبها تتولى الحكومة العراقية المسؤولية الكاملة عن “المنطقة الخضراء”. وتجنباً للمفاجآت جمع رئيس الوزراء نوري المالكي أفراد قوة الأمن في “المنطقة الخضراء”، وقال لهم إنه قرر اختبارهم بنفسه، ومن يفشل في الاختبار يُطرد من الخدمة. وسأل أوَّلَ واحد منهم: “كم يساوي ثلاثة زائد خمسة”؟ أجاب شرطي الأمن: “ثمانية”. وتعالى صياح أفراد الأمن: “اعطيه فرصة ثانية سيدنا”!.. هذه نكتة، لكنها أكثر معقولية من رمي الأحذية على الرئيس الأميركي في المؤتمر الصحفي داخل “المنطقة الخضراء”.

وأبرز النكات الواقعية بعد واقعة الأحذية، تهريب سيارة مفخخة إلى داخل “المنطقة الخضراء” في الأسبوع الماضي. وهناك أسباب عدة لعجز حكومة المالكي عن تولي مسؤولية هذه المنطقة التي تعتبر مركز ورمز الاحتلال. بعض الأسباب “تقني” يتعلق بعدم توفر الأجهزة الأمنية الإلكترونية. “فالجانب العراقي ليس مهيئاً لبعض المسائل، كإصدار هويات دخول المنطقة الخضراء”. ذكر ذلك عمار طعمة، عضو اللجنة الأمنية في البرلمان، لمراسل صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”. والأسباب “السياسية” للإخفاق أكبر من “التقنية”، فهي تتعلق بتشكيل اللجان المسؤولة عن تنفيذ بنود الاتفاقية مع الولايات المتحدة. “وهذا ما ينبغي أن يتم قبل الحديث عن الشروع في العمل”، حسب قائد قوات الاحتلال الأميركي في العراق الجنرال راي أوديرنو.

أشدُّ العراقيين تفاؤلاً بالعام الجديد أكثرهم تشاؤماً. هذه طبيعة الفرد العراقي الذي يحتال على أسباب التشاؤم بالتفاؤل.

وتواجه حكومة “المنطقة الخضراء” في العام الجديد عواقب أسوأ قراراتها في العام المنصرم. فالمصادقة على الاتفاقية الأمنية مع واشنطن جلبت لها سوء حظ الشخص الحريص الذي تقول عنه نكتة أهل الموصل إنه اشترى ثلاث تفاحات. قضم بأسنانه أول تفاحة فوجدها “فاسدة”، وقضم التفاحة الثانية وكانت “خايسة” أيضاً، فزعق بزوجته طالباً منها إطفاء الضوء: “نريد نأكل تفاح”!

ورواية النكات أجدى من البكاء. فالتفاحة الفاسدة التي حشروها في أفواه البلد كشف عنها قرار “مجلس الأمن” أخيراً تمديد العمل بقرار حماية الأموال العراقية من الملاحقة، حتى نهاية عام 2009. ويُعادُ العراق بموجب هذا القرار تحت ما يُسمى “البند السابع” الذي سجّل به “مجلس الأمن” رقماً قياسياً في التاريخ بعدد العقوبات على بلد واحد، وذلك إثر الغزو العراقي للكويت عام 1990. والله يعلم ما إذا كان حكام “المنطقة الخضراء” قد أطفأوا عقولهم أم ضمائرهم عندما أكدّوا أن الاتفاقية مع الولايات المتحدة تضمن تحرير العراق من طائلة “البند السابع”.

هذا بالضبط عكس ما فعلته الاتفاقية التي وضعت العراق بدخولها حيّز التنفيذ اليوم أمام مطالبات بتعويضات تصل التريليون دولار. ذكر هذا الرقم لأعضاء مجلس الأمن وزير الخارجية، وهو الذي دشّن مع السفير الأميركي في بغداد التوقيع على الاتفاقية، وشاهده العراقيون على شاشات التلفزيون يهرول خارجاً من قاعة البرلمان تلاحقه صرخات استنكار النواب الذين رفضوا الاستماع إلى دفاعه عن الاتفاقية.

ويواجه تنفيذ الاتفاقية الأمنية مشكلات أمنية من نوع لا يحدث إلاّ في مدن تحكمها عصابات المافيا. فالتمييز بين أزياء وشارات وسيارات مختلف صنوف قوات الأمن “حزورة”. ذكر ذلك مراسل شبكة تلفزيون “فوكس نيوز” في بغداد، والذي عرض لقطات عن “شرطة المرور”، و”الشرطة العراقية”، و”الحرس الوطني”، و”حرس الحدود”، و”الجيش العراقي”، وقوات “أبناء العراق”، و”مقاتلي المليشيات”، و”قوات البشمركه الكردية”، وحرس الأمن الخاص بالوزراء، والسياسيين، والأحزاب السياسية.

ولن تتغير هذه الأوضاع بإعلان السيادة على “المنطقة الخضراء” هذا العام. لأن السيادة الفعلية على البلد بما فيه “المنطقة الخضراء” تظل بيد الجهة المسؤولة عن عمليات تفتيت وحدة البلد الجغرافية، وتشظية مكوناته السكانية، وهي سفارة واشنطن، التي تحتل موقع القلب في “المنطقة الخضراء”. وهذه هي الفقرة السرية الحقيقية في الاتفاقية العراقية الأميركية. والمهمة بالنسبة للمثقفين العراقيين الوطنيين ليست رؤية ما لم يره أحد بعدُ، بل التفكير بما لم يفكر فيه أحدٌ عما يراه كل إنسان. فبناية السفارة الأميركية الجديدة، تفوق في الحجم ست مرات مجمع “الأمم المتحدة” في نيويورك، وتحتل أرضاً مساحتها 42 هكتاراً على شاطئ دجلة، إلى الغرب من جسر 14 تموز، ومقابل شارع الكندي، أي في قلب العاصمة العراقية.

وتبلغ كلفة بناء السفارة التي تضم 21 عمارة نحو المليار دولار، ونفقات تشغيلها السنوية المليار دولار أيضاً. وهي مدينة ذات اكتفاء ذاتي، تملك محطات خاصة لخدمات الطاقة والمياه والمجاري، وجميع مستلزمات العيش والترفيه والحماية لنحو ألف موظف، إضافة إلى ثلاثة آلاف مستخدم ومتعهد أمني. واشتهرت السفارة عالمياً باسم “قلعة أميركا”. اسمٌ على مُسّمى يعيد أغبى العهود في تاريخ الدبلوماسية، وهو عهد “دبلوماسية القلاع” الذي عرفته المنطقة خلال الحروب الصليبية. أضاع ذلك العهد الأحمق على أوروبا والعالم العربي قروناً من الازدهار، ولم يملك حتى الحس بالمصالح التجارية، والذي رافق عهد “دبلوماسية المدافع” في القرون اللاحقة.

وإذا كانت واشنطن، حسب ادّعاء خبراء الأمن قد استفادت في بناء سفارتها ببغداد من دروس تفجير بنايات سفاراتها في لبنان وكينيا وتنزانيا، فإنها لم تقرأ الدرس جيداً. فالدبلوماسية ليست عملاً يمكن القيام به من وراء الأسوار المسلحة العالية بواسطة “الريموت كونترول”. تذكر ذلك جين لويفلر، الباحثة في تاريخ العمارة في “جامعة ميريلاند”، ومؤلفة كتاب “عمارة الدبلوماسية: بناء سفارات أميركا”. وفي دراسة عنوانها “قلعة أميركا”، انتقدت لويفلر بمرارة تصاميم سفارة واشنطن في بغداد، وعرضت مخططاتها الهندسية التي سُحبت بعد أيام من عرضها في موقع إنترنت الشركة المتعهدة بالبناء. وذكرت الباحثة أن بناية السفارة المحصنة بأسوار عالية تحجبها عن الأنظار تنذر العراقيين بالمستقبل السيئ الذي ينتظرهم، واستشهدت بالسفير الأميركي الأسبق في العراق إدوارد بيك الذي قال: “ستضم السفارة ألف دبلوماسي مكومين وراء الأكياس الرملية. ولا أعلم كيف يمكن ممارسة الدبلوماسية بهذه الطريقة”!

وأشدُّ العراقيين تفاؤلاً بالعام الجديد أكثرهم تشاؤماً. هذه طبيعة الفرد العراقي الذي يحتال على أسباب التشاؤم بالتفاؤل، والعكس بالعكس.

هكذا أفهم النداء التالي لعادل شَمّو، أستاذ “كلية الطب” في “جامعة ميريلاند”، إلى الرئيس الأميركي الجديد: “أصدِرْ أمراً بتحويل سفارة الولايات المتحدة في بغداد إلى جامعة للعراقيين”.

وذكر العالم العراقي الأميركي في مقالة بصحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” أن السفارة ستظل مصدراً لشعور العراقيين بالمهانة، ويمكن أن تصبح بسهولة هدفاً لأعمال العنف ولكل من يعادي أميركا. وقال إن “تحويلها إلى جامعة سيقدم رمزاً باهراً لنية أميركا الطيبة تجاه العراق، ويشكل خطوة عملاقة للمصالحة مع العراق”.

هل يستجيب الرئيس باراك أوباما لهذا النداء؟!