طبيعة التنسيق الأميركي الروسي في سورية وانعكاسه على معركة حلب

العميد د. امين محمد حطيط

منذ ان قررت روسيا الدخول علانية الى الميدان السوري تلبية لطلب حكومي بتقديم مساعدة عسكرية ميدانية لمحاربة الإرهاب من ذاك الحين بدأ الحديث ولازال عن تنسيق عسكري بينها وبين قوات التحالف الدولي الذي تقوده اميركا منذ اب 2014 التحالف الذي أنشئ حسب الزعم الأميركي لمحاربة داعش في العراق وسورية.

و كان منطقيا حسب قواعد العلم العسكري ان نفترض مسارعة الفريقين الروسي من جهة و القوى المنضوية في التحالف الدولي الأميركي من جهة ثانية للتواصل من اجل إرساء تعاون عسكري يمنع تصادم القوى أولا ثم يفعل  المواجهة مع الإرهاب للحصول على افضل النتائج  في محاربته ، عملا بقواعد التنسيق العسكري بين القوى المختلفة التي تعمل في ساحة او ميدان واحد حيث يكون التنسيق في  حده الأدنى سلبيا غايته منع الاحتكاك و التصادم و التأثير السلبي على عمل القوى ، و يكون في حده الأعلى تنسيقا إيجابيا هدفه تكامل عمل القوى و توزع المهام فيما بينها للاقتصاد  بالجهد من جهة و تسريع التنفيذ و تسهيله  من جهة ثانية . ويكون التنسيق السلبي إلزاميا إذا رغبت القوى بتجنب المواجهة فيما بينها، اما التنسيق الإيجابي فلا يكون الا إذا عندما تكون القوى متفقة على الأهداف البعيدة للعمل العسكري المتمم من قبلها.

و في الميدان السوري ظهرت  منذ البداية  رغبة لدى الطرفين الأميركي و الروسي بتفادي الصدام ، و لذلك و رغم الامتعاض الأميركي الشديد من دخول روسيا الى  الميدان دعما  للجيش العربي السوري خلافا لما تريد اميركا فقد وجد الطرفان نفسيهما غير معنيين باي مواجهة بينهما لا بل وجدا انفسهما ملزمين بالتنسيق السلبي الذي يحول دون أي احتكاك ، و بالفعل حصل ذلك و كان اتفاق يحقق هذه الحاجة و كانت  روسيا تأمل ان تلتزم كل القوى المنضوية في التحالف الدولي بقواعد ذاك الاتفاق لكن البعض لم يفعل كتركيا التي ارتكبت جريمة اسقاط الطائرة الروسية فوق الأراضي السورية  على بعد 4 كلم من الحدود التركية ، في عدوان  شكل دليلا على الحاجة الملحة لأجراء التنسيق السلبي المعنى المذكور .

ان روسيا التي قدمت الى سورية لتحارب الإرهاب بجدية وصدق في العمل، طالبت اميركا برفع مستوى التنسيق حتى بلوغ المستوى الإيجابي والتعاون الفعلي في الميدان، فما كان من اميركا الا الرفض وهو امر لم يكن مفهوما لدى من صدق اميركا في إعلانها انها أنشأت تحالفها من اجل محاربة الإرهاب.  لكننا ومنذ الأيام الأولى كنا نرى ان اميركا التي تستثمر بالإرهاب لا تريد محاربته ولا تقبل ان يجتث من المنطقة، وكيف تقبل ذلك وهو جيشها السري الذي تعول عليه لتنفيذ مشاريعها العدوانية الاستعمارية ضد المنطقة.

ان اميركا وروسيا على طرفي نقيض في مسالة الإرهاب ما يمنع التنسيق الإيجابي بينهما، فأميركا تستثمر بالإرهاب وتتظاهر بمحاربته وروسيا تحارب الإرهاب وتقوم بمؤازرة الجيش العربي السوري في الحرب التي يشنها بلا هوادة ضد الإرهاب، وبالتالي فان هذا التناقض في الرؤية والأهداف بين الطرفين يمنع الوصول الى التنسيق الإيجابي بينهما في الميدان ولهذا رفضت وتستمر اميركا في رفض هذا التنسيق مع روسيا وطبعا مع الجيش العربي السوري وحلفاؤه. ان الرفض هذا عائد لهذا التناقض أصلا وليس لما يقال-رغم أهميته-لرفض اميركا التموضع في خندق واحد مع حزب الله وإيران والرئيس بشار الأسد في مواجهة الجماعات المسلحة التي تسمي بعضها معارضة معتدلة.

ولهذا كانت اميركا سعيدة جدا بما توصلت اليه مع روسيا من اتفاق بعد ان اتخذت روسيا قرارها بتقليص الوجود العسكري الروسي في الميدان السوري من باب وقف العمليات العدائية او الهدنات المتلاحقة بدءا من شباط الماضي ، حيث وجدت ان تراجع الوجود الروسي في الأجواء السورية يعفيها حتى من التنسيق السلبي الذي يصبح مع خلو الأجواء من الطائرات الروسية من غير مضمون او منتقي الأسباب  ، لكن الأسابيع الأخيرة شهدت في الميدان ما  يخالف ما تشتهيه اميركا خاصة في العمليات العسكرية المهمة لتي ينفذها الجيش العربي السوري في اطار ما بات متعارف على تسميته “معركة تحرير حلب الكبرى” .

ففي هذه المعركة التي ترمي الى تحرير حلب و منطقتها من الإرهاب وفقا لما وعد به الرئيس الأسد فقد نفذت القوات السورية و حلفاؤها في معسكر الدفاع عن سورية و مكافحة لإرهاب المرحلتين الأولى و الثانية بنجاح و لم يتبق الا خطوات بسيطة تنطلق بعدها القوى لإنجاز المرحلة النهائية من معركة حلب ، و حتى الان لم تنجح كل المناورات و الضغوطات الأميركية الرامية في ثني سورية عن تنفذ قرارها ، ثم جاءت التطورات التركية و ما اعقبها من بدء انكفاء تركي اضطراري عن الميدان لسوري  و الذي بدأت طلائعه بسحب بعض ضباط المخابرات الاتراك من منطقة حلب ،جاء كل ذلك  ليرفع من درجة القلق الأميركي حول حلب التي تحولت كما وصفناها منذ بدء التخطيط لمعركتها الكبرى بانها تحولت الى ميدان مختصر يختزل كل الازمة السورية التي تختزل الصراع الكوني حول النظام العالمي الجديد .

ولهذا ترى اميركا ان افلات ورقة حلب او خروجها من حلب عبر اخراج الإرهابيين منها سيجعلها في موقع ضعيف جدا لا يمكنها من الحصول على أي شيء يرضيها في السياسة، فضلا عن صعوبات جذرية تمنعها عن تحقيق ما ترغب به في سورية بالعمل العسكري المضمون النتائج.

من اجل ذلك ارتضت اميركا ان تطور تنسيقها العسكري السلبي مع روسيا ليلامس شيئا من التسبيق الإيجابي عبر الاتفاق الأخير الذي قيل ان كيري ولافروف توصلا اليه والقاضي بتزويد اميركا روسيا بمعلومات استخبارية جدية لمساعدتها في تعقب داعش وضربها في سورية، مقابل التزام روسيا بالامتناع عن استهداف مجموعات مسلحة في حلب ومحيطها تقول اميركا انها معارضة معتدلة، في سعي تضمر اميركا من خلاله للالتفاف على معركة حلب وإبقاء هذه المجموعات في أماكنها في داخل حلب المدينة وفي ريفها أيضا.

اما سورية و التي  هي صاحبة القرار النهائي بالشأن فأنها كما يبدو واضحا من تصرفاتها تريد ان تخرج حلب من دائرة الإرهاب و الاجرام و هي بعد ان حاصرت المسلحين في الاحياء الشرقية لحلب لن تقبل و تحت أي ظرف من الظروف ببقاء جزر مسلحة في المدينة خارجة على القانون تحت أي شعار او مبرر ، و قد جاءت جريمة قتل الطفل العيسى على يد مجموعة نورالدين زنكي الإرهابية و التي ترعاها تركيا و تصفها اميركا بالمعتدلة و تريد ان يشملها قرار التحييد ، جاءت جريمة قتل الطفل لتعزز الموقف السوري و تفضح مرة أخرى اميركا في سياستها .

اننا نرى ان اميركا التي فشلت في معركة حلب في إطار خطة التقسيم التي أطلقتها بعد 15 نيسان ابريل 2016، والتي فشلت في الضغط على سورية لوقف انطلاقها الى تحرير حلب، ستفشل مرة أخرى في مناورتها للتنسيق الأمني او العسكري المزعوم الذي تهدف منه حماية الجماعات الإرهابية في حلب ومحيطها، لان معركة تطهير حلب ستتابع قدما حتى تحقيق المراد وقد لا يكون من مسالك امام ارهابييها الا واحد من ثلاثة:

–    الأول الاقتناع بان معركتهم خاسرة وعليهم عدم الإصرار على القتال وبالتالي اللجوء الى حل سياسي يشبه حل حمص او الزبداني بحيث يربح المسلحون سلامتهم الشخصية وتربح الاحياء الحلبية امنها وسلامتها ايضا مع حريتها،

–    والثاني القيام بمغامرة القتال لفك الطوق والهرب مع ما يمكن اخذه مما خف حمله وغلا ثمنه،

–    والثالث القتال المستميت والتمسك بالمواقع في حلب حتى المسلح الأخير وهو الحل الأسوأ الذي سيؤدي الى مزيد من القتل والتدمير.

 اما التعويل على الاتفاق الأمني المتسامع به للتنسيق بين اميركا وروسيا لحماية بعض المسلحين ومنع اكمال تطهير حلب منهم فهو رهان خاسر، لان سورية التي اتخذت قرار التطهير والتحرير في ظروف كانت أصعب مما هي عليه الان، لا يمكنها ان تتراجع عن قرارها بعد ان باتت الظروف المحلية والإقليمية أكثر إيجابية لصالحها؟

:::::

“الثورة”، دمشق